ملخص
بعد ثلاثة أشهر فقط من ولايته الجديدة، بدا أن الرئيس دونالد ترمب يصعد معركته مع المؤسسات القضائية التي تتحدى نزعته كرجل قوي يمارس سلطته الرئاسية على نطاق أوسع وأكثر وضوحاً من أي رئيس آخر في العصر الحديث.
احتدمت المعركة خلال الأيام الأخيرة بين إدارة الرئيس دونالد ترمب والمحاكم الفيدرالية في اختبار جديد لتوازن القوى التقليدي بين السلطتين القضائية والتنفيذية، مما دفع الطرفين إلى مواجهة مفتوحة أكثر من أي وقت مضى، وظهر ذلك جلياً في تهديد القضاة باتهام مسؤولي البيت الأبيض بازدراء المحاكم وتصرفهم بسوء نية.
إلا أن البيت الأبيض رد باتهام القضاة بتجاوز حدود سلطاتهم، وطالب الرئيس ترمب علناً بعزل رئيس المحكمة الفيدرالية في واشنطن، فما أخطار المواجهة المحتملة بين الجانبين سياسياً وقانونياً؟ وما التداعيات المتوقعة إذا ما نفذ القضاة تهديداتهم بازدراء المحكمة؟ وهل يعد هذا الصدام سابقة في تاريخ الولايات المتحدة أم تكررت مواجهات مماثلة عبر التاريخ؟
صدام دستوري وشيك
بعد ثلاثة أشهر فقط من ولايته الجديدة، بدا أن الرئيس دونالد ترمب يصعد معركته مع المؤسسات القضائية التي تتحدى نزعته كرجل قوي يمارس سلطته الرئاسية على نطاق أوسع وأكثر وضوحاً من أي رئيس آخر في العصر الحديث، ويثير تفسير إدارته للقوانين وأحكام القضاة قلق بعض في شأن تأثيره في سيادة القانون، وحرية التعبير والدستور، بينما يرى سيد البيت الأبيض ومستشاروه أن القضاة يسعون عمداً لتقليص صلاحياته ووقف أجندته السياسية الطموحة التي دفعت الأميركيين إلى انتخابه لدورة رئاسية ثانية.
تتمثل أبرز التحديات القانونية في سياسة الترحيل للمهاجرين غير الشرعيين التي تزداد قسوة، وتثير تساؤلات عميقة حول الانتهاكات الواضحة للإجراءات القانونية الواجبة وحقوق الإنسان، وبخاصة رفض ترمب علناً إطلاق سراح مهاجر يدعى كيلمار أبريغو غارسيا اعتقل في ولاية ميريلاند، ورحلته السلطات إلى سجن ضخم سيئ السمعة في موطنه السلفادور من دون جلسة استماع، على رغم صدور أمر قضائي بإعادته إلى الولايات المتحدة.
وفي مواجهة قرار المحكمة العليا الأميركية الأسبوع الماضي الذي صدر بغالبية تسعة أصوات مقابل لا شيء، ويقضي بتسهيل عودة غارسيا إلى الولايات المتحدة بعد أن اعترفت إدارة ترمب بطرده بسبب خطأ إداري، وإيجاد طريقة لمنحه الإجراءات القانونية الواجبة التي كانت ستُمنح له لو لم يُرسل إلى هناك ظلماً، إلا أن الإدارة ظلت تجادل بأن المحاكم الأميركية لا تملك أي اختصاص قضائي لأن مصير أبريغو غارسيا مرتبط بسلطة ترمب في تحديد السياسة الخارجية الأميركية، وأوضحت أن غارسيا كان عضواً في عصابة وإرهابي على رغم أنها لم تقدم أي دليل على ذلك بصورة علنية.
وفي مواجهة رد الإدارة بأنها لن تفعل شيئاً لإعادة أبريغو غارسيا، بدا الأمر وكأنه محاولة أخرى للتهرب من سلطة القضاء، مما يزيد من الشعور بصدام دستوري وشيك من الصعب تجاهله.
وضع خطر
مع استمرار التحدي القانوني، تصاعدت مخاوف القضاة من تبعات ذلك على السلطة القضائية، إذ حذرت القاضية المتقاعدة شيرا شيندلين من أن الإدارة تدخل في وضع خطر لأن هناك تحدياً لأمر المحكمة العليا التي طالبت بتسهيل عودته وتسريعها، وهو تحد يضع البلاد على شفا أزمة دستورية بين السلطتين القضائية والتنفيذية.
