Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جنرالات البنتاغون ضحايا "شعبويي" إدارة ترمب

ماذا يجري خلف أسوار "قدس أقداس" الإمبراطورية الأميركية؟ وهل قاد إيلون ماسك انقلاباً أبيض لصالح الأوليغارشية التكنولوجية؟

البنتاغون هو رمز للقوة الأميركية أكثر من كونه مؤسسة تدير شؤون البلاد العسكرية (أ ب)

ملخص

ماذا يحدث وراء الأسوار العالية لمبنى البنتاغون الذي يعد "قدس أقداس" الأمبراطورية الأميركية، و"حجر الزاوية" في قوتها الضاربة عبر أركان الأرض؟

ضمن كثير جداً من الأحداث الصاخبة التي تجري بها المقادير في الداخل الأميركي اليوم، يأتي الحديث عن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، إذ تشهد ما يسميه بعضهم انقلاباً أبيض، من إدارة الرئيس دونالد ترمب وبقية حاشيته، ومن ضمنها إيلون ماسك، قبل أن يعلن نيته الخروج.

ماذا يحدث وراء الأسوار العالية لهذا المبنى الذي يعد "قدس أقداس" الأمبراطورية الأميركية، و"حجر الزاوية" في قوتها الضاربة عبر أركان الأرض؟

هذا هو التساؤل الرئيس والمهم، لا سيما أن إجابته تحدد معالم وملامح الدور الأميركي القائم والقادم، خلال العقود المقبلة.

يرى المتابع لشأن البنتاغون أن هناك ما يشبه التضاد في الأفكار لجهة هذه المؤسسة العملاقة، إذ لا ندري بالضبط ما يراد لها،  وهل الهدف من عملية المراجعات التي تجري داخلها، هو خفض نفقاتها، ضمن السياق العام الذي يترأسه المكتب الحكومي المستحدث لهذا الغرض في البيت الأبيض، أم زيادة الإنفاق على  مشاريع العسكرة، التي تواجه تحديات هائلة في الآونة الأخيرة، من روسيا تارة، ومن الصين تارات أخرى.

مهما يكن من أمر فإنه لا بد من فكرة أولية عن تلك المنشأة التي تعد القلب النابض للهيمنة الأميركية أممياً.

البنتاغون... الرمزية حاملة القوة

يدفع ترديد اسم البنتاغون، إلى التفكير المباشر في الحروب الأميركية، والضربات التي تشن جواً وبراً وبحراً، على كل من يقف في طريق الإمبراطورية الأميركية، لا سيما إذا كان يتبع العنف له سبيلاً.

من هنا يبدو البنتاغون رمزاً للقوة، بأكثر من كونه مؤسسة تدير شؤون البلاد العسكرية، وعليه فإن الحفاظ على هذه المؤسسة يعد من أولويات الإدارات الأميركية كافة، وعلى رأس اهتمامات ساكن البيت الأبيض.

غير أن أحداً، سوى النخبة فقط، يدرك ما يجري خلف أسواره،  فالعمليات الداخلية مليئة بالأسرار، وغالباً ما تكون مختلفة كثيراً  عما قد يتوقعه المرء.

يعمل في البنتاغون نحو 3 آلاف شخص، ما بين عسكريين ومدنيين، ويعد المقر الرئيس لوزارة الدفاع.

الذين قدر لهم دخول هذا المبنى العملاق، يكاد يشعرون بأنهم داخل منشأة مثيرة، لا تبدو وكأنها عسكرية محصنة، كما حال القواعد العسكرية، وإن كانت هناك حراسات وبرامج للدفاع عن البنتاغون،  تعمل بمستوى ومهارة غير عاديين، لكنها لا تظهر أمام أعين الجماهير.

يمكنك داخل البنتاغون العثور على متاجر أزياء راقية، ومطاعم وجبات سريعة، وذلك بفضل ساحة الطعام ومركز التسوق.

