Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بلد مر" رواية بالفرنسية عن التناقض الوجودي اللبناني

جورجيا مخلوف تسرد مسرى حياة امرأتين مصورتين تمردتا على المجتمع الذكوري

لوحة للرسام اللبناني جميل ملاعب (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

تنسج الكاتبة والناقدة الأدبية اللبنانية - الفرنسية جورجيا مخلوف رابطاً ساحراً بين مصورتين لبنانيتين، يفصل بينهما 100 عام في روايتها "بلد مر"  pays amer الصادرة حديثاً في باريس (برس دو لا سيته، 2025).

يحتل الطباق في عنوان رواية "بلد مر" موقع الصدارة في توصيف الكاتبة جورجيا مخلوف للبنان، المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية. كأن تشير الكلمة الفرنسية "amer" بصيغة النعت إلى ما يسبب المرارة والحزن والخيبة، وبصيغة الاسم إلى جسم ثابت، بارز يوضع على الشاطئ أو في البحر بغرض الإرشاد وتحديد الاتجاهات والمسارات الواجب اتباعها للوصول إلى اليابسة، في تعبير عن الازدواجية التي ينظر من خلالها كل لبناني إلى وطنه الذي أدمته الحروب والاقتتالات، لكنه بقي، على رغم المرارات والخيبات، البوصلة التي تحدد الاتجاه.

تدور حبكة الرواية حول مسرى حياة امرأتين تمردتا على المجتمع الذكوري ورفضتا الخضوغ لإملالآت أسرتيهما. الأولى رائدة من رواد فن التصوير الفوتوغرافي في لبنان، سليلة عائلة عريقة ولدت مع غروب القرن الـ19 تدعى ماري الخازن (1899-1983)، وأصبحت رمزاً للمرأة التي تريد تحقيق ذاتها خارج سياق العادات والتقاليد، بعد أن تفتحت موهبتها الفنية في بدايات القرن الـ20 وناضلت من أجل أن تبقى أعمالها الفوتوغرافية محفوظة في تاريخ لبنان. أما المرأة الثانية فهي منى، الشخصية الرئيسة الهامشية والمعاصرة التي تسعى إلى إيجاد مكانة لها تحت الشمس، وهي أيضاً مصورة فوتوغرافية شابة يشهد مسار حياتها على الأزمات اللبنانية المختلفة التي لا يزال يتخبط بها الوطن الصغير، التي تحكي الرواية أيضاً أحداث حياتها، واصفة لنا أعمالها التي تصور لبنان عموماً ومدينة بيروت خصوصاً، وأصبحت الكاميرا سبيلها الوحيد لمقاومة التقاليد والأعراف، ووسيلتها الفضلى في مواجهة النسيان الذي يلف أحياء المدينة وناسها.

أشياء وأبعاد

ولعل منى في تأطيرها لصورها الفوتوغرافية التي تحول الأشياء العادية إلى مشاهد تحمل أبعاداً ومعاني جديدة، تسهم على طريقتها في إعادة تشكيل المدينة وبيئتها التي تتعرض للدمار، لافتة الانتباه إلى أمور معينة لم يعد الناس يرونها، وهذا بالضبط ما فعلته أيضاً قبلها ماري التي كانت عدسة الكاميرا سلاحها الذي التقطت بواسطته شظايا الواقع بعد أن منحته دلالات جديدة. فقد عكست الصور التي التقطتها عدسة هذه المصورة الفوتوغرافية في زمانها صورة نادرة لامرأة حرة تحدت على طريقتها كل أشكال القيود الاجتماعية، وحتى لا يقع السرد الروائي في فخ التأريخ والتوثيق، لم تقدم جورجيا مخلوف شخصية الخازن بصورة مباشرة، بل دمجت بين شخصيتها وشخصية بطلتها التي تدعى ماري كرم ناسجة طبعها من يوميات الخازن المتخيلة وذاكرتها المصورة وما كتب عنها وعن منزلها. وابتكرت أيضاً شخصية منى، وهي الشخصية الأخرى المعاصرة والموازية لشخصية ماري، التي تنطلق منها لترسم صورة هذه الرائدة ولتطرح الإشكالات التي فرضها عليها الواقع اللبناني الراهن، علماً أن كل شخصية من شخصيات الرواية، بما فيها الثانوية، هي شخصيات أساسية، يؤثر بعضها في بعضها الآخر، ويكتشف بعضها بعضها الآخر.

تبدأ الرواية باكتشاف منى يوميات ماري كرم المرمية في بيتها المهجور الواقع في إحدى مدن شمال لبنان، وحفظت إلى جانب مجموعة كبيرة من الصور التي تشهد على موهبتها الاستثنائية في فن التصوير الفوتوغرافي. فتبدأ بقراءتها وقد هالها ما اكتشفته في صورها وما عرفته عنها من خلال مذكراتها. فماري كرم، امرأة غريبة الأطوار تصطاد مثل الرجال وتحيط نفسها بالحيوانات، سواء الحية أو المحنطة.

مدفوعة بفضولها، تبدأ منى بالبحث عن ماري. قراءة هذه المذكرات تفتح أمامها أبواباً كانت موصدة من تاريخ لبنان في أوائل القرن الـ20. ولعل علاقة ما حسية نشأت بين المرأتين على رغم الفارق الزمني الفاصل بينهما. إذ سيطر شبح ماري على منى التي بدأت تتقصى تفاصيل حياة هذه المرأة وتصرفاتها وتتعرف على أعمالها الفوتوغرافية، هي ابنة العائلة الميسورة، التي التقطت صوراً جريئة لنساء تصرفن كالرجال وتعلمن التدخين والصيد البري وقيادة السيارات وارتداء البذلات الرجالية واعتمار الطربوش، إلى جانب التقاطها صوراً كلاسيكية عديدة حفظت ذكريات العائلات ووجوه أفرادها ومشاهد حياتهم اليومية.

تشبه منى بمعنى ما ماري، فهي مثلها اختارت مهنة التصوير الفوتوغرافي التي نظرت إليها عائلتها بازدراء، بوصفها مهنة هامشية لا تليق ببنات العائلات، وعاشت قصة حب خارج العلاقة الزوجية وعرفت علاقات جنسية عابرة قادتها إحداها إلى الإجهاض، هي التي رفضت الزيجات التقليدية والاهتمام بالأثواب والتسريحات الأنثوية، فتعرضت كسليلة الأسرة الخازنية للنبذ من عائلتها، وللتهميش من المجتمع بسبب انصرافها للعيش بمفردها وإلى ممارسة مهنة التصوير وإلى الانخرط في النضالات الاجتماعية ضد الفساد السياسي وعجز السلطة الحاكمة.

الحرية بين الماضي والحاضر

روت مخلوف سيرتي منى وماري المتعطشتين إلى الحرية بأسلوب أدبي رشيق، يأخذ القارئ عبر أزمنة متشابكة، تتداخل فيها الحكايات بين الماضي والحاضر في سرد يجمع بين الأمكنة والأزمنة، وبين التوثيق التاريخي والخيال، فالرواية عبارة عن توليفة تعكس واقع النساء اللبنانيات اللاتي حملن وما زلن جراح الوطن وأزماته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتحدين منذ قيامه في عشرينيات القرن الماضي العقليات والقواعد الصارمة التي وجب عليهن اتباعها، فقط لكونهن نساء. وصنع بعضهن كماري الخازن وجه لبنان الجميل، علماً أنه في زمن الخازن كانت الحركة النسوية بدأت في مصر بعد اتصال النخب المصرية المثقفة بفرنسا منذ إرسال محمد علي باشا أولى بعثاته العلمية، التي كان من جرائها قيام بعض النساء المتعلمات بنقد بعض العادات المجتمعية الذكورية مطالبات بتعليم المرأة وانخراطها في الحياة الاجتماعية والعملية. فليس مصير الفتيات انتظار الزوج، الذي من دونه لا يكون لهن كيان ولاحياة.

هكذا أرادت ماري تحرير نفسها وعيش شغفها بالتصوير الفوتوغرافي، فاعتبرت عاراً على عائلتها، وحرمت من حقها في الميراث لرفضها الزواج وعدم انجذابها للرجال وميولها الجنسية المثلية التي لم تفصح عنها، ولقصها شعرها وتدخينها السجائر وممارستها هوايات ذكورية كالتصوير والصيد وحفظ الطرائد والوحوش وركوب الخيل وارتداء ملابس ذكورية وذاك الشمبانزي الذي لم يفارق كتفها أو جيب قميصها الواسع، وتنظيمها معرض لصورها ظهرت فيه نساء يرتدين لباس الرجال.  كان من نتيجة خيارات هذه المرأة أن أودعها شقيقها المصحة العقلية، حيث تعرفت على مي زيادة، وتخيلت الكاتبة لقاء مؤثراً بينهما، بعد أن أودعت مي أيضاً على يد ابن عمها المصحة نفسها طمعاً بميراثها مدعياً أن لديها ميولا انتحارية.

 إلى جانب هذه الإشكاليات، تتناول الرواية أيضاً مسألة تطور المجتمع اللبناني. غير أنها تقول لنا إن الضغط الأسري والاجتماعي، على رغم التقدم والتغييرات التي أصابت هذا المجتمع، ما زال يلقي بثقله على كاهل المرأة اللبنانية المعاصرة. "فالأشياء تتغير في الظاهر، لكن جدران السجن ما زالت قائمة".

عصر النهضة

تستكشف رواية جورجيا مخلوف إذاً مسألة تحرير المرأة من خلال تسليطها الضوء على مسرى حياة بطلتيها، وعبرهما، على أسماء نساء رائدات من عصر النهضة العربية أسهمن في إطلاق مجموعة من المجلات والصحف كرسنها لقضيتهن، بعد أن برعن في إلقاء المحاضرات وكتابة المقالات التي طالبت بضرورة إنصافهن وتحريرهن من القيود التي تكبلهن، كملك حفني ناصف المعروفة بباحثة البادية وهدى شعراوي وجوليا طعمة دمشقية، وهي أول لبنانية في مجال الصحافة، أنشأت مجلة "المرأة الجديدة" وأسست جمعيات مثل "تهذيب المرأة" و"الاتحاد النسائي"، والكاتبة والمترجمة عنبرة سلام الخالدي التي نقلت إلى اللغة العربية رائعتي هوميروس "الإلياذة" و"الأوذيسة"، وكانت أول امرأة تجرأت على نزع حجابها أثناء إلقائها محاضرة في الجامعة الأميركية في بيروت، وغيرهن، طارحة مسألة الذاكرة الجماعية في بلد يتأرجح بين الازدهار والانهيار. في الرواية نكتشف أيضاً أسماء شخصيات نسائية ونسوية فرنسية كجورج صاند وكوليت وكميل كلوديل وكلود كاهان، وقد نجحت مخلوف في إدخالهن في متن سردها حتى لا يلف أسماءهن النسيان.

وتتوقف الرواية مطولاً أمام مفهوم الصورة الفوتوغرافية التي قال عنها رولان بارت إن أول ما تنسخه لم يحدث وجودياً سوى مرة واحدة، ولو كان بإمكانها أن تكرر ميكانيكياً ما لا يمكن أن يتكرر بالفعل. فقد أصبحت هذه الصورة بعرف الروائية فعل مقاومة في مواجهة النسيان، هي التي أفضت إلى تحولات داخل ثقافة القرن الـ20، فأحدثت تغييرات بنيوية في التعبير والتواصل بين البشر، مؤبدة اللحظة، مؤطرة الزمان والمكان وكل ما اندثر،  في عصر تسارع فيه تغير المجتمع اللبناني على إيقاع اتصاله بأوروبا.

لغة الرواية قوية وجذابة، تتسم بثقافة مخلوف الواسعة وبجمالية وصفها وعمق مشاعرها وتمكنها من معرفة الحقبة التاريخية التي تدور فيها الأحداث، مما يجعل القارئ يشعر وكأنه يتجول في أمكنة وأزمنة السرد، وهي على التوالي أحياء بيروت التي تفككت أوصالها مع انفجار المرفأ وما تبعه من مآس ونكبات طاولت شوارع الجميزة ومار مخايل ومونو وغيرها، ومدن الشمال، لا سيما زغرتا حيث عاشت ماري الخازن أو كرم في قصرها الرائع، الذي قاد منى إلى اكتشافه مازن ياسين، وهو في الواقع اسم الشخصية التي تمثل محسن يمين، الأديب والمؤرخ والباحث المرجع في تاريخ فن التصوير الفوتوغرافي في لبنان، وأصبح اليوم قصراً مهجوراً بالكامل وهو الذي يظهر أيضاً على غلاف الرواية.

يوميات متخيلة

انطلاقاً إذاً من سيرة ماري الخازن ودفاتر يومياتها المتخيلة التي تبدأ في عام 1911، ويوميات منى، البطلة المعاصرة الثلاثينية، تبني مخلوف عوالم روايتها التي تطرح في الوقت نفسه إشكايات عديدة ترتبط كلها بأحوال لبنان السياسية والاجتماعية وأزماته المعيشية والتي تثير تساؤلات أساسية تتعلق بالعقليات والأنماط التي وضع المجتمع العربي عموماً واللبناني خصوصاً المرأة في إطارها. وبين ذكريات الماضي ويوميات الحاضر المرير يأخذنا السرد ومساره الحكائي وشخصياته وأبطاله التي نجحت مخلوف في الربط بينها إلى عالم غني بالأحداث تسعى النساء فيه إلى تأكيد حضورهن ووجودهن وحقهن بعيش حياتهن كما يردن لا كما يريد المجتمع والعائلة. ولئن كان فن التصوير الفوتوغرافي هو الجسر الذي يربط بين العصرين، فإنه أصبح من دون أدنى شك، الشاهد على تغير صور البلد الجميل بجباله وشواطئه، الذي كان في ما مضى قبلة عدد من الجنسيات والأعراق والأديان المختلفة ومقصد المضطهدين الذي يمر اليوم بظروف صعبة سياسية وأمنية واجتماعية، أدت إلى خروج مئات الآلاف من أبنائه إلى الشوارع مطالبين بإجراء إصلاحات شاملة، بعد أن عانوا طويلاً الفساد والصدام والتناحر، ومن الحروب الداخلية والخارجية التي أدت إلى التهجير والنزوح وتدمير الاقتصاد وسقوط مئات الآلاف من القتلى والجرحى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولا بد في هذا السياق من الإشارة إلى العلاقة الوثيقة التي تربط بين شخصيتي الرواية ومدينة بيروت، فماري ومنى تشبهان بسحرهما العاصمة اللبنانية، لكنهما مثلها ذاقتا طعم المرارة. ذلك أن التغيرات العمرانية التي طاولت المدينة وقضت على كثير من تراثها وذكريات أماكنها وشوارعها، منذ أن فككت الحروب أوصالها وعمها الدمار والفوضى والنفايات وجشع المطورين العقاريين وانفجار المرفأ جعلت منها مدينة مرة. لكن بيروت ما زالت على رغم كل شيء تتمتع بجاذبية مجنونة وسحر لا يقاوم، يجعل كل أبنائها وزوارها يقعون في حبها ولو رصدوا بأعينهم تفكك صورها العالقة في ذاكراتهم المشتتة في مدن المهجر التي تحاول قدر المستطاع استعادة الماضي وذكريات الشوارع والأزقة. بيروت مدينة متعددة الوجوه، فيها يلتقي البذخ والخراب، والفساد والعظمة. ففي حين تلتقط صور ماري كرم حيوية بلد في طور التأسيس، وتؤبد عدسة كاميرتها روعة طبيعته وأناقة مجتمعه الكوزموبوليتي في عشرينيات القرن الماضي، تعكس عدسة منى واقعاً أشد قسوة، يظهر المدينة مثخنة بالجراح نتيجة الحروب والأزمات المتلاحقة. هذه الازدواجية الزمنية تتيح للروائية استكشاف الشعور بالمرارة الذي يخيم على المجتمع اللبناني المعاصر، المتعلق بحنين إلى زمن بدا فيه كل شيء ممكناً.

ليس من شك أن مخلوف أرادت من خلال روايتها تسليط الضوء على ضرورة إعادة تأهيل بيروت وحفظ ذاكرتها وتراثها المعماري وتخطيطها المدني وأسماء شوراعها وإرث أبنائها وبناتها وذاكراتهم وعلى رأسهم ذاكرة ماري الخازن، بدءاً من بيتها الذي أصبح اليوم في حالة خراب، على رغم أنه تحفة معمارية تراثية. ولئن كان لبيروت جاذبية لا تقاوم، وسحراً خطراً يتغلغل في الروح، فإن لشخصيتي منى وماري اللتين دفعتا ثمن رفضهما القواعد الصارمة التي تحدد الأدوار بين الذكور والإناث، ونظرتا إلى الفن كسبيل من السبل القادرة على منح المرأة حرية التعبير عن ذاتها، الجاذبية ذاتها.

باختصار، مع رواية جورجيا مخلوف يسافر القارئ عبر التاريخ معرجاً على بدايات الحركة النسوية في مصر ولبنان، وعلى تطور فن التصوير الفوتوغرافي، وعلى قصص بيروت، ويعود للحاضر الواقع على إيقاع الحنين إلى ماض بدأ يغيب. ومع تناوب الفصول بين يوميات ماري وتلك المخصصة ليوميات منى البيروتية، التي تخيلت الروائية حياتيهما وشخصيتيهما الاستثنائيتين في سرد يتصاعد فيه التشويق الحكائي، ولو انتهى الأمر بانهيار واحدة منهما، تقدم رواية "بلد مر" لوحة  وعملاً أدبياً متكاملاً يجمع بين السرد الجميل والخلفية التاريخية الغنية والطرح الإنساني العميق.

جورجيا مخلوف كاتبة وصحافية وناقدة أدبية، تعيش بين باريس وبيروت. سبق لها أن ونشرت رواية  الغائبون" (2014)، التي فازت بجائزتي سنغور وأوليس ورواية "بورت أو برنس، ذهاب وإياب (2019).

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة