ملخص
صراع السرديات حول إرث الحرب العالمية الثانية يعكس احتدام التوتر بين روسيا والغرب، بينما يسعى بوتين عبر عرض يوم النصر إلى تأكيد عدم عزلة بلاده بتحالفات كبرى مع الصين ودول الجنوب. الغياب الغربي والحضور الشرقي كشفا عن تحوّل جيوسياسي متسارع يعيد رسم خريطة الاصطفافات العالمية.
لم يكن العداء بين بريطانيا وروسيا على هذا القدر من الحدة منذ حرب القرم. ومع ذلك، فإن قاسماً مشتركاً يجمع بين البلدين، بعد أن حرص كل منهما على تذكيرنا بإرث الحرب العالمية الثانية.
فصحيح أن الاحتفالات الرسمية بـ"يوم النصر في أوروبا" [لدى الغرب]، أو بـ"يوم النصر" [في روسيا]، قد تثير حفيظة المتشائمين، لكن عامة البريطانيين، شأنهم شأن الروس العاديين، يحتفظون بذاكرة شعبية صادقة عن التضحية الوطنية والتضامن.
بطبيعة الحال، يجري استغلال هذه المشاعر بشكل فج في دعاية الكرملين. فقد شدد الرئيس بوتين في خطابه خلال عرض يوم النصر في الساحة الحمراء على "الاستمرارية" بين ما يسميه "العملية العسكرية الخاصة" (غزو أوكرانيا) وبين الحرب ضد قوات هتلر الغازية بعد عام 1941. إن الرواية التي يروج لها الكرملين، ومفادها أن أوكرانيا اليوم تحت سيطرة نازيين جدد، تمثل تحريفاً فاضحاً للواقع. بل إن أي نزعات نازية جديدة موجودة هناك تتعزز بشكل مشوه بسبب الغزو الروسي الوحشي.
أما الملك تشارلز، فقام في كلمته الخاصة بـ"يوم النصر في أوروبا" بتوجيه انتقاد غير مباشر إنما واضح لدعاية بوتين، حينما شدد على أن الدرس الأخلاقي الممكن استنباطه من الحرب العالمية الثانية – من وجهة نظر بريطانيا – هو أن حفظ السلام ضروري. وفي هذا السياق، وربما كان من شأن إرسال أحد أفراد العائلة المالكة البريطانية البارزين لتحية المحاربين الروس القدامى أن يُفشل محاولة بوتين تصوير الغرب اليوم على أنه وريث للمسترضين لهتلر، لا لتشرشل.
تراجعت أوكرانيا عن تهديداتها باستخدام الطائرات المسيرة لتعطيل احتفالات موسكو، على رغم أن الضربات الروسية بالطائرات المسيرة استمرت حتى ساعات قليلة قبل العرض. ومع ذلك، فإن قيام السلطات بحجب الإنترنت والإشارات الهاتفية في موسكو خلال العرض كان دليلاً على مدى الجدية التي تعامل بها الكرملين مع خطر التخريب الأوكراني المحتمل.
لكن اليوم مر بهدوء بالنسبة إلى بوتين.
وبالفعل، استعرضت روسيا قدراتها العسكرية، واعتلى المنصة، إلى جانب بوتين، عدد كبير من رؤساء الدول والحكومات، وقد وصل عددهم إلى 29، والتقطتهم عدسات الكاميرات التلفزيونية الروسية، في رسالة إلى الخارج مفادها أن روسيا ليست معزولة ووحيدة.
وقد يكون التجاهل الغربي ليوم النصر الروسي قد حقق مكاسب داخلية لبوتين، إذ يسود شعور بالاستياء داخل روسيا من الطريقة التي أُقصي بها دور الجيش الأحمر في سحق آلة الحرب النازية من السردية التاريخية الشائعة في الغرب.
وكانت رمزية الحضور الدولي الواسع لافتة، إذ كان الرئيس الصيني شي جينبينغ في مركز المشهد، بعد توقيعه اتفاقية تعاون شاملة جديدة مع بوتين. فالصين تُعد العمق الاستراتيجي لروسيا في مواجهتها مع الغرب، تماماً كما تُعد روسيا قاعدة موارد للصين في تنافسها مع الولايات المتحدة.
بيد أن حضور الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إلى جانب عدد كبير من القادة الأفارقة، كان دليلاً على مدى التحول الذي شهدته مناطق كانت تُعد في عام 1945 ضمن الحلفاء الغربيين - من أميركا اللاتينية والمستعمرات السابقة – نحو موسكو وبكين، بعيداً من واشنطن ولندن وباريس.
وقد مدّ بوتين غصن زيتون للغرب، لا سيما الولايات المتحدة، بتسليطه الضوء على دور إنزال النورماندي "D-Day" في فتح "جبهة ثانية" ضد ألمانيا النازية وتسريع هزيمة هتلر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الواضح أن بوتين كان يتمنى لو كان الرئيس ترمب – وملك بريطانيا أيضاً – واقفين إلى جانبه، إلى جانب الرئيس شي، ليُظهر روسيا في قلب النظام العالمي.
ومع ذلك، فإن مجرد حضور الصين ودول مجموعة "بريكس" يمنح بوتين أوراق قوة حقيقية – لا سيما في ظل السياسات الاقتصادية التي يعتمدها ترمب، والتي تسهم في تقويض نفوذ الولايات المتحدة من خلال حرب الرسوم الجمركية التي يشنها على حلفائه، بدءاً باليابان ومروراً بكندا ودول الاتحاد الأوروبي، التي أسهمت ثرواتها، حتى تاريخه، في تعزيز الهيمنة الأميركية.
وصحيح أن بعض الأحداث الكبيرة، التي تحمل طابعاً رمزياً، سرعان ما تضيع في غياهب النسيان. بيد أن الحرب الكلامية، في موضوع إرث الحرب العالمية الثانية بين القوى العظمى اليوم، توحي بأن خطوط المواجهة المستقبلية بدأت تتشكل.
وبالتالي، قد تنبئ هوية الحاضرين في عرض بوتين في موسكو، وهوية الغائبين عنه، ما يمكن توقع حصوله في الغد القريب.
© The Independent