وعدَّ الأستاذ الفخري في كلية الحقوق بجامعة هارفرد لورانس ترايب، وهو باحث دستوري شهير، أن تحدي الإدارة يجعل من المرجح أن تعود القضية إلى المحكمة العليا الأميركية مرة أخرى التي ستواجه حينها خياراً مصيرياً، لكن بينما قد يبدو أن القضاة والبيت الأبيض متجهان نحو صدام فوري، فإن الانهيار من المرجح أن يحدث ببطء، لأن النظام القانوني من المحتمل بدرجة كبيرة أن يوفر للبيت الأبيض فرصاً إضافية للتهرب.
تطور درامي
في تطور درامي آخر، احتدمت معركة ثانية قبل أيام قليلة بين إدارة ترمب والمحاكم الفيدرالية حول ترحيل أكثر من 100 مهاجر إلى سجن بالسلفادور خلال الـ16 من أبريل (نيسان) الجاري، حين أصدر قاضي محكمة جزئية أميركية هو جيمس بواسبيرغ، الذي طالب ترمب بعزله من قبل وتصدى له قاضي قضاة المحكمة العليا، رأياً يفيد بوجود سبب محتمل لاتهامه أعضاء الإدارة بازدراء المحكمة جنائياً رداً على ما وصفه بعصيان البيت الأبيض لأمره القضائي، الصادر في الـ15 من مارس (آذار) الماضي بوقف الرحلات الجوية التي تقل هؤلاء المهاجرين إلى السلفادور بموجب قانون "الأعداء الأجانب" الذي فعله ترمب في استثناء نادر، حتى تمنح الفنزويليين الذين رحلهم فرصة للطعن في طريقة تطبيق القانون واتهامات الإدارة لهم بأنهم أعضاء في عصابة شوارع تعرف باسم "ترين دي أراغوا".
ويقول هذا الرأي المؤلف من 46 صفحة إن تصرفات الحكومة في ذلك اليوم تظهر تجاهلاً متعمداً لأمرها، وإن هناك أدلة على أن إدارة ترمب لم تمتثل لأمر المحكمة بإعادة المرحلين، وربما تكون خالفت هذا الأمر عمداً، وقدم القاضي استنتاجاً بوجود سبب مرجح، مما يعني أن المحكمة في حاجة إلى البحث بصورة أعمق لمعرفة ما حدث ولماذا لم تمتثل الحكومة في هذه الحال لأمر المحكمة.
معركة ازدراء المحكمة
لم يفت الأوان بعد على الحكومة كي تمتثل لأمر المحكمة، وهو أحد الخيارات المتاحة للحكومة عبر إعادة المهاجرين غير الشرعيين المرحلين والموجودين الآن في سجن بالسلفادور إلى الحجز الأميركي، وإذا فعلت الإدارة ذلك، فلن ترفع أية دعاوى قضائية أخرى بتهمة ازدراء المحكمة. لكن إذا اختارت الحكومة عدم إعادة المعتقلين إلى الحجز الأميركي، فإن وجود سبب محتمل بالازدراء يعني إجراء تحقيق بإشراف المحكمة.
ومع ذلك، يقتضي الأمر في هذه الحال جمع الأدلة حول ما حدث، بما في ذلك تصريحات المسؤولين الحكوميين، ولهذا كتب القاضي بواسبيرغ أن المحكمة قد تأمر بعقد جلسات استماع مع شهادات شهود عيان تحت القسم أو إفادات من المدعين، وسيكون الهدف هو معرفة من أمر بماذا، ومتى، ولماذا، بعد ذلك يمكن للمحكمة أن تقرر ما إذا كان شخص ما داخل الحكومة مسؤولاً عن انتهاك أمر المحكمة.
وحيث إن القاضي بواسبيرغ منح إدارة الرئيس ترمب مهلة حتى الـ23 من أبريل الجاري للرد، ينبغي على الحكومة بحلول ذلك التاريخ، إما شرح الخطوات التي اتخذتها سعياً إلى إعادة الأفراد إلى الحجز الأميركي، أو تحديد هوية الأفراد الذين قرروا عدم إيقاف نقل المعتقلين من الحجز، بعد أن قضت المحكمة بعدم وجوب نقلهم.
ماذا بعد الاتهام؟
ليس من الواضح من هم الأفراد الذين سيتهمهم القاضي بواسبيرغ بازدراء المحكمة، لكن من المتوقع أن يعمل القاضي على تحديد هوية صانعي القرار المعنيين وما إذا كانوا أصدروا أوامرهم، ثم تأتي الخطوة التالية وهي استقصاء هذه القضايا والتوصل إلى استنتاج حول المسؤولين الذين يمكن توجيه الاتهامات إليهم، بحسب كاساندرا بيرك روبرتسون أستاذة القانون في جامعة كيس ويسترن ريزيرف بولاية أوهايو.
وبموجب القواعد الفيدرالية للإجراءات الجنائية، يكون المدعي العام الأميركي مسؤولاً عن توجيه تهمة ازدراء للمتهمين بمجرد تحديد هويتهم، لكن يجب أولاً إثبات هذه التهم، كأية قضية جنائية وبما لا يدع مجالاً للشك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولأن المدعي العام في قضية كهذه عادة ما يكون من وزارة العدل، مما يعني أن هناك احتمالاً من الوزارة برفض الملاحقة القضائية، تسمح القواعد الفيدرالية للقاضي بتعيين مدع عام آخر إذا رفضت الحكومة الملاحقة القضائية أو إذا اقتضت مصلحة العدالة هذا الأمر، ومع ذلك يظل السؤال المهم هو هل يجوز للرئيس العفو عن المتهمين بازدراء المحكمة؟
أزمة دستورية
لا تبدو هناك إجابة قاطعة، فعلى رغم أن ترمب فعل ذلك سابقاً، عندما عفا عن الشريف جو أربايو لتحديه أمر محكمة يلزمه بوقف دوريات الهجرة، فإن بعض الباحثين القانونيين يجادلون بأن مثل هذا العفو قد ينتهك مبدأ الفصل بين السلطات في الدستور، ومن المرجح أن يشكل ذلك أزمة دستورية ربما تصل بالأمر إلى المحكمة العليا الأميركية في واشنطن لتفصل في هذا النزاع، وبخاصة أن قضاة المحكمة العليا قضوا بأنه يجب السماح للمرحلين إلى السلفادور بالطعن في قرارات ترحيلهم قبل ترحيلهم جواً من البلاد، ولكن فقط في الأماكن المحددة التي كانوا محتجزين فيها.
وفي كل مرة تتخلف فيها الحكومة عن الامتثال لأمر قضائي، يتصاعد خطر أزمة دستورية، إلا أن أستاذة القانون كاساندرا روبرتسون ترى أن إجراءات ازدراء المحكمة هي بالأساس وسيلة لإظهار قوة الدستور، نظراً إلى أن صلاحية ازدراء المحكمة قائمة منذ نشأة المحاكم الفيدرالية في الولايات المتحدة عام 1789 وهذا أمر أساس في النظام الدستوري للولايات المتحدة، فإذا لم يمتثل أحد الخصوم لأمر قضائي، فإن للمحاكم سلطة إنفاذ هذه الأوامر.
إلا إنه إذا لم يستخدم ترمب العفو عن المتهمين، فإن العقوبتين الأكثر شيوعاً هما عادة السجن أو الغرامات المالية والتي تكون أسهل هنا من السجن، حيث من النادر جداً أن يحاسب أي مسؤول حكومي على ازدراء المحكمة نظراً إلى أن الحكومة تغير مسارها بسرعة كبيرة للامتثال للمحكمة، ولتجنب خطر إرسال أي مسؤول حكومي إلى السجن أو فرض أية عقوبات مالية عليه.
تجارب التاريخ
نادراً ما كانت المحاكم تلزم المسؤولين الحكوميين في الماضي بالحكم عليهم، لأنه بمجرد وجود سبب مرجح، كانت الحكومة توافق على طلب القاضي، ووجد الباحث القانوني نيكولاس بيريليو أمثلة عديدة على جهات تتجه نحو الامتثال لمجرد مواجهتها بطلب ازدراء المحكمة، بالتالي لم تكن هناك حاجة لفرض عقوبات.