بسبب هجمات الـ11 من سبتمبر، يوجد في المدخل نصب تذكاري، مخصص لـ189 شخصاً فقدوا أرواحهم في البنتاغون.

تظهر نظرة داخل هذا المبنى الهائل، أنه يمكنك توقع انخفاض كبير في عمليات التجسس الدولي وزيادة في تحليل الأرقام وجمع البيانات.

إنه مكان يساعدك في إيصال التمويل الحكومي إلى الجهات المناسبة في جميع أنحاء القوات المسلحة الأميركية، كما يجمع  المعلومات الاستخبارية لمساعدة الفروع العسكرية في اتخاذ  القرارات الصحيحة.

تبلغ مساحة البنتاغون 36 فداناً، ويضم 6.5 مليون قدم مربع من المساحات المكتبية، وهو أكبر مبنى مكاتب في العالم كله.

الكلمة "بنتا" يونانية الأصل، وتعني الشكل الخماسي، ذلك أنه مكون من خمسة أضلاع، كل منها يرتفع لنحو خمسة طوابق فقط.

أما في الأسفل فستجد طابقين إضافيين، وخمسة ممرات دائرية  لكل طابق، يبلغ طولها الإجمالي 17 ميلاً. هذا يعني أن المسافة  من أقصى جزء في البنتاغون، وعبور نهر البوتوماك، والسير إلى  البيت الأبيض ستكون أقصر بعدة أميال من السير على طول الممرات الدائرية التي تشكل جزءاً من المبنى.

تم تدشين مبنى البنتاغون عام 1943، أي وسط معارك الحرب العالمية الثانية، وكأنه كان يحمل رسالة مفادها، بأن القوة الأميركية الإمبراطورية قادمة، لتجب ما سبقها من قوى دولية.

البنتاغون وحرب الدولارات المهدرة

في مقدمة الأحداث التي لفتت انتباه العالم لما يحدث في البنتاغون، مع إدارة ترمب، تلك العمليات الجارية على قدم وساق، وكأنها بالفعل نوع من الحروب على هذا الكيان الدفاعي والعاملين فيه.

لم يعد سراً أن هناك لوائح اتهامات تتطاير من حول البنتاغون في الآونة الأخيرة، لوائح تحمل اتهامات بالإنفاق الزائد، أو الإنفاق غير الكافي، وحتى سوء الإنفاق البسيط، وهي انتقادات يرى أصحابها أن لها جميعاً أساساً من الحقيقة.

وبدلاً من فرض تخفيضات صارمة فحسب، تسعى هذه الخطة إلى "إعادة تركيز، وإعادة استثمار، الأموال الموجودة لبناء قوة قتالية أكثر فتكاً".

يحاجج فريق ترمب، بأنه على البنتاغون أن يتبنى مهمة وزارة الدفاع الرئيسة، أي تحرير نفسها من البيروقراطية العتيقة والإنفاق غير الفعال.

هل من اسم معين لذلك المشروع الذي ينسحب على البنتاغون، كما على غيره من المؤسسات الفيدرالية الأميركية؟

نعم إنه مشروع  DOGE "دوج" الذي أطلقه إيلون ماسك، في مواجهة عدد من الوكالات الحكومية الكبرى، مثل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، بهدف ترشيد النفقات.

والمعروف أنه كثيراً ما تعرضت وزارة الدفاع لانتقادات بسبب مشكلاتها في الموازنة، وواجهت أخيراً اتهامات بالإفراط في الإنفاق.

ولمعالجة هذه القضايا، أعلن وزير الدفاع بيت هيغسيث أخيراً تعاونه مع "دوج" أو المكتب الذي يترأسه ماسك، بهدف تقليص النفقات، وذلك لإجراء مراجعة شاملة لموازنة الوزارة. وكشفت هذه المبادرة بالفعل هدر 80 مليون دولار في الإنفاق، بما في ذلك 1.9 مليون دولار في عمليات التحويل والتدريب، و305 ملايين دولار في "دعم الموارد البشرية الدفاعية".

وفي حين أن البنتاغون يقاوم التغيير بصورة واضحة، فإن الضغوط الإضافية من وزير الدفاع والإدارة قد تجبر أخيراً على إجراء الإصلاحات اللازمة لتحديث الجيش الأميركي، وإعادة التركيز على القدرات الحربية، وتخليص البنتاغون من بنود الموازنة التي يراها بعض منهم بالفعل سخيفة.

على أن ما تقدم قد لا يقنع كثيرين بحسن نوايا إدارة ترمب الحالية، ذلك أن هناك من يرى أنها واقعة تحت ضغوطات الأوليغارشيين التقنيين، بقيادة إيلون ماسك، أولئك الذين يسعون إلى تفكيك أوصال الاتحاد الفيدرالي بصورة أو بأخرى، ويرفضون رفضاً تاماً سيطرة المراكز على التخوم.

وسط هذه  الشكوك، تتصاعد الهواجس من أن يكون مشروع "DOGE"،  مجرد بداية للتحول بالفعل من الجمهورية الأميركية، إلى مسار الملكية، لا سيما أن واحداً في المئة من الأميركيين، قابضون بقوة على نحو 90 في المئة من الثروة في البلاد.

هل ما يجري في البنتاغون من عمليات تحمل رسمياً اسم التطهير والمراجعة المالية، هو بداية لعمليات تفكيك لتلك المؤسسة العسكرية التي لا تصد ولا ترد؟ ثم السؤال الأهم: هل سيصمت جنرالات البنتاغون طويلاً على هذا المسار والمصير؟

خفض موازنة البنتاغون بنسبة 40 في المئة

يعتبر أركان إدارة ترمب، أن أكبر تهديد للأمن القومي الوجودي الذي تواجهه الولايات المتحدة ليس الصين ولا روسيا، بل هو في الواقع الدين الوطني المتنامي بلا نهاية.

هل سيبدأ الخفض من عند البنتاغون، بوصفه صاحب أكبر موازنة في موازانات الحكومة الفيدرالية عادة؟

بعد تثبيته من الكونغرس وزيراً للدفاع، دعا بيت هيغسيث القيادة العليا في البنتاغون إلى وضع خطط لخفض موازنة الدفاع بنسبة 40 في المئة، وذلك بمعدل ثمانية في المئة من موازنة الدفاع في كل سنة من السنوات الخمس المقبلة، وفقاً لمذكرة حصلت عليها صحيفة "واشنطن بوست". مع استثناء 17 بنداً من بنود الإنفاق، بما في ذلك عمليات أمن الحدود، والطائرات المسيرة الهجومية أحادية الاتجاه والدفاع الصاروخي.

تبلغ موازنة البنتاغون لعام 2025 نحو 850 مليار دولار، وشهدت ارتفاعاً هائلاً منذ عام 2010، وعلى رغم الزيادات في الإنفاق، إلا إن قدرات الجيش الأميركي تتراجع عاماً بعد عام، إذ لا تستطيع وزارة الدفاع بناء طائرات وسفن حربية ومنصات استراتيجية بكميات كبيرة، أو إنتاجها بكلفة معقولة.

أطلق حديث خفض موازنة البنتاغون صراخاً وعويلاً كبيرين في أروقة واشنطن، ذلك أن سكان العاصمة، يعتبرون البنتاغون بمثابة "الكأس المقدسة" لاقتصادهم.

ورأينا بالفعل لمحة عما سيحدث مع التخفيضات الأولية التي أجراها تعديل موازنة الدفاع على الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID، والتغييرات في نظام مدفوعات وزارة الخزانة.

يحاجج القائمون على مكتب الكفاءة الحكومية "دوج"، بأنه لا يجب أن يرتفع صوت فوق صوت خفض الدين العام لأميركا، هذا السيف المسلط على رقبة البلاد والعباد، وكذلك فإنه لا يتوجب أن تكون هناك أية وزارة مقدسة في الداخل الأميركي أكثر من اللازم.

