Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إعمار دون تهجير... هكذا تفيد التجارب الدولية

ألمانيا حققت معجزة اقتصادية واليابان تغلبت على تبعات الاستسلام والدعم الدولي أحيا البوسنة

فلسطينيون يشعلون النار للتدفئة فوق الركام في مخيم جباليا شمال قطاع غزة (رويترز)

ملخص

تسعى الدول العربية إلى تقديم رؤية لإعادة إعمار قطاع غزة من دون تهجير سكانه، وتستند في ذلك إلى نماذج وأمثلة كثيرة عبر التاريخ لدول دمرتها الحروب وعادت ونهضت بفعل الخطط الاقتصادية والإصلاحات ودعم المجتمع الدولي.

النهوض من تحت الركام مهمة تبدو عسيرة اليوم في قطاع غزة، لكن التاريخ يثبت أنها ليست مستحيلة في حال توافر الإرادة، فعديد من الدول خاض تجربة إعادة الإعمار بعد الدمار شبه الشامل، وأعاد مواطنوها دولهم إلى الحياة في سنوات قليلة.

في مايو (أيار) 1945 كانت ألمانيا في حال من الدمار لم يشهدها العالم من قبل، وحسب وصف دراسة نشرها مركز "التاريخ والسياسة"، ومقره بريطانيا، فقد كان الدمار لا بد أن يرى حتى يصدق، حيث دمرت 66 في المئة من المنازل في كولونيا و93 في المئة منها في دوسلدورف وأصبحت غير صالحة للسكن، كما تم تدمير نحو 80 في المئة من المباني التاريخية بفعل قذائف جيوش الحلفاء، لذلك فإن الغالبية العظمى من المباني في ألمانيا حالياً بنيت بعد عام 1948، وفقاً لمجلة "دير شبيغل". كذلك، أصبح ملايين الناس بلا مأوى، أو يحاولون العودة إلى منازلهم التي لم تعد موجودة، سواء المدنيون الذين تم إجلاؤهم من المدن أو أصحاب العرق الألماني الذين طردوا من دول شرق أوروبا. على الصعيد السياسي، تحول البلد الذي احتل معظم أوروبا في بضع سنوات إلى غنيمة تتقاسمها 4 دول يحتل كل منها جزءاً من أراضيها، هي الاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، حيث فضل الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين تفكيك ألمانيا وتقسيمها حتى لا تتمكن من العودة إلى قوتها السابقة لتهديد السلام والأمن الأوروبيين مرة أخرى، بحسب موقع أرشيف وزارة الخارجية الأميركية. وفي مؤتمر طهران بين الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت وستالين عام 1943، اتفقت الدولتان على تقسيم ألمانيا واحتلالها بصورة مشتركة بعد الحرب، مع تحمل كل قوة من قوى الحلفاء المسؤولية عن قسم واحد، على رغم أنهما ستحكمان كوحدة اقتصادية واحدة تحسباً لإعادة توحيدهما في نهاية المطاف.
وعقب الحرب وجدت ألمانيا نفسها تفتقر لمعظم القوة العاملة، حيث كان غالب الرجال بين 18 و35 سنة قد قتلوا أو أصيبوا خلال الحرب، كما كان المواطن الألماني يعاني نقصاً في المواد الغذائية، بعدما خفض الحلفاء السعرات الحرارية اليومية الممنوحة لكل مواطن إلى نحو 1500 سعرة حرارية، بعدما كانت عند مستوى منخفض بالأساس في عهد الزعيم النازي أدولف هتلر (2000 سعرة حرارية).

خطة مارشال

وبعد أشهر من الفوضى، بدأت سلطات الاحتلال في التعامل مع الحاجات العاجلة للشعب الألماني، ففي المنطقة التي سيطرت عليها بريطانيا، أطلق الجنرال برنارد مونتغمري ما أطلق عليه "معركة الشتاء"، لتأمين الغذاء والوقود والعمل والمنازل، وفي سبتمبر (أيلول) 1945 بدأ العمل على فتح المدارس والسماح بحرية التجمع، وترخيص الأحزاب السياسية، والاستعداد للانتخابات المستقبلية.
ومن رحم تلك المعاناة، خرجت ألمانيا بما يسمى المعجزة الاقتصادية، وفق دراسة نشرتها "كلية لندن" العام الماضي، والتي استندت إلى خطط اقتصادية تركزت بالأساس في منطقتي الاحتلال البريطانية والأميركية، ارتكزت على العقيدة الاقتصادية الليبرالية، عبر إقرار المارك الألماني عام 1948 بدلاً من العملة السابقة "الرايخ مارك" التي فقدت معظم قيمتها عقب الحرب، إضافة إلى إعادة هيكلة الديون وتوحيدها، فضلاً عن استحداث نظام ضريبي يشجع استثمار رؤوس الأموال.
كما لعبت الخطة الأميركية لإعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، المعروفة باسم "خطة مارشال"، دوراً كبيراً في دعم خطة التنمية الاقتصادية بألمانيا، وذلك في إطار الجهود الأميركية الأوسع لمكافحة الشيوعية في أوروبا، وفق موقع متحف الحرب العالمية الثانية في ولاية نيو أورليانز الأميركية. وبلغ إجمال الإنفاق الأميركي على خطة مارشال، 13 مليار دولار. كما أسهم شطب بريطانيا ديون ألمانيا عام 1953 في إخراج البلاد من أزمتها.


