Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خطة مارشال غير متاحة لأوكرانيا

الجغرافيا والواقع الجيو-سياسي يفرضان نموذجاً مختلفاً لإعادة البناء بعد الحرب

دمار في أعقاب قصف روسي على مدينة خاركيف في مارس  2022 (رويترز)

الموروث الأكثر متانة وقوة الذي خلفته خطة مارشال، البرنامج الأميركي الضخم لإعادة بناء اقتصاد أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، هو الرغبة الأكيدة في تكرارها (أي تكرار الخطة المذكورة)، فالتحديات الجيو-سياسية الهائلة تستدعي استمرار مناشدات لوضع خطط مارشال جديدة تعزز الاستقرار والازدهار، وكانت الأزمة المالية العالمية وجدت حلها في 2008 وأثارت الدعوات إلى خطة مارشال تخصص لجنوب أوروبا، والربيع العربي بدوره استعاد الأمر ذاته، فدعا لخطة مارشال للشرق الأوسط، واستدعت الحرب الأهلية في سوريا كلاماً على خطة مارشال تعيد بناء البلد المنكوب.

 لذا فأوكرانيا اليوم، وهي ضحية حملة تدمير مروعة ووحشية، ليست غير واحدة من البلدان المنكوبة التي تبعث الكلام في استرجاع الخطة الجذرية. "سيكون هناك خطة مارشال جديدة مخصصة لأوكرانيا"، فأعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي في مارس (آذار) الماضي، وذاك ما أيده رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، إذ أعلن أن مؤتمر الدعم في شهر مايو (أيار) هو بمثابة "نقطة البداية لما يشبه خطة مارشال أوروبية مخصصة لأوكرانيا".

 وقد تبدو أوكرانيا من الخارج أرضاً خصبة تصلح لخطة مارشال جديدة، فهي تشبه معظم الـ 16 التي مولتها خطة مارشال بين العامين 1948 و1952 شبهاً رئيساً، وهي إلى ذلك بلد أوروبي يعتمد اقتصاد السوق وينهض على أسس ديموقراطية ويحرص على مزيد من التقارب مع جيرانه الغربيين، ولدى أوكرانيا موارد غير مستغلة في مجالات إنتاج الطاقة والكيماويات والزراعة والإنشاء الصناعي، بيد أن أوكرانيا تعاني سمة ثابتة يعجز حتى أكرم مانحيها الأجانب عن تغييرها وهي الجغرافيا، فأوكرانيا تجاور من الشرق بلداً قوياً هو روسيا وحكومتها، ولا تريد هذه أن تنظر أوكرانيا إلى الغرب بغية الخلاص أو تحقيق النجاح كبلد مزدهر ومستقل، وروسيا في هذا الإطار ومن خلال التهديد وحده قادرة على إفشال أي خطوة تخطوها أوكرانيا في هذا الاتجاه. يمكن بالتأكيد لأصدقاء أوكرانيا الأغنياء في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية القيام بأمور كثيرة تساعد الشعب الأوكراني المنكوب في إعادة بناء البنية التحتية الأوكرانية المتضررة، ولكن من دون تعاون روسيا، أو على الأقل التزامها بعدم التدخل وهو أمر غير ممكن في الوقت الراهن أو في المستقبل المنظور، تبقى الفاعلية والنهوض اللذين حظيت بهما دول خطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية غير متاحين لأوكرانيا.

 

 

زبدة وسلاح

والخطأ الأساس الذي يرتكبه الداعون إلى خطة مارشال جديدة هو الافتراض أن جوهر برنامج إعادة البناء قام أولاً وأساساً على تمويل حكومي كبير، فمما لا شك فيه أن المبالغ المالية التي التزمت بها إدارة الرئيس ترومان بين العامين 1948 و1952 مهمة جداً، وهي بلغت 160 مليار دولار تقريباً وفق قيمة الدولار الراهنة، وفي الأثناء أنجزت سريعاً عمليات إعادة البناء والتعافي في البلدان الـ 16 التي شملتها خطة مارشال، ونما الناتج الاقتصادي بنسبة 60 في المئة، وهذه الواقعة تغذي الاعتقاد بأن تلك الدولارات كانت مصدر إنجاز النهوض برمته، بيد أن الاقتصاديين الذين حللوا ودرسوا التأثير المباشر للمساعدات (المالية) في انبعاث اقتصاد أوروبا الغربية استنتجوا أن ذلك التأثير كان معتدلاً، أما الأبحاث التي قمتُ بها شخصياً فتؤدي إلى أن هناك عوامل أخرى أقل قابلية للتحديد الكمي، كانت بالأهمية نفسها أو ربما أكثر أهمية من كل الدولارات، وأن العوامل اضطلعت على أقل تقدير بأدوار تكميلية حيوية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وجاءت مساعدات خطة مارشال من غير شك لتسهم في عكس اتجاه المد المتصاعد والتأثير السياسي للشيوعية، خصوصاً في فرنسا وإيطاليا، والعوامل المتممة الأساس لنجاح تلك المساعدات هي الضمانات الأمنية الموثوقة التي رعتها الولايات المتحدة، ولم تذكر هذه العوامل في المخطط الأساس الذي وضعته وزارة الخارجية الأميركية لخطة مارشال، ورمت أولاً إلى تعزيز القدرات الإنتاجية في البلدان المشمولة بالخطة في أسرع وقت ممكن كي يتسنى لتلك البلدان ضمان أمنها بنفسها، لكن إصرار فرنسا والمملكة المتحدة أدرج الوعود والالتزامات الدفاعية الأميركية جزءاً أساساً من برنامج الدعم، فمن دون مساعدات خطة مارشال ما كانت باريس ولندن، اللتان خشيتا تجدد النهوض الصناعي الألماني، لتتعاونان أبداً مع خطط الولايات المتحدة لإصلاح البنية التحتية الألمانية سريعاً وتدعيم إنتاج ألمانيا الصناعي الذي أثبت أنه محرك أساس في التعافي المذهل الذي حققته أوروبا الغربية، وذلك الدعم كان غير كاف لتجاوز الرفض الفرنسي والبريطاني لو لم توافق الولايات المتحدة على منح البلدين المذكورين ضمانات أمنية، ضمانات ضد مواقف عدائية قد تصدر من الاتحاد السوفياتي أو ألمانيا، وتلك الضمانات المنصوص عليها في الفقرة الخامسة من معاهدة شمال الأطلسي سنة 1949، وهي بمثابة نقلة نوعية وتحول في سياسة الولايات المتحدة الأميركية، فهذه السياسة المذكورة إلى سنة 1948 كان مقدراً لها أن تسحب الجنود والمعدات العسكرية الأميركية من أوروبا، وبين العامين 1945 و1948 انخفض الإنفاق الدفاعي الأميركي السنوي من 963 مليار دولار إلى 95 مليار دولار. لكنه في سنة 1949 عاد وارتفع إلى 128 مليار دولار، وبدأ الجنود الأميركيون يعودون لأوروبا، وتراجعت الولايات المتحدة عن خطة أميركية سابقة قضت بتجريد ألمانيا من قوتها الصناعية (عرفت بـ "خطة مورغنثاو Morgenthau Plan) وفك الارتباط مع أوروبا، وجدد التراجع هذا لإعادة الثقة في الاقتصاد (الأوروبي) والاستثمار الخاص في المنطقة (الأوروبية).

لن تجتذب أوكرانيا في أي وقت من الأوقات استثمارات كبرى فيما هي قابعة في ظل جارتها العدائية روسيا

ولأن كل الدول التي شملتها خطة مارشال لم تكن مصابة بالهشاشة الجغرافية، ولم تكن عرضة لتهديد الهجمات السوفياتية، على ما كانت عليه مثلاً تشيكوسلوفاكيا وبولندا للانخراط في خطة تعاف، تمكنت الولايات المتحدة وعلى نحو ثابت من ضمان أمنها، وهذا ما أتاح لدول خطة مارشال اندماجاً اقتصادياً سريعاً بدلاً من الاعتماد على نحو يائس على سياسات الاكتفاء الذاتي، واستجاب لتأمين إمدادات الفولاذ وغيره من المواد الملحة للدفاع عن النفس.

وكان لافتاً أن الولايات المتحدة التزمت بمبالغ سنوية ضخمة مقارنة بما التزمت به في سنوات خطة مارشال، وذلك إن ضمن جهود الإغاثة الأوروبية في 1946 و1947، من دون أن ينعكس الأمر مادياً على تعافي الاقتصاد، إذ إن تلك المساعدات الأوروبية السابقة عبر المؤسسة الجديدة التابعة للأمم المتحدة المعروفة بـ "إدارة الإغاثة وإعادة التأهيل"، أفشلها الاتحاد السوفياتي وقوض محاولات الدمقرطة والإصلاح الاقتصادي وتدفق الاستثمارات الخاصة على أوروبا الشرقية، وأفشلتها يوغوسلافيا الشيوعية التي أسقطت طائرات المساعدات الأميركية، ولكن إدارة الرئيس ترومان مضت على إصرارها على التحكم الكامل بأموال المساعدات الأميركية، وحصرتها في تلك الدول القادرة على الاستفادة الإنتاجية الكاملة منها.

واليوم، مع الألفية الجديدة، ما زالت التحديات نفسها قائمة، فالولايات المتحدة التزمت بـ 210 مليارات دولار لإعادة بناء ما هدمته الحرب في بلدين اثنين هما أفغانستان والعراق، أي أكثر من 50 مليار دولار (وفق القيمة الراهنة للدولار) مما التزمت به للدول الـ 16 التي شملتها خطة مارشال.

وعلى الرغم من ذلك لم تبق غير آثار قليلة تدل على ما حققته تلك الأموال، والسبب الرئيس لهذا الفشل هو عجز الولايات المتحدة عن إلحاق هزيمة بميليشيات "طالبان" في أفغانستان والميليشيات التي تدعمها إيران في العراق.

وفي بيئات هشة أمنياً بطبيعتها مثل هذه، ودول لم تكن أبداً منذ البداية صديقة لنهج الغرب في إصلاحات السوق، لا ينبغي توقع تدفق الاستثمارات الخاصة والأجنبية الضرورية لتحقيق النمو والتحول الاقتصادي المستدامين. والدرس من ذلك واضح اليوم، الأمن ينبغي أن يسود. الأمن أولاً. والإصلاح السياسي الإيجابي والإحياء الاقتصادي المدعوم بالمساعدات الأجنبية لن يتحققا إلا في أعقاب حقبة من الاستقرار.

الظل الروسي

ولا شك في أن البطولة الأوكرانية اللافتة وإرادة مقاومة العدوان الخارجي أكسبتا أوكرانيا احتراماً وتقديراً كبيرين في كل أنحاء العالم، إلا أن هذا البلد لن يتمكن من اجتذاب الاستثمارات الكبرى فيما هو ما يزال عالقاً في شباك روسيا العدائية، فهذه تبقى مستعدة وقادرة على الانقضاض على أوكرانيا وإلحاق الخراب فيها. والحق أن حلف الـ "ناتو" كان عاملاً راجحاً في نجاح خطة مارشال في وقت أن القضاء على احتمال انضمام أوكرانيا للحلف كان هدفاً معلناً للحرب الروسية. وإلى أن تكون الولايات المتحدة مستعدة لخوض النزال كاملاً وصولاً لمواجهة روسيا نووياً، فلن يكون في وسعها القضاء على الخطر المحدق بأوكرانيا واقتصادها.

والخلاصة المؤسفة واللازمة هي أن الأمن الداخلي والخارجي المديد والموثوق شرط سابق لأي خطة مارشال ناجحة في أوكرانيا، وهذا أمر تعجز الولايات المتحدة وحلفاؤها عن تأمينه، وإن قام هؤلاء بحشد برامج هدفها تقوية التوجه الغربي لأوكرانيا، قدرت روسيا القيام جدياً بتهديد أوكرانيا ومسؤوليها وحلفائها وشركائها التجاريين وكل استثمار فيها، وذلك بواسطة الهجمات السيبرانية والعسكرية والاقتصادية، ولنكن واضحين، لن يكون بوسعها غزو واحتلال أوكرانيا لكنها تبقى أكثر من قادرة على تحويل أوكرانيا إلى جهنم، معيشة واقتصاداً.

ولا ريب في أن مبادرات الإغاثة والمساعدات الإنسانية ضرورية طبعاً ومن حق أوكرانيا الحصول عليها، لكن يستحيل تأسيس ديمقراطية مستقرة ومزدهرة من دون الاستثمارات الخاصة الأجنبية، وتلك الاستثمارات لن تأتي إلى أوكرانيا إلا إذا تحصنت ضد سياسة نزع الملكية والتدمير، وحين تناول خطة مارشال لا يمكننا إلا التنبيه إلى الجغرافيا الملائمة واستعداد المانحين لردع أعداء الخطة وقدرتهم على إلحاق الهزيمة بأولئك الأعداء، فدول خطة مارشال الأولى حظيت بالاستعداد والقدرة هذين، لكن أوكرانيا للأسف تفتقر إلى كليهما.

*بن ستيل مدير دائرة الاقتصاد الدولي في مجلس العلاقات الخارجية ومؤلف كتاب "خطة مارشال: فجر الحرب الباردة" The Marshall Plan: Dawn of the Cold War.

مترجم من فورين أفيرن، مايو 2022

المزيد من آراء