أما السبب المباشر عند هؤلاء، هو أنه إذا خلص بقية العالم إلى أن الدين الأميركي لا يمكن السيطرة عليه، تزداد احتمالات أن يحدث تحد لسيادة الدولار الأميركي، مثل تلك التي يشكلها تحالف "بريكس" الاقتصادي بقيادة الصين، في مواجهة الدولار الأميركي، مما يمكن أن يقود إلى انهيار الاقتصاد الأميركي انهياراً ذريعاً.

لهذا السبب يعد قانون DOGE والسياسات المماثلة التي سنتها إدارة ترمب، بالغ الأهمية، فمبجرد السيطرة على الدين الأميركي، مهما بلغت صعوبته على المدى القريب، يمكن إنقاذ الدولار، مما يعني عدم تهديد السيطرة والهيمنة الأميركية على العالم.

هل ما يجري من تفكير بالنسبة إلى البنتاغون، وبحجة التهديدات المالية التي تواجه البلاد، هو تفكير عامة الأميركيين؟

ربما لا في حقيقة الأمر، ذلك أنه قبل تنصيب ترمب بفترة وجيزة، أعلن من أطلق عليهم الرئيس السابق جو بايدن في خطاب الوداع، "الأوليغارشيين التقنيين"، أي كبار أصحاب شركات التكنولوجيا الذين دعموا عودة ترمب للبيت الأبيض مثل إيلون ماسك وبيتر ثيل ومارك أندريسن وآخرين، نيتهم تشكيل تحالف يتحدى قبضة شركات الدفاع الكبرى المسيطرة على وزارة الدفاع، وأن هذا التحالف سيضم شركات مثل "بالانتير" و"أندرويل" و"سبيس إكس" و"أوبن أيه آي" و"سارونيك" و"سكيل إيه آي".

هل لقي هذا الحديث رواجاً وقبولاً في صفوف عموم الأميركيين، أم أن هناك من رأى في الأمر كارثة محدقة بقوة أميركا التي يمثلها البنتاغون وسياساته؟

مكتب "التقييم الصافي" وتهديد بالانقراض

يضحي من الطبيعي في وقت تحدث فيه اختلافات عميقة حول مسارات المؤسسات الكبرى في الداخل الأميركي، أن تظهر على سطح الأحداث، كثير من المعلومات بل والأسرار التي لا يدري عنها أحد شيء، ومنها قصة المكتب الذي تفوق على الصين، ويراقب صعودها، ذاك الذي يتضمن أفضل العقول في الداخل الأميركي، والمهدد بالضياع حال تم بالفعل تنفيذ تهديدات مكتب "دودج" وتقليص موازنة البنتاغون، ما القصة؟

يقدم لنا أندرو كريبينيفتش الزميل الزائر في معهد هدسون ومؤلف مشارك مع باري واتس في كتاب "المحارب الأخير وتشكيل استراتيجية الدفاع الأميركية الحديثة"، عبر العدد الأخير من مجلة "فورين بوليسي"، قراءة مهمة عن هذا المكتب وأهميته الاستراتيجية.

في تسعينيات القرن الماضي، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، لم يكن كثيرون في واشنطن يعتبرون الصين تهديداً مستقبلياً، خلال تلك الفترة الأحادية القطبية.

ساد وقتها الاعتقاد بأن الصين ستصبح طرفاً مسؤولاً في المجتمع الدولي بمجرد انضمامها الكامل إليه، إلا أن مجموعة من المحللين داخل البنتاغون، ممن كلفوا بتقييم البيئة الاستراتيجية، نظرت إلى الأمور من منظور مختلف. وبتركيزهم المتزايد على القيادة  الصينية، خلصوا إلى أن الصين عازمة على بناء القدرات اللازمة  لقلب النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. وأثبتت  نتائجهم صحة بصيرتهم، إذ توقعوا بعد عقود عدة عودة التنافس النشط بين القوى العظمى، وتنامي التحدي العسكري الصيني للولايات المتحدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من أين جاءت هذه الرؤى؟

في الحقيقة كان مصدرها ما يعرف بـ"مكتب التقييم الصافي"،  وهو ذراع صغيرة تابعة للبنتاغون. لعب المكتب من خلال تحليلاته المستقلة، دوراً حيوياً لعقود في توجيه التخطيط الاستراتيجي  وأولويات السياسات لكبار قادة البنتاغون. وعلى رغم أنه لا يضم سوى 12 موظفاً تقريباً، ولا تتجاوز موازنته البحثية 20 مليون دولار، أي "غبار الموازنة" كما يصفه البنتاغون، وقدم مراراً وتكراراً تحليلات حاسمة، وغالباً ما كانت مناقضة للتوجهات العامة، مما ساعد في صياغة الفكر الاستراتيجي الأميركي، إلا أنه على رغم كل ذلك، يبدو مصيره مخيفاً.

في الـ13 من مارس (آذار) الماضي، أمر وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث بحل "مكتب التقييم الصافي" أو مكتب الدراسات الاستراتيجية، ووجه مديري البنتاغون بنقل موظفي المكتب إلى أماكن أخرى، كما ألغى جميع عقود الأبحاث القائمة مع المكتب.

وفي إعلانه للإغلاق، طلب هيغسيث من نائب وزير الدفاع وضع خطة لإعادة بناء المكتب بصورة مختلفة، بحيث يكون هيكله "متوافقاً مع أولويات الوزير"، لكن الرسالة تبدو واضحة. سيتوقف مكتب الدراسات الاستراتيجية عن الوجود كمركز مستقل للتفكير الاستراتيجي، إذ كثيراً ما أسهم في تقديم رؤى حاسمة، وأحياناً  تغيير المفاهيم، من خلال تحديد الأفكار السائدة.

والسؤال هنا: هل 20 مليون دولار مبلغ مؤثر في موازنة  البنتاغون، في مقابل الخدمات الفكرية الاستشرافية الهائلة التي قدمها هذا المكتب؟

يكاد الجواب يقود الأميركيين إلى القطع أن القصد هو إحلال وتبديل عقول بعقول، عقول العسكريين بأخرى تخص الطغمة الجديدة من رجالات ترمب، والدليل على صحة هذا الكلام، هو أن الأمر لا يقتصر فقط على المفكرين من القائمين على مكتب التقييم الصافي، بل يمتد إلى إزاحة عدد كبير من جنرالات البنتاغون الفاعلين، ماذا يعني ذلك؟

ترمب وإقالة كبار الجنرالات

لم تكن علاقة الرئيس ترمب، خلال ولايته الأولى، صافية مع  البنتاغون، واختتمت بما يشبه الخيانة العظمى من رئيس الأركان الجنرال مارك ميلي، الذي تواصل مع نظيره الصيني من وراء ظهر ترمب، القائد العام للقوات المسلحة الأميركية، مما استدعى من الرئيس السابق بايدن، إصدار إعفاء شامل لميلي، خوفاً من انتقام ترمب اللاحق.

على أنه وما إن عاد الرجل للبيت الأبيض من جديد، حتى بدأت قراراته في إزاحة عدد من كبار قادة البنتاغون، فيما يبدو أنه تهيئة الأجواء لقيادات عسكرية جديدة تابعة له، وهو ما جرت به المقادير بالفعل.

البداية في أواخر فبراير (شباط) الماضي، عندما أقال ترمب رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال سي. كيو براون، وهو أعلى  ضابط رتبة في البلاد، في إطار عملية إعادة هيكلة كبرى للقيادة العسكرية العليا.

هنا يعن لنا أن نتساءل: هل تمت إقالة براون لتقصير عسكري من جهته، أم لاعتبارات أيديولوجية قامت عليها إدارة البيت الأبيض؟

الثابت أنه على رغم أن ترمب نشر على مواقع التواصل الاجتماعي شكره للجنرال براون، على خدماته التي قدمها للبلاد  لأكثر من 40 عاماً، إلا أن ذلك لم ينف كون وزير الدفاع هيغسيث، كان من المطالبين بإقالة الرجل: "يجب أن يطرد بسبب تركيزه على برامج التنوع والمساواة والشمول في الجيش"، هكذا  تحدث هيغسيث.

مضيفاً "في عهد الرئيس ترمب، نعمل على وضع قيادة جديدة من شأنها أن تركز جيشنا على مهتمه الأساسية، المتمثلة في ردع الحروب وخوضها والفوز بها".

جاءت إقالة الجنرال براون، لتفتح جرحاً لم يندمل بعد في مسيرة أميركا، جرح العنصرية العرقية.

تصدر الجنرال براون عناوين الأخبار في عام 2022، عندما  تحدث عن العنصرية بعد وفاة جورج فلويد، ونشر رسالة فيديو إلى القوات الجوية الأميركية يصف فيها الضغوط التي شعر بها  باعتباره أحد الرجال السود القلائل في وحدته، بما في ذلك استجوابه حول أوراق اعتماده.

وفي عام 2022، بينما كان رئيس أركان القوات الجوية، شارك الجنرال براون في التوقيع على مذكرة تحدد أهداف التنوع لتعزيز نسبة المتقدمين من الضباط من الأقليات مع خفض معدل المرشحين البيض، وفقاً لصحيفة Air Force Times.

تالياً وفي الرابع من أبريل (نيسان)، ومن غير مقدمات أو تفسير، أقال ترمب، مدير وكالة الأمن القومي.

في ذلك النهار أبلغ كبار القادة العسكريين، بإقالة الجنرال "تيم هو" من القوات الجوية، وهو من يشرف على قيادة العمليات السيبرانية  في البنتاغون.

ووفقاً للمسؤولين، فإنهم لم يتلقوا أي إشعار مسبق بشأن قرار إقالة  جنرال بأربع نجوم، يتمتع بخبرة 33 عاماً في الاستخبارات والعمليات السيبرانية.

أثارت هذه الخطوة انتقادات لاذعة من أعضاء الكونغرس ومطالبات بتفسير فوري، وتمثل هذه الخطوة أحدث إقالة  لمسؤولين في الأمن القومي من ترمب، في وقت تواجه فيه إدارته الجمهورية انتقادات شديدة لفشله في اتخاذ أي إجراء ضد استخدام قادة رئيسين آخرين لمحادثة سرية عبر تطبيق "سيجنال"، بمشاركة رئيس تحرير مجلة "أتلانتيك" جيفري غولدنبرغ، لمناقشة خطط لشن ضربة عسكرية على مقار الحوثيين في اليمن.

هل توقفت إقالات جنرالات البنتاغون عند هذا الحد؟

في الثامن من أبريل (نيسان) نفسه، أكدت وزارة الدفاع الأميركية إقالة نائبة الأدميرال شوشانا تشاتفيلد من منصبها كممثلة للجيش الأميركي في اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي، مما يجعلها تاسع ضابط عسكري كبير الرتبة في الأقل أجبرته إدارة ترمب على التنحي.

ولعل المثير في هذه الإقالة، البيان الذي صدر عن المتحدث باسم البنتاغون "شون بارئيل"، وجاء فيه "أقال وزير الدفاع بيت هيغسيث نائبة الأدميرال البحرية الأميركية شوشانا تشاتفيلد، من منصبها كممثلة للولايات المتحدة في اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي بسبب فقدان الثقة في قدرتها على القيادة"، هذا على رغم سنوات خدمتها الطويلة في البحرية الأميركية.

ولعله من الواضح أن تشاتفيلد، استهدفت هذه المرة، كما في مرات سابقة، من جراء تعليقات أدلت بها حول التنوع والمساواة  والشمول.

خلال أشهر من تعليق السيناتور الجمهوري "تومي توبرفيل" ترشيحات الضباط العامين لعام 2023، أعاد نشر قائمة من مؤسسة المساءلة الأميركية المحافظة على مواقع التواصل الاجتماعي، تخصص ضباطاً اعتنقوا ما وصفته المجموعة بقيم "الوعي".

هل من قائمة للجنرالات المفصولين؟

الأدميرال ليندا فاجان قائدة خفر السواحل، والجنرال سي كيو براون الابن رئيس هيئة الأركان، والأدميرال ليزا فرانشيتي رئيسة  العمليات البحرية، والجنرال جيمس سلايف نائب رئيس أركان القوات الجوية، والجنرال جوزيف ب. بيرغر الثالث القاضي المحامي العام للجيش، والجنرال تشارلز بلامر القاضي المحامي العام للقوات الجوية، والجنرال جينيفر شورت المساعدة العسكرية الأولى لوزير الدفاع، والجنرال تيموثي هو مدير وكالة الأمن القومي ورئيس القيادة السيبرانية الأميركية.

هل يمكن اعتبار ما جرى أنه بمثابة "مذبحة جنرالات البنتاغون"؟  وإذا كان ذلك كذلك، فهل يمكن أن تحدث ردات فعل بين الجنرالات المتبقين، لا سيما قبل أن يجري تسليم البنتاغون برمزيته العسكرية  للأوليغارشيين الأميركيين؟

ماسك وأزمة تسريب المعلومات

مع نهاية مارس (آذار) الماضي، انفجرت أزمة كبرى في شأن السماح لإيلون ماسك بالدخول إلى البنتاغون، وحصوله على الخطط السرية للعمليات العسكرية الخاصة بالمواجهة مع الصين.

كتبت صحيفة "نيويورك تايمز" تقول إن "الوصول غير المعتاد لماسك سيكون بمثابة توسع كبير لدوره الواسع بالفعل، كمستشار للرئيس ترمب وزعيم جهوده لخفض الإنفاق وتطهير الحكومة من الأشخاص والسياسات التي يعارضونها".

الصحيفة الأميركية ذكرت أن الإحاطة السرية للغاية حول خطة الحرب مع الصين تتضمن ما بين 2 و30 شريحة، وتفصل خطط الولايات المتحدة لمواجهة الصين في حال نشوب حرب.

كما تتضمن "خيارات متنوعة في شأن الأهداف الصينية التي يجب ضربها، والفترة الزمنية".

بدت هذه الأخبار وكأنها زلزال أصاب إدارة ترمب بعد أن وجدت طريقها إلى الصحافة الأميركية، وبات السؤال: من الذي سمح لماسك بالاطلاع على هذه الخطط فائقة السرية؟ ثم الأخطر في المشهد من الذي قام بتسريبها؟

سريعاً حاول الرئيس ترمب إنكار الأمر، وكتب على موقع "تروث سوشيال" التابع له، "إن ماسك لم يتلق ولن يتلقى مثل هذه الإفادات الخاصة بخطط البنتاغون العسكرية".

لكن يبدو الارتباك سيد الموقف، لا سيما بعدما نشرته مجلة "بولتيكو" في شأن وضع مسؤولين كبيرين في البنتاغون في إجازة إجبارية في إطار تحقيق عمن قام بتسريب الملعومات.

"بولتيكو" تشير إلى أن دان كالدويل المستشار البارز لوزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث، ودارين سيلينك نائب رئيس أركان البنتاغون، تم إيقافهما عن العمل، ويشك في أنهما هما من سرب المعلومات.

هل يعني ذلك أن رجالات البنتاغون، هم الذين أرادوا فضح ماسك؟

المؤكد أن المشهد الداخلي لوزارة الدفاع الأميركي ربما يكون أسوأ من ذلك بكثير.

الشعبويون والانقلاب على العسكريين

هل يمكن بالفعل اعتبار الأمر بمثابة انقلاب من جهة الشعبويين على العسكريين؟

يتصدى للجواب عن علامة الاستفهام المتقدمة، رونالد ر. كريس الأستاذ المميز في جامعة ماكنيت وأستاذ العلوم السياسية في جامعة مينيسوتا.

خلال حملته الناجحة لإعادة انتخابه في عام 2024، وعد الرئيس الأميركي ترمب بتطهير الجيش ممن سماهم "الجنرالات المستيقظين". وبعد وقت قصير من فوزه في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن فريقه الانتقالي صاغ أمراً تنفيذياً لإنشاء ما يسمى بمجلس المحاربين من كبار الضباط العسكريين المتقاعدين المكلفين بتحديد الجنرالات والأدميرالات العاملين الذين يجب فصلهم. وفي الوقت نفسه، وفقاً  لتقارير إعلامية أخرى، كان فريق ترمب يضع قائمة خاصة به من لجنرالات الذين يجب عزلهم من مناصبهم وربما حتى محاكمتهم عسكرياً.

هل في الأمر مفاجأة بالفعل؟

المؤكد لا، ذلك أنه لا ينبغي أن يكون مفاجئأ أن تضع إدارة ترمب المؤسسة العسكرية في مرمى بصرها، فعندما يتولى الشعبويون  السلطة للمرة الأولى، غالباً ما يحاولون كسب ود القوات المسلحة من خلال تشجيع الجمهور على تبجيل الضباط والجنود، وخصوصاً القتلى منهم.

لكن هذه العلاقة الغرامية مع الجيش عادة ما تكون قصيرة الأجل، لأن الشعبويين لا يستطيعون تحمل المؤسسات القوية المستقلة التي قد تمنعهم من فعل ما يحلو لهم.

أثبتت التجربة والعهدة على رونالد ر. كريس، أنه في بلدان مثل   المجر والهند وإسرائيل وبولندا وتركيا، انقلب الزعماء الشعبويون  في نهاية المطاف على المؤسسة العسكرية، إذ هاجموا كبار  الضباط على نحو مختلف باعتبارهم نخباً غير كفوءة  أو خائنة،  وطردوا أولئك الذين اعتبروهم غير مخلصين وعينوا حلفاء سياسيين بدلاً منهم، واستولوا على الوظائف العسكرية المستقلة  تقليدياً، وأعادوا تصميم هياكل القيادة العسكرية.

أدت الهجمات الشعبوية عادة لتقويض ثقة العوام في كبار القادة  العسكريين، وجعلت جهودهم لتسييس المؤسسات العسكرية في بلدانهم أقل قدرة على التعامل مع التهديدات الأمنية الوطنية،

هل هذا ما يحدث في الداخل الأميركي بالفعل؟

يبدو جلياً أنه لا ينبغي لأحد أن ينخدع بادعاء فريق ترمب بأنه يهدف من خلال خفض أعداد كبار الضباط إلى تعزيز قوة الجيش الأميركي، والواقع أن الغرض من ذلك سيكون العكس تماماً، إذ إن إضعاف الجيش المحترف هو في واقع الأمر خطوة يلجأ إليها عدد من الزعماء الشعبويين في سعيهم إلى تعزيز سلطاتهم، وإذا  استخدم ترمب مثله كمثل رفاقه الشعبويين في مختلف أنحاء العالم، ولايته الثانية - كما يبدو بالفعل اليوم - لتقويض استقلال الجيش واحترافيته، بل وتحويله إلى قوة أكثر تسييساً، فستعاني الديمقراطية الأميركية وقدرة القوات المسلحة الأميركية على خوض الحروب.

السؤال الأخير: إلى أي حد يمكن للمؤسسة العسكرية وللمجمع  الصناعي العسكري ولمجمع الاستخبارات، وجميعهم أطراف فاعلة ونافذة عبر التاريخ الأميركي الطويل، احتمال ملامح ومعالم هذه الشعبوية الأميركية التي باتت تضع البنتاغون كهدف واضح على لوحة الرماية في الوقت الحاضر؟ وهل يعني ذلك أن احتمالات أكثر قلقاً يمكن أن تجري بها المقادير في داخل الجمهورية الأميركية؟

المزيد من تقارير