دور الشعب الألماني

إعادة بناء البنية التحتية والمصانع بوتيرة تفوق التوقعات، حسب وصف دراسة نشرتها جامعة كامبردج البريطانية عام 2020، بعنوان "الأعباء والبدايات: إعادة بناء ألمانيا الشرقية والغربية بعد النازية"، ترجمت إلى تحقيق نسب نمو بمتوسط 7 في المئة سنوياً بين عامي 1946 و1975، وانخفضت نسبة البطالة من 11 في المئة عام 1950 إلى 0.7 في المئة عام 1965.

كان للشعب الألماني دور حاسم في إعادة إعمار البلد بعد الحرب العالية الثانية، حيث ظهرت مهمة من سموا بـ"نساء الأنقاض" اللاتي عملن على إزالة الركام الذي بلغ في ألمانيا الغربية وحدها 14 مليار متر مكعب، بما يكفي لبناء سور بارتفاع 7 أمتار وبسمك مترين حول الجزء الغربي من الدولة المقسمة في ذلك الوقت، وفق مجلة "دير شبيغل".
وعلى عكس الفوضى وغياب أجهزة الدولة في ألمانيا، حافظت الحكومة اليابانية على وجودها، بحسب كتاب أصدره مركز "راند" البحثي، بعنوان "الدور الأميركي في بناء الدول: من ألمانيا إلى العراق"، وذلك على رغم استسلام طوكيو أمام الولايات المتحدة التي عملت على احتلال الأرخبيل بالتحالف مع بريطانيا والاتحاد السوفياتي والصين الذين كانوا جزءاً من "مجلس الحلفاء"، الذي ظلت فيه الكلمة العليا لواشنطن، وفق مكتب التأريخ التابع لوزارة الخارجية الأميركية.

إعادة بناء اليابان

لكن اليابان وألمانيا تشابهتا في حجم الدمار، إذ لقي أكثر من 2.5 مليون ياباني حتفهم منذ هجوم "بيرل هاربور" في ديسمبر (كانون الأول) 1941 وحتى الاستسلام في أغسطس (آب) 1945، بما في ذلك أكثر من 500 ألف مدني. كما احترقت أجزاء كبيرة من طوكيو وعديد من المدن الأخرى وتحولت إلى رماد، ودمرت ثلث الثروة القومية للبلاد، وفق موقع هيئة التعاون اليابانية "جايكا". كما تم تدمير 40 في المئة من المناطق الحضرية بصورة عامة، وتشريد 30 في المئة من سكان اليابان، إضافة إلى تداعيات أخرى للحرب أبرزها وجود 4.5 مليون جندي تم تسريحهم بسبب الإصابة أو المرض، مما أدى إلى استنزاف هائل للقوى العاملة اللازمة لإعادة بناء البلاد، كما تفشت أزمات نقص الغذاء، وزيادة الفساد، والأمراض المعدية، وإدمان الكحول والمخدرات، والجرائم، حسب دراسة لجامعة "باركلاند كوليدج" الأميركية. وأمام تقلص الإنتاج الصناعي بنسبة 30 في المئة والزراعي بنسبة 60 في المئة عام 1946، كان على الاقتصاد الياباني التعامل أيضاً مع 7 ملايين مواطن عادوا إلى البلاد من الخارج، وفق موقع وزارة الخارجية اليابانية.
وخلال الاحتلال الأميركي لليابان، عملت قيادة الجنرال دوغلاس ماك آرثر على إعادة بناء البلاد، عبر ثلاث مراحل، هي معاقبة اليابان وإصلاحها، والعمل على إحياء الاقتصاد الياباني، وإبرام معاهدة سلام رسمية وتحالف. فعلى الصعيد الاقتصادي، عملت الإدارة الجديدة على تنفيذ خطة للإصلاح الزراعي بالحد من سلطة ملاك الأراضي الأثرياء، الذين دعا عديد منهم إلى الحرب ودعم التوسع الياباني في ثلاثينيات القرن الـ20.

إحياء الاقتصاد

حاول ماك آرثر أيضاً تفكيك التكتلات التجارية اليابانية الكبيرة التي عرفت باسم "زايباتسو"، كجزء من الجهود المبذولة لتحويل الاقتصاد إلى نظام رأسمالي للسوق الحرة. لكن الأزمة الاقتصادية في اليابان والمخاوف من انتشار الشيوعية دفعا واشنطن إلى إعادة النظر في سياسات احتلال اليابان، مما أدى إلى مرحلة يطلق عليها "المسار العكسي" وفق تعبير موقع "هيستوري" التابع للخارجية الأميركية، حيث احتلت إعادة تأهيل اليابان اقتصادياً صدارة اهتمامات إدارة الاحتلال، عبر الإصلاحات الضريبية والسيطرة على التضخم، فيما كانت المشكلة الأخطر هي نقص المواد الخام لتغذية الصناعات اليابانية، إلا أن الحرب الكورية اعتبرت فرصة لإنقاذ الاقتصاد الياباني، حيث أصبحت اليابان مستودع الإمدادات الرئيس لقوات الأمم المتحدة. كما أن تحديد سعر صرف الين عند 360 يناً للدولار في ديسمبر (كانون الأول) 1949، وفرض برنامج تقشف للحفاظ على قيمة الين، ساعد على استقرار العملة والأسعار، وبات من الممكن التحول إلى اقتصاد السوق الحرة. وبرحيل الاحتلال الأميركي عام 1952، واصلت الحكومة دعم تشغيل المصانع والمصارف والمجموعات العائلية لبناء شركات صناعية وتجارية ضخمة، مما دفع نمو مجموعات كبيرة مثل "ميتسوبيشي" وتوسعت أخرى أصغر كانت موجودة قبل الحرب، مثل "تويوتا". واستمرت المعجزة الاقتصادية اليابانية لتتمكن طوكيو عام 1968 من أن تصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

دعم البوسنة

بعد 50 عاماً على نهاية الحرب العالمية الثانية، شهدت أوروبا مأساة إنسانية جديدة، فالحرب في البوسنة والهرسك أودت بحياة 250 ألف شخص، ودمرت أو تضررت 60 في المئة من مباني العاصمة سراييفو.
وبحسب دراسة للباحث أحمد أمل، نشرها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، تلقت البوسنة والهرسك في أعقاب الحرب مساعدات لإعادة الإعمار تقدر قيمتها بنحو 1400 دولار للفرد. وأوضحت الدراسة أن البنك الدولي لعب الدور الأبرز في تنسيق عمليات إعادة الإعمار، عبر تقديم مساعدات عاجلة لجهود إزالة تداعيات الحرب، إضافة إلى تطبيع وضع البوسنة والهرسك، كدولة جديدة مستقلة ذات سيادة تتمتع بعضوية البنك الدولي وتتلقى المساعدات وفق إجراءاته المعتادة، بحيث شكلت المساعدات العاجلة نقطة الانطلاق القوية لبرنامج إعادة الإعمار في البوسنة والهرسك، عبر استحداث صندوق ائتماني خاص يبلغ حجم أرصدته 150 مليون دولار، تركز استخدامها على قطاعات الزراعة والطاقة والنقل، حيث أعيد تأهيل 180 كيلومتراً من الطرق، وإعادة تشغيل عدد من خطوط سكك الحديد خاصة تلك المرتبطة بالعاصمة سراييفو، إضافة إلى دعم أسعار وقود السيارات، وإعادة تشغيل محطات تنقية المياه، وشبكات التدفئة، وإعادة تأهيل المدارس.
وعلى رغم الدور الحيوي للمجتمع الدولي في إعادة الإعمار في البوسنة والهرسك، فقد شابت التجربة مشكلة الاعتماد على المساعدات الخارجية، بما يتجاوز سد الحاجات العاجلة للتعامل مع الأضرار الناجمة عن الحرب، إلى سمة مستدامة لاقتصاد البلاد. ورأت الدراسة السابقة أن ما حدث في البوسنة والهرسك يختلف عن التجربة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية التي استفادت من خطة مارشال الأميركية في إعادة تأسيس اقتصاد قوي ومستقل.

إعمار غزة

وبقياس التجارب التاريخية السابقة لإعادة الإعمار كان القاسم المشترك هو مشاركة مواطني تلك الدول في إعمار بلادهم دون تهجير، وهي الرؤية التي تتبناها الدول العربية في مقابل دعوات التهجير التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترمب وحظيت بدعم الحكومة الإسرائيلية. ومن المرتقب أن تقدم مصر رؤية لإعادة إعمار القطاع خلال 3 سنوات، دون تهجير أهالي غزة وفق تصريحات لرئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي.
وتشير إحصاءات حكومة غزة التي تسيطر عليها حركة "حماس" أن 470 يوماً من الحرب الإسرائيلية على القطاع أدت إلى خسائر أولية تجاوزت 38 مليار دولار، إثر إلقاء نحو 100 ألف طن من المتفجرات على القطاع، مما أدى إلى تدمير نحو 90 في المئة من بنيته التحتية، حيث تضررت نحو 440 ألف وحدة سكنية بصورة كلية أو جزئية، مما جعلها غير صالحة للسكن. كما تضررت شبكات المياه والصرف الصحي وشبكات الطرق والشوارع وشبكات الكهرباء.
وخرج 34 مستشفى من الخدمة بسبب القصف الإسرائيلي، كما أدى تدمير 500 مدرسة وجامعة بالقطاع إلى حرمان نحو 800 ألف طالب وطالبة من التعليم.
وتفيد تقديرات الأمم المتحدة بأن إعادة إعمار قطاع غزة تتطلب أكثر من 53 مليار دولار، بينها أكثر من 20 ملياراً على مدى الأعوام الثلاثة الأولى.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير