Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بيت الجاز" رواية تصخب بأحداث دامية

نورا ناجي ترصد معاناة النساء في مواجهة واقع مصري متفجر

لوحة للرسامة المصرية أميرة أيوب (صفحة الرسامة - فيسبوك)

ملخص

في سرد تتقاطع فيه الحقيقة مع التخييل تبحر الكاتبة نورا ناجي عبر روايتها "بيت الجاز" في حكايات ثلاث نساء انطلاقاً من حادثة مركزية وقعت لمولود تم إلقاؤه من نافذة حمام أحد المستشفيات في موازاة أحداث ثورة الـ25 من يناير المصرية مع استدعاء أحداث دامية شهدتها الساحة عربية منها الحرب على غزة.  

تتجول نورا ناجي بين مآسي بطلات روايتها "بيت الجاز" (دار الشروق - القاهرة)، لكنها لا تمنح أياً منهن صوت السرد، وإنما تمنحه لراوٍ عليم خارجي، لتحقق عبر صوته نوعاً من العدالة السردية بينهن، وتتيح في الوقت نفسه وحدة النص عبر توحيد نغمة السرد، من دون التقيد بمقتضى الحال. وإضافة إلى ما حققته ناجي عبر هذا الأسلوب من موضوعية، فإنها تحررت من ذاتية الشخوص، التي ربما قادت إلى تبرير الزلات وتجميل الخطايا. وتمكنت من توجيه إدانة أكثر شمولاً واتساعاً لمجتمع اعتاد مواراة عاره بالتكتم والصمت.

 ولم يتضح تقاطع الواقع والخيال عبر انطلاق السرد من حادثة حقيقية، أو عبر بروز الحقيقة كعنوان لكثير من فصول الرواية فحسب، ولكن هذا التقاطع بين الحقيقي والمتخيل، بدا على نحو أكبر مع اعتماد الكاتبة أسلوب الميتا سرد، أو الرواية داخل رواية، فكانت الكاتبة "رضوى"، واحدة من شخصيات النسيج، والمنوطة في الوقت نفسه بالكتابة ونسج الأحداث. وعبر هذه التقنية، التي تعبر عن وعي الكتابة بذاتها، كسر الجدار بين النص والقارئ، فبات مشاركاً في لعبة السرد.

تناظر السقوط

خالفت الكاتبة الزمن الحقيقي للحادثة، واختارت لها "يناير 2011" لتُزامن بين سقوط المولود من النافذة سقوط الشباب الثوار قتلى في الميادين، وبذا أبرزت منذ بداية رحلتها، قسوة العالم الذي يزهق الحيوات بغير اكتراث. وشرعت في سد الفجوات، واستكمال الأجزاء الغائبة من الحكاية، فالأم التي دان المجتمع فعلتها في الواقع، لم تكن في الرواية سوى ضحية أخرى، فهي طفلة صغيرة "مرمر"، لم تتجاوز الـ13 من عمرها. تعيش في بيت الجاز، بين عائلة تمثل طبقة من المهمشين، الذين يعانون الفقر في زمن لم يعد فيه "الجاز" سلعة رائجة. يعتدي العم الأعزب والعاطل عن العمل على ابنة أخيه، فتحمل "مرمر" من دون أن تعي ما حدث لها. وتلجأ العائلة التي تفشل في إجهاض الطفلة، إلى توليدها في حمام المستشفى الجامعي، ثم إلقاء المولود من النافذة. هذا السقوط لم يكن من نصيب الطفل وحده، ولم تتجرعه الأم المغتصبة وحدها، إذ تشاركته البطلتان الأخريان، وخلف كل سقوط نسجت الكاتبة أسباباً وأحداثاً، كشفت من خلالها سوءات المجتمع، وما يعتريه من قسوة، وعطب: "الكتابة أقسى من الحياة. في الحياة سيسقط الطفل من الشباك، وسيلتقطه رجل ما، وسينجو، سيجد من يرعاه. الحياة أرحم من الكتابة، لأنها في الكتابة لن تفكر كثيراً في الطفل، بل ستبحث عن أصل الحكاية. عن القسوة التي أدت إلى الفعل، عن البطن التي لفظت واليد التي ألقت، والأرجل التي ركضت هاربة، ستتقصى رضوى عن الهشاشة، عن الشر الذي يلف العالم. الشر يخفي كل اليأس" ص 28. 

 أبعاد سيكولوجية

عمدت الكاتبة في رحلتها إلى بلوغ الطبقات الأعمق من النفس الإنسانية والغوص في متاهاتها المعتمة، المكتظة بالتوتر، والقلق، والهشاشة، والاضطراب. وجسدت رغبتها المحمومة في الخلاص، التي إما تتولد عن أزمة أو تخلقها، فكان ما شهدته "يمنى" في طفولتها من اعتداء جنسي على "مرمر"، ثم مشاهدتها للفتاة وهي تشعل النار في جسدها، سبباً في اضطراباتها النفسية والجنسية وما ألم بها من انحراف سلوكي، سيكوباتية وافتقار للأمومة والعاطفة، وكذلك الشعور العميق بالذنب، الذي دفع بها في النهاية للسقوط في براثن الخطيئة: "منذ رأت جسم زيزو فوق مرمر عبر شباك البيت وهي تشعر بشيء ما يأكلها من الداخل. شيء ملح يدفعها لفعل أمور لا تفهمها ولا تدري حتى بأنها تفعلها" ص40. أما الحقيقة التي أعلنتها أم رضوى لابنتها، بأنها طفلة متبناة، ومعاملتها كحيوان أليف، من دون صرامة تقتضيها التربية أحياناً، فخلقت لديها شعوراً بالاغتراب واللاانتماء، في حين لجأت أم يمنى للإنكار، كمحاولة للتواؤم مع انتهاك زوجها لجسدها، بالضرب، وهي مشاهد أسهمت بدورها، في زيادة الاضطراب النفسي، الذي لازم ابنتها في كل مراحل حياتها. وقد مررت الكاتبة عبر كل ما أودعته النص من ظلال نفسية، رؤية حول الأثر الخطر للطفولة، في تشكيل حياة الإنسان.

 واتساقاً مع الحضور القوي للبعد السيكولوجي داخل السرد، لجأت ناجي إلى بعض التقنيات السردية، مثل المونولوغ الداخلي، الذي ورد بضمير الخطاب "أنت"، ليعكس تشظي الشخوص، وصراعاتها الداخلية، إضافة إلى تقنيات الانزياح الزمني، إذ جمعت في أسلوب السرد بين التذكر، والتدفق الأفقي، والمفارقات الزمنية: "ستسير مرمر بين أمها وعمتها، بسرعة حتى لا يوقفهن أمين شرطة متجول ويسألهن عن سبب وجودهن في الشارع مساءً على رغم حظر التجوال. ستبتلع ريقها لتسقي السحلية داخلها، السحلية التي تقول أمها إنها طفل ينمو في بطنها، وأن الأوان قد فات لفعل أي شيء" ص44. وأسفر هذا التنوع والانزياح الزمني، عن خلخلة الزمن الخطي للسرد، وعزز حال القلق، وفقدان السيطرة التي تعيشها الشخوص.

اتساقاً مع محاولتها الوصول إلى الطبقات الأعمق من النفس، وظفت الكاتبة تقنيات الوصف، لا لتصوير المكان والشخوص وحسب، وإنما لتجسيد الحالة الشعورية لبطلاتها، فنقلت حال الهزيمة والفراغ الذي خلفه مشهد احتراق "مرمر" لدى يمنى، القلق والضغط الذي تسببه الكتابة، والفقد والخواء الذي يتركه الموت عندما يأخذ الأحباء. وفضلاً عما أتاحته من سمات بصرية، عمدت لاستنفار حواس أخرى، مثل الشم، والسمع، عبر استدعاء رائحة الجاز، الروث، الهواء المترب. وكذلك أصوات الصراخ، والضجيج، والسباب. واستفادت من طاقاتها الرمزية، في تمرير دلالات تحيل إلى الطبقات الاجتماعية، التي تنتمي إليها الشخوص، ولا سيما الطبقة المهمشة.

ثيمة القسوة

بدت القسوة ثيمة رئيسة عبر كل القضايا، التي رصدتها الكاتبة، وكان من بينها قضايا وثيقة الصلة بالمرأة، إذ رصدت ما تتعرض له من تحرش واغتصاب، عنف، وتهميش، وقهر، واضطهاد: "على صفحات (فيسبوك) تعليقات متبوعة بوجوه صفراء تضحك حد البكاء، يسخرون فيها من امرأة فازت بجائزة لأنها لا ترتدي الحجاب، ويسبون فيها أخرى لأنها تحمل ملامح ذكورية، أو تمارس رياضة عنيفة، تعليقات تشجع شاباً قتل أخته، أو رجلاً ضرب فتاة في الشارع، أو شاباً ذبح طالبة أمام الجامعة، لأنها رفضت الارتباط به" ص 155.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 كذلك تطرقت إلى قضايا شائكة أخرى مثل الإجهاض، والأقنعة الاجتماعية الزائفة، والتفاوت الطبقي، والفقر، والأدوية المغشوشة، وحوادث الطرق، واستشراء الجريمة والفساد، وسلبية المجتمع في التعامل مع الجرائم والمجرمين، وسطحيته في التعامل مع البشر: "الناس لا يحترمون سوى الجمال ولو كان غلافاً لروح مشوهة، يحتقرون القبح ولو كان غطاء لأجمل روح في العالم" ص90. وعبر شخصية الكاتبة "رضوى"، طرحت ناجي كثيراً من قضايا الكتابة والإبداع، مثل إحباطات الكاتب، والمقارنات، والحروب المستمرة في أوساط المثقفين، والاتهامات الكاذبة، إضافة إلى الآثار الجانبية للكتابة، التي تحرم الكاتبة من أن تحب، وأن تحيا حياة عادية، في مجتمع موسوم بالذكورية المتجذرة. وإمعاناً في إبراز قسوة العالم، استدعت الكاتبة مشاهد من غزة، لأطفال ميتين، ومستشفيات محترقة، وطفلة محاصرة بين الجثث، تتوسل نجدتها، لكنها لا تحصل إلا على الموت.

حاولت الكاتبة تشكيل كولاج أدبي، عبر التناص مع أعمال أدبية مهمة، مثل رواية "المسخ" لكافكا، "الغريب" لألبير كامو، ومع شعر محمود درويش. وبدا تضافر ما استدعته من هذه الأعمال، مع ما مررته من معارف، ولا سيما عن مرض الجذام، ومرض السكري، في إنتاج المعنى، وتكثيف الدلالة، التي دائماً ما تحيل إلى قسوة العالم ووحشيته. وعبر ما فجرته من قضايا، رصدت صوراً من التناقضات، تجمع بين الحاضر والماضي، والجمال والقبح، والرقة والقسوة، والراحة والألم، والسعادة والحزن، والخير والشر. ومررت رؤى حول مسؤولية ذلك التناقض عن تحقيق توازن الكون. كما رصدت أنماطاً من التحول، أثمرت اندثار تجارة الجاز، وتلاشي بعض الحرف والورش، وتغير سمات الشوارع والمدن، نتيجة التوسع العمراني. وإضافة إلى التحولات المادية، رصدت تحول مشاعر الشخوص، مثل تحول شعور "رضوى" من الإثارة إلى الملل، مع تكرر رحلاتها عبر القطار، وتحول "يمنى" من الشعور بالذنب إلى التصالح مع ذاتها، وكذلك تحول الأحلام، والأعمار إلى الشيخوخة، ثم إلى الزوال.

التقطت الكاتبة بعض أوجه التماثل بين بطلة روايتها "مرمر"، وأبطال الأفلام، وأيضاً أبطال الواقع، مثل "بوعزيزي" مفجر الثورة التونسية، والجندي الأميركي الذي أحرق نفسه، اعتراضاً على قتل الأطفال في غزة، فجميعهم اختاروا النار وسيلة للاحتجاج، والتعبير عن الغضب. وكانت النار ذاتها ومشاهد الاحتراق، مدخلاً سلكته الكاتبة، لتمرير أسئلتها الوجودية، حول معنى الحياة، ماهية الموت، وأسئلة المصير، التي يثيرها قدر، يختار للبعض الهامش، بينما يرفل آخرون في النعيم. وقد هيمن الموت كسمة ما بعد حداثية على السرد، سواء في صورته الطبيعية أو المجازية، حاملاً رؤى فلسفية، حول هشاشة الوجود الإنساني، وحتمية الفناء، وإن لم ينفِ تعطش الإنسان للأمل، ورغبته في الاستمرار.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة