ملخص
تحكم ثنائية "الهدم والبناء" بنية السرد في رواية المصري عمار علي حسن "ملحمة المطاريد"، وتعد إحدى لوازمه المتواترة، في سياق صراع لا يقتصر على الإنسان والطبيعة، بل يتطور ليكون بين الإنسان وغيره، أو– على وجه الدقة– بين قبيلتين في ريف صعيد مصر لا تخفيان الحرص على حفظ الذاكرة باعتباره أحد أهم الأسلحة التي وظفتاها في مواجهة النسيان، عبر أجيال عدة، في زمن يمتد من عام 1419 إلى عام 1919.
عندما ذهب نجيب محفوظ بروايته "بين القصرين"، التي تبلغ ألف صفحة إلى ناشره سعيد جودة السحار، عرض عليه الأخير تقسيمها إلى ثلاث روايات. أقول هذا لأن ما فعله عمار علي حسن في "ملحمة المطاريد" شبيه بذلك، فروايته تبلغ- تقريباً- ألف صفحة، لكنه قام بتقسيمها إلى ثلاثة أجزاء بالعنوان نفسه. وهو محق في ذلك؛ لأن الأجزاء الثلاثة تقوم على الاتصال من خلال تكرار بعض الشخصيات وتعاقبها، أما روايات نجيب محفوظ فتقوم على آليتي: الانفصال والاتصال معاً، ولهذا جاز أن تحمل عناوين مختلفة.
ويمكن القول- سواء بالنسبة لثلاثية محفوظ أو أجزاء رواية عمار- إن كل ذلك ينتمي إلى ما يسمى بالرواية "النهرية"، أو رواية "الأجيال"، حيث تتناول "ملحمة المطاريد" (الدار المصرية اللبنانية)- وهي ما تهمنا هنا- سيرة خمسة قرون، عبر ستة عشر جيلاً. وهي- في هذه الرحلة الزمنية الطويلة- "تتشرب روح مصر، تغرف من الواقع، وتنفخ فيه من الخيال، لتقدمه في لغة عذبة، تناسب ما يجب أن تتهيأ له الملاحم الأدبية".
يبدأ الجزء الأول بهذا الإهداء الدال: "إلى أهل قريتي (الوصيلة) التي أكلها النيل في فيضانه قبل قرن، فهرب أهلها بالحكايات. وحين غرسوها في صفحات الأيام، وصلت إلى مسامعنا نحن الأحفاد أسطورة كبرى". إن أقدم الصراعات التي شهدها الإنسان صراعه مع الطبيعة التي بدت متجبرة عليه وقاهرة له، وهو- من جانبه- يحاول مقاومتها والحد من رعونتها، وأقسى ما كان يصيب الإنسان هو ذلك الفيضان الذي يدمر البيوت ويهلك الزروع، وهي حادثة كثيرة التردد على مدار الرواية، حتى أصبحنا أمام ثنائية "الهدم والبناء" التي تحكم بنية السرد وتعد إحدى لوازمه المتواترة، ولا يقتصر الصراع على طرفي: الإنسان والطبيعة، بل يتطور ليكون بين الإنسان وغيره، أو- على وجه الدقة- بين قبيلتي: الصوابر والجوابر.
حفظ الذاكرة
وكان الحرص على حفظ الذاكرة أحد أهم الأسلحة التي وظفتها القبيلتان في مواجهة النسيان، يقول السارد الخارجي العليم: "نزع آل صابر حكايتهم من قبضة النسيان، أورثوها لأولادهم قبل المال، وضعوها في أرحام النساء قبل نطف البنين والبنات، أطلقوها في مجرى النهر فحملها الماء إلى الآذان والنفوس بعد أن غناها القوّالون على الرباب". وسوف نلاحظ أن هذه الحكايات أصبحت داخلة في تكوين الإنسان وتسري منه مسرى الدم في العروق، كما اختلطت مع الطبيعة وأصبحت على لسان القوَّالين الذين يتناقلونها من جيل إلى جيل. وصرع الصوابر والجوابر، هو- في حقيقته- صراع الخير والشر، فبعد الطوفان المدمر الذي جرف أمامه كل شيء، وأسقط جدران بيوت الطمي فوق رؤوس من لم يتمكنوا من الفرار، بدأ تكوين ما عرف بـ "نجع المجاذيب" وكان رضوان الصابر أول من سكنه مع أحد الدراويش فتكاثر عليهم المجاذيب؛ و"صار لكل مجذوب خُصه، يكدح في النهار بين الزروع، وفي الليل يصلي ويلهج لسانه بالتسابيح قبل أن ينام". لكن رضوان يقترح عليهم بناء بيوت بسيطة فيفعلون، وحين يرى "مفيدة" تروق له فيتزوجها، ويقلده المجاذيب، لنكون على بدايات جيل جديد حين كبر الصغار وتزوجوا. كل هذا كان يدور مع بدء هيمنة العثمانيين على مصر وتعاون المماليك معهم على إذلال الفلاحين ثم غزو الحملة الفرنسية لمصر. ولا تكتفي الطبيعة بطوفانها الذي يحدث كل عدة سنوات بل يفاجأ الناس بانتشار الطاعون في البلاد، وموت خلق كثير منهم. وكان هذا سبباً في شراء رضوان لأراضي من هلك من الفلاحين وإضافتها إلى أرض النجع. وحين فاض المال في جيبه فكر في أن يبني لنفسه سرايا وسط الزراعات.
توظيف الأساطير
لكن خيرات تلك الزراعات كانت تذهب إلى السلطان العثماني. وبسبب السيرة الطيبة لرضوان الصابر ومن بعده غنوم الصابر حملت القرية التي تم تخطيطها بعد الطوفان اسم "الصابرية"، حتى قال بعض الناس "اسم على مسمى، فلا نظن أن هناك من صبر على غدر الماء في القطر كله مثلما صبرنا". ومع ذلك يظل صراع الخير والشر، فهاهم الفلاحون يشكون لغنوم الصابر ظلم يونس الجابر الذي طردهم من الأرض على رغم أنهم لم يتأخروا في دفع الإيجار له، لكنه- أي يونس- يطمع في الأرض نفسها، وعندما يتصدى له غنوم يقوم بخطف ابنه سالم، هذا هذا الطفل الذي سيعيد سيرة أجداده، بعد أن يربيه رجل وامرأة وجداه بجوار خاطفه بعد وفاته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يوظف الكاتب ما ورد من تراث الكرامات المنسوبة إلى المتصوفين، ومن ذلك أن رضوان انتبه إلى أن "قُلة المجذوب لا ينقص ماؤها، وصرة الخبز كلما أكلا منها سوياً عادت ممتلئة". ويتوازى مع ذلك توظيف الأساطير التي تكبر مع تتابع الأجيال، كما يبدو في قول السارد: "كما تنمو الذرية تكبر الأساطير، لكنها لا تشيخ ولا تموت، كيف يموت من يسكن الحناجر المشبوبة بالأناشيد والغناء؟ كيف يتلاشى ما تردده الألسنة من جيل إلى جيل". ولكي يعبر الكاتب عن هذا الغناء المصاحب لرواية الأساطير قام بتأليف أبيات من فن "الواو" التي يختم بها كل فصل مكثفاً دلالاته: "الأرض وش مقسوم/ بين الغنم والديابة- والفتنة لما تقوم/ تكسر قلوب الغلابة".
غواية الوصف
ويعكس ذلك الاقتباس عالم الرواية التي كانت الأرض محور الصراع فيها بين الغنم- الفلاحين الأجراء- والديابة التي يمثلها السلكان والوالي العثماني والمماليك والملتزمون. وعندما تقوم فتنة لا يتضرر منها سوى هؤلاء الغلابة من الأجراء المعدمين. ولأننا أمام ثقافة بدائية فقد ساد الاعتقاد بمس الجن لتفسير كثير من الأمراض، في سياق هيمنة الرؤية الخرافية على أهل القرية. وفي موازاة التوظيف البراغماتي للدين، لا تعدم الرواية وجود شيوخ يدركون جوهر الدين مثل ناجي الذي كان يبحث بين ظلام الحكايات عن خيط النور.
ومن الظواهر اللافتة أن السارد يبدأ الفصول بما يشبه الحكمة، ومن ذلك قوله: "الأيام دوَّارة، على محيطها الواسع يكون الماضي البعيد جداً أقرب إلينا مما وقع بالأمس". وهكذا لا نجد فارقاً بين الماضي والحاضر وهذا يفسر تكرار بعض الأحداث في الرواية مثل الطوفان وصراعات الصوابر والجوابر من جيل لآخر، كما تحيلنا هذه الأبعاد الزمنية المشار إليها إلى ما يعرف بالزمن النفسي. وفي مقابل هذا نجد ما يمكن أن نسميه "غواية الوصف"؛ سواء كان هذا الوصف متجهاً إلى الأشخاص أو إلى الأماكن كما يبدو من وصف صاحب الحديقة و"بديعة" الخادمة التي تزوجها العمدة، إضافة إلى وصف الحديقة ذات الأسوار العالية والأشجار الكثيفة التي تتعانق تحت ستار الليل فتزيده سواداً. كذلك استخدامه لما يسمى بالثغرة الزمنية وهي حيلة سردية ضرورية بسبب المساحة الزمنية الممتدة إلى خمسة قرون.