ولا توجد أيضاً حالات كثيرة حاول فيها القاضي فرض عقوبات على أحد أعضاء الحكومة، إذ لم يسجن سوى اثنين من المسؤولين الفيدراليين عام 1951 بتهمة ازدراء المحكمة، ولم يمضيا سوى بضع ساعات في السجن.
غير أنه في القضايا العامة يُحتجز كل عام عدد من المتقاضين بتهمة ازدراء المحكمة، بل ويسجنون لرفضهم الامتثال لأوامر المحكمة، وهو أمر شائع خصوصاً في دعاوى نفقة الأطفال وحضانتهم.
طرد الأميركيين تحد جديد
على رغم كل هذا الصخب المستمر حول الصراع بين السلطتين التنفيذية والقضائية يفكر ترمب في تحد أكثر جرأة للقانون، إذ أشار إلى إمكانية توسيع نطاق خطته لترحيل من يصفهم بأعضاء العصابات والإرهابيين حتى ولو كانوا مواطنين أميركيين إلى خارج البلاد أو إلى سجون السلفادور القاسية.
مثلت تعليقات الرئيس أوضح إشارة حتى الآن إلى أنه يفكر جدياً في ترحيل المواطنين المجنسين والمولودين في الولايات المتحدة، وهو اقتراح أثار قلق دعاة الحقوق المدنية، وعدَّه عدد من علماء القانون غير دستوري بمن فيهم أستاذة القانون بجامعة نوتردام والمتخصصة في قانون الهجرة إيرين كوركوران، التي أشارت إلى أنه لا يوجد أي بند في القانون الأميركي يسمح للحكومة بطرد المواطنين من البلاد، وإن كان في حالات نادرة يمكن تجريد المواطنين المولودين في الخارج من جنسيتهم وترحيلهم إذا ارتكبوا أعمال إرهاب أو خيانة، أو إذا ثبت كذبهم في شأن خلفيتهم أثناء عملية التجنيس.
وفي حين تبدو فكرة تجاهل الإدارة للحماية الدستورية المتاحة لجميع الأميركيين، حتى المسجونين منهم، وترحيلهم إلى معسكرات اعتقال قاسية في الخارج مبالغاً فيها، جاءت كلمات ترمب في خضم أجواء يصفها خصومه بالاستبداد المتزايد، وإصرار واضح على رفض القيود الدستورية على سلوكه، على اعتبار أن تحركات البيت الأبيض نحو السلطة تشير إلى أنه يريد أن يقرر من يُرحل خارج البلاد بناءً على معاييره الخاصة لا معايير المحاكم.
قيود إضافية
مع استمرار الصراع أضاف قاض فيدرالي أمس الجمعة قيوداً جديدة على إدارة ترمب، إذ منعها من ترحيل غير المواطنين إلى بلدان غير موطنهم الأصلي دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة. وكتب القاضي برايان مورفي قاضي المحكمة الجزئية الأميركية في الأمر القضائي الأحدث، "يجادل المدعى عليهم بأنه يجوز للولايات المتحدة إرسال أجنبي قابل للترحيل إلى بلد غير موطنه الأصلي، وليس إلى بلد أصدر فيه قاضي الهجرة أمراً بذلك، إذ يمكن أن يتعرض للتعذيب والقتل فوراً من دون منحه أية فرصة لإبلاغ سلطات الترحيل بأنه يواجه خطراً جسيماً أو الموت بسبب هذا الترحيل، لكن جميع القضاة التسعة الحاليين في المحكمة العليا للولايات المتحدة ومساعد المدعي العام والكونغرس والمنطق السليم وهذه المحكمة، جميعهم يختلفون في هذا الرأي".
ويشكل هذا الحكم عائقاً أمام سياسة إدارة ترمب في ترحيل غير المواطنين إلى دول مثل السلفادور وهندوراس وبنما، حتى لو لم يكن هؤلاء المواطنون حاصلين على أمر ترحيل إلى تلك الدول، ومع ذلك قد يستمر الرئيس ترمب ومستشاروه في تحدي الأوامر القضائية، والمضي قدماً في تنفيذ أجندته السياسية مهما كلفه ذلك، فهو يشعر بأن الوقت ضيق وأن من انتخبوه يؤيدون مسعاه في الأقل ضد المهاجرين غير الشرعيين، وهو ما ينذر باستمرار النزاع مع السلطة القضائية في الولايات المتحدة لأشهر وربما أعوام مقبلة.