Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نورا ناجي تروي سنوات السير وراء هزيمة جماعية

روايتها الجديدة تعيد الاعتبار إلى المهمشين الذين لا يذكرهم أحد

غرافيتي على أحد الجدران في القاهرة (سوشيل ميديا)

تبقى الثورة المصرية التي اندلعت بأجمل صورة في ميدان التحرير في مصر عام 2011، كابوساً لدى البعض، وأجمل اللحظات لدى الغالبية. لم يكن الثمن الباهظ لتلك اللحظة مؤرقاً في البداية منذ أكثر من عقد، فالأمر يستحق بناء حياة جديدة. إلا أن هذا الثمن تحول إلى مجرد خسائر لا يمكن تعويضها في أي شكل، لو لم يكن الارتواء من لحظة 25 يناير (كانون الثاني) قد حصل، لكان من الجائز عدم الالتفات إلى خسائر، لكن المعرفة نقطة فاصلة، ما بعدها ليس أبداً مثل ما قبلها، في غمار الحماسة والانفعالات ومحاولة الإمساك باللحظة، ظهر مصطلح أدب الثورة في وقت مبكر للغاية، ولم تكن هناك قوة قادرة على الدعوة للتمهل والمراجعة، ولا يمكن الكتابة عن حدث بهذا الحجم سوى بعد الابتعاد من الصورة بمسافة كافية. جاء أدب الثورة توثيقاً للوقائع، وهو أمر مشروع في سياسات الذاكرة، وطوفاناً من الشهادات والقصائد من أجل ربط الشخصي بالعام، وإحصاء لأعداد الشهداء والمفقودين. وانتهى الأمر إلى إحصاء دقيق للهزائم. كشفت الهزيمة الجمعية عن كم هائل من الهزائم الشخصية، وهذه الأخيرة هي التي تشكل التاريخ الاجتماعي لبشر لا يهتم بهم التاريخ، ولا تمثل مفردات حياتهم اليومية أي عنصر جذب للسردية الرسمية.

كتبت رشا عزب رواية "قلب مالح" (كتب خان، 2022) وكأنها كانت تكتب عن ذاتها والآخر، عما فعلته الثورة بمجموعة من الشخصيات "العادية" نفسياً ومجتمعياً وفكرياً. إنها تلك الشخصيات التي وجدت نفسها فجأة في عالم جديد وقاس و"مالح" لا يتحدث لغة مفهومة، كذلك تفعل نورا ناجي في روايتها "سنوات الجري في المكان" (الشروق، 2022). يقوم بناء الرواية على شخصية حقيقية مأخوذة من الواقع، الفنان الشهيد أحمد بسيوني الذي تلقى رصاصة في ميدان التحرير في 28 يناير مات على إثرها، لا تمنح نورا ناجي تلك الشخصية اسماً مغايراً فقط (سعد بيومي)، بل تمنحها حياة كاملة، كعائلة وأحلام مستقبلية وأب فقد حياته في غرق سفينة سالم إكسبريس عام 1991، سعد بيومي شخصية متفردة للغاية، وفي الوقت ذاته قد يكون شبيهاً لآلاف الشخصيات التي نقابلها في الشارع ولا نتذكر وجوهها.

 

بهذا تعيد الكاتبة الاعتبار للمهمشين والمنسيين والعاديين، الذين لا نسمع عنهم ولا يأبه بهم أحد، يعرض سعد بيومي مشروعه بعنوان "سعد بيومي 30 يوم جري في المكان"، وهو مشروع تفاعلي متعدد الوسائط عرض بالفعل عام 2010. يجيء مفتتح الرواية على صوت سعد الراقد في المشرحة، فالسرد الذي يقدمه هو مفتتح للنص بأكمله وتبرير درامي له، الآخر هو صوت الحاضر بقوة، صوت ملحمي يبدأ من منتصف الأحداث، لندرك في النهاية أن صوته هو البداية، الرصاصة التي أنهت حياته فعلياً، وأنهت حياة الآخرين: يحيى الشاعر وزوجته ياسمين الطبيبة، صديقه الفنان مصطفى ونانا.

