ملخص
يقع القارئ الراغب في قراءة روايات إيطالية معاصرة على ترجمة روايات إيلينا فيرانتي وإلسا مورانتي، ويقع طبعاً على ترجمة روايات الكتاب الرائعين إيتالو كالفينو وأمبرتو إكو وأليساندرو باريكو، لكن الندرة النادرة من القراء العرب تعرف الكاتبة المعاصرة التي أخذ نجمها يلمع منذ أعوام وهي الكاتبة الستينية دوناتيلا دي بييترأنطونيو (Donatella di Pietrantonio)، التي يرى فيها بعضهم منافسة شديدة لإيلينا فيرانتي بخاصة أن الكاتبتين تملكان المترجمة نفسها من الإيطالية إلى الإنجليزية وهي آن غولدستاين.
ولدت الروائية دوناتيلا دي بييترأنطونيو عام 1962 في أرسيتا (Arsita) وهي بلدة في مقاطعة تيرامو في إقليم أبروتسو الإيطالي، وهي طبيبة أسنان متخصصة بالأطفال، ومن اللافت أن دي بييترأنطونيو لم تنشر روايتها الأولى سوى عام 2011 أي لما بلغت 49 سنة، لتكر من بعدها السبحة ويبلغ عدد رواياتها الخمس وتفوز أحدثها وعنوانها "عمر البراءة" بأبرز جائزة إيطالية مخصصة للرواية الإيطالية وهي جائزة ستريغا (Strega Prize, 2024, L'età fragile).
ويلاحظ قارئ دوناتيلا دي بييترأنطونيو أن الكاتبة تعتمد في موضوعاتها على العلاقات العائلية الشائكة من دون أن توفر توظيف الوقائع الحقيقية التي تدور في إيطاليا والعالم، فتقارب هذه الموضوعات في سرد عميق مفعم بالمشاعر الصريحة والتخبطات الداخلية والعلاقات المتشابكة. من الرواية الأولى حتى الرواية الخامسة، يجد القارئ نفسه أمام أم مصابة بألزهايمر أو إزاء عائلات مفككة أو إزاء عائلات مكلومة تعاني خسارة فرد من أفرادها.
ويقع القارئ من ناحية أخرى على أحداث تقع مثلاً عقب زلزال عام 2009 الذي حصل في مدينة لاكويلا (L’Aquila) الإيطالية أو مثلاً في خلال جائحة الكوفيد والحجر الصحي الذي فرض حينها، ليؤول المآل بالكاتبة أن توظف في روايتها الأخيرة حادثة مأسوية وحشية تصدرت نشرات الأخبار في إيطاليا، وهي حادثة قتل عرفت بما يسمى "جريمة موروني" وهي جريمة وقعت في الـ20 من أغسطس (آب) 1997 في غابة ماندرا كاستراتا، ارتكبها راع مقدوني في حق ثلاث شابات نجت واحدة منهن فقط.
الرواية الأولى: رواية العلاقة الشائكة بالأم
رواية دوناتيلا دي بييترأنطونيو الأولى "أمي نهر" (Mia Madre è un Fiume/ My mother is a river) هي قصة مؤثرة ومكتوبة بصورة جميلة وحزينة كثيراً في الوقت نفسه، فتدور الأحداث حول الراوية ووالدتها التي يسرق منها مرض ألزهايمر ذكرياتها ويحرمها من ماضيها، وتتجلى في هذه الرواية التي يسيطر عليها مرض ألزهايمر، العلاقة بين الأم والابنة وهي علاقة حب وكره في الوقت نفسه أو علاقة لوم وحساب ثم محاولة التخطي.
توظف الكاتبة المشاعر الخام والقوية والمقنعة لتجسد فداحة المرض وقسوته والعلاقة بالأم، فتستخدم الراوية ضمير المتكلم وتتحدث إلى والدتها بصورة مباشرة ليعيش القراء معها الألم اليومي والمعاناة الناجمة عن التدهور المعرفي والعقلي البطيء للأم، كذلك يعيشون معها علاقتها المضطربة بوالدتها. يُذكر أن النقاد صنفوا هذه الرواية ضمن فئة السير الذاتية باعتبارها قصة مرض والدة الكاتبة وعلاقتها بها، ويبدو أن علاقة الراوية/ الكاتبة بأمها كانت بعيدة من أن تكون علاقة هادئة أو جيدة، ولا حتى كانت علاقة مستقرة، فتقول الراوية: "لم أنسَ يوماً تاريخي معها ولم أسامحها قط، على العكس، كنت ما أزال أعزم على تصفية حساباتي معها عندما هربت مني إلى مرضها".
الرواية الثانية: رواية زلزال 2009
يعود عنوان الرواية الثانية لدوناتيلا دي بييترأنطونيو "جميلتي" (Bella mia) إلى مدينة لاكويلا الإيطالية، هذه المدينة الأسطورية التي تحوي 99 كنيسة و99 نافورة. وتدور الرواية حول قصة خسارة وتغيرات كبيرة تجري بعيد الزلزال الذي ضرب المدينة عام 2009 وخلف أهلها مكسورين ومدمرين تماماً، فيتوقف السرد عند ثلاثة أبطال وعلاقتهم بأوليفيا إحدى ضحايا الزلزال لتصبح مهمتهم الأولى أن يتمكنوا من استعادة توازنهم الداخلي والاستمرار من بعد الفاجعة التي ألمت بهم.
وعلى غرار الرواية الأولى تحتل العائلة مكانة رئيسة في النص، فتفضح دوناتيلا دي بييترأنطونيو تعقيدات العلاقات وتاريخ الشخصيات ونقاط ضعفهم وعواقب خساراتهم جراء زلزال عام 2009.
يُذكر أن الراوية فقدت شقيقتها التوأم في الزلزال ونراها طوال السرد لا تكف عن اعتبار نفسها الناجية غير المستحقة للنجاة، فتكتب: "غداً هو عيد ميلادنا الثالث منذ الزلزال، لم أكن لأبقى في البيت، فكنت لأكون عديمة الفائدة، غداً لن يكون لدي ما أقدمه للابن الذي فقد أمه، وللأم التي فقدت ابنتها، لن أتمكن من مواساتهما، مجرد وجودي سيؤكد أن الأفضل بيننا هي التي رحلت".
روايتان متتابعتان في العائلة وخيباتها
بعد رواية ألزهايمر والزلزال تتوقف دوناتيلا دي بييترأنطونيو في روايتها الثالثة "العائدة" (L’Arminuta) عند قصة فتاة يعيدها والداها بالتبني إلى عائلتها البيولوجية الحقيقية وهي في الـ13 من عمرها.
تعود البطلة فجأة إلى أحضان عائلتها الحقيقية من دون أن تفهم السبب خلف هذه العودة، وهي التي عاشت حياتها لا تعلم أنها متبناة، وبين الصدمة العاطفية ومحاولات الفهم العبثية، تعيش الفتاة أزمة داخلية هائلة، فبينما عاشت طوال حياتها ابنة وحيدة مدللة لعائلة متوسطة الحال، تجد البطلة نفسها واحدة من بين خمسة أشقاء يعيشون في كنف عائلة فقيرة بالكاد تملك ما تأكل حتى إنها تجد نفسها مضطرة إلى تقاسم السرير مع شقيقتها الصغرى التي لا تزال تتبول على نفسها ليلاً.
صدمة نفسية هائلة تعيشها البطلة من دون أن تفهم أسبابها، لتنتقل دوناتيلا دي بييترأنطونيو في روايتها الرابعة "بورغو سود" (Borgo Sud)، إلى الجزء الثاني من القصة نفسها مع الأبطال نفسهم، إنما هذه المرة بعد مرور أعوام تكون فيها البطلة قد أصبحت أستاذة أدب في جامعة غرونوبل الفرنسية، لكنها تهرع عائدة إلى إيطاليا لدى معرفتها بأن شقيقتها التي كانت تتقاسم السرير وإياها إنما تحتضر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تمر أعوام وتفترق الشقيقتان بين الجزءين الاثنين لكن الأحداث وخطر الموت يعيدان إحداهما إلى الأخرى في هذه الرواية التابعة لرواية "العائدة"، من دون أن يخلو هذا الجزء من كثير من الحزن والحنين والعودات إلى الوراء، فتقول الراوية: "عندما كنا صغيرتين كنا لا تنفصل إحدانا عن الأخرى، ثم مع الوقت تعلمنا أن نخسر بعضنا بعضاً".
ويبدو أن العلاقة المتأرجحة بين الشقيقتين ذكرت عدداً من النقاد بالعلاقة بين الصديقتين في رباعية نابولي لإيلينا فيرانتي، علاقة متخبطة بين الرغبة في الرحيل وضرورة البقاء من أجل الأخرى.
الرواية الخامسة والفائزة
أما رواية "عمر البراءة" خامسة روايات دوناتيلا دي بييترأنطونيو ففازت بجائزة Strega Prize وYouth Strega Prize وهي تعد أعرق جائزة إيطالية للرواية الإيطالية. وتعالج هذه الرواية هي الأخرى العلاقة بالأم إنما هذه المرة في ظل جائحة كوفيد، والغريب في هذه الرواية هو أن الأم تملك سراً رهيباً لا يعرفه أحد لكنه لا ينفك يزعزع كيانها، يبدو أن الأم كانت الصديقة المقربة للناجية الوحيدة من الجريمة الوحشية التي حصلت عام 1990 ووقعت ضحيتها فتاتان توفيتا.
وبينما نجت صديقة الأم، يبدو أن هذه الأخيرة لا تزال تلوم نفسها على ما وقع، فما هي حقيقة علاقة الأم بالحادثة؟ وكيف توظف الكاتبة مشاعر الأم لتفضح علاقتها بنفسها وبماضيها وبابنتها؟ قصة غريبة مشوقة فيها كثير من المشاعر والتوقف عند العلاقة بين الأم والابنة، وهي على ما يبدو تيمة عزيزة وأثيرة لدى الكاتبة تذكر بكتابات الروائية الإيطالية ناتاليا غينزبرغ (1916-1991) التي كتبت هي الأخرى العائلة بل ووضعت رواية عميقة عن العائلة في ظل الفاشية هي رائعتها "المعجم العائلي" (1969).
يُشار إلى أن رواية "عمر البراءة" لم تصدر بالإنجليزية بعد وستصدر في يونيو (حزيران) 2025 في 192 صفحة، بينما الروايات الأخرى صدرت بالإنجليزية ولم يصدر منها بالعربية.