رصاصة أنهت حياة سعد الذي كان يحاول أن يجد لنفسه موقعاً آدمياً في عالم موحش، فألحقت هزائم متتالية ومتراكمة بكل من حوله، من هذه الهزائم الشخصية التي تتسع دوائرها تتشكل الهزيمة الجمعية النفسية وهي أقسى بكثير من مجرد هزيمة سياسية. فالهزائم الشخصية تظهر بفجاجة في النص، تماماً كما هي في الواقع الذي استلهمه النص شعورياً، هزائم تتضمن محاولات عديدة للهروب من الهزيمة الجمعية كما فعل يحيى (الشاعر الثوري) عندما اتجه إلى فن السوق التجاري وتغييب العقل، أو نانا التي ألقت بنفسها في زواج كمحكوم عليه بالفشل منذ اللحظة الأولى لتغادر البلد، أو ياسمين التي أجبرت على التوقيع على تقارير طبية كاذبة خاصة بموت الثوار ففقدت عقلها، أو مصطفى الذي أصابه هوس الإمساك بالصوت فلم تعد دنياه التي غاب عنها سعد، سوى جهاز تسجيل لا يعني أي شيء، سوى أن تتركه نانا في لحظة احتقار شديدة لتلقي بنفسها في نفق مظلم.

تجليات الواقع

 

من أصعب أشكال التخييل الكتابة عن الواقع واستلهام تجلياته، وغالباً ما تسقط الكتابة في التوثيق الذي لا يفتح أي أفق مختلف عما يعرفه القارئ. لا تلجأ ناجي إلى السرد الخطي التوثيقي، فهي تعقد منذ البداية اتفاقاً ضمنياً مع القارئ، الذي كان جزءاً من الجموع المنسية، وتراهن على تواطئه تماماً كما فعل سعد بيومي (أحمد بسيوني) في معرض" 30 يوم جري في المكان"، إذ لم يحتج أن يشرح مغزى التركيب الفني للمتفرج. في الوقت ذاته لا تستخدم ناجي مفردة الهزيمة، بل ترسم شكل الهزيمة عبر استنفار الحواس بأكملها، المذاق والبصر والسمع والإحساس والصوت والرائحة واللمس والألوان (لو كانت فقط استغنت عن العناوين!)، في حشد ينضح بانهيار الأمل واستحالة النجاة، لم ينج أحد، بما في ذلك كاتبة هذا المقال.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما المغامرة الثانية، فكانت اللجوء إلى خلق أشكال فنية لتستعيض عن السرد التقليدي. فبدلاً من منح يحيى الشاعر صوتاً يشرح هزيمته، قدمت ناجي مسرحية من تأليف يحيى ذاته، وكأنها أحد الأعمال التي يكتبها للسوق، لأنها تعكس تماماً ما وصل له يحيى، بحيث تتداخل حياته ما قبل مع التداعي الذي وقع.

 أما نانا (التي تختتم بها الرواية)، فهي تسعى إلى كتابة رواية، وفي سعيها هذا تقدم ما يشبه الدليل الذي يمكنه أن يقود القارئ في متاهة الهزيمة. فإذا كان استدعاء الحواس في النص يعمل بمثابة خطاب سردي قائم على الترميز، فإن دمج أجناس أدبية داخل جنس الرواية يعمل بمثابة القناع الذي تتكلم من خلفه الشخصيات وتواجه الذات بواقع لا يمكن احتمال ألمه، كما واجه هاملت ذاته عبر المسرحية التي جاءت داخل المسرحية.  

في محاولتها لكتابة رواية، تتأمل نانا البناء وتطرح خمسة خيارات قد يظن القارئ أن نورا ناجي قد انحازت لخيار واحد منها، ليدرك أن كل الخيارات مفتوحة ومطروحة، تلك التعددية في قراءة الواقع وإعادة سرده وتأويله وتفسيره، هو الإنجاز الذي يحسب لناجي، وهي بارعة فيه منذ أن تمكنت من استنساخ كاميليا في "أطياف كاميليا" (2019).

وأخيرا، "ربما يكون سعد هو الوحيد المتحرك إلى الأمام، أو أن موته يجعله غير ثابت، بينما الآخرون متجمدون على رغم تغير الحياة حولهم؟ هل تبدأ الرواية بسعد أم تنتهي به؟"، إنها مفارقة الهزيمة، قد يكون سعد، أحمد هو الراحل المنتصر، أما نحن البقية فنكاد نرقص (مثل زوربا) على أنغام الهزيمة.    

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة