ملخص
هل قرب الفيلم من زمن الكريسماس أمر يحمل الكاثوليك في قارات الأرض الست على تعميق تفكيرهم في القضايا الأكثر إلحاحاً وحساسية، وربما تأليباً من بعضهم لبعض؟
غالب الظن أن "كونكلاف" قد أثار تساؤلات بأكثر مما قدم إجابات، مما يعني أن القصة في حاجة إلى مزيد من الشروحات والطروحات.
حين أراد المؤرخ الأميركي الأشهر ويل ديورانت الرجل الذي قدم للبشرية موسوعة الحضارة الإنسانية، أن يعرف الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، أجمل الأمر في أنها "أهم مؤسسة بشرية عرفها التاريخ" لا سيما منذ 2000 سنة، أما السبب فيعود إلى تراتبيتها التي لا نجد لها نظيراً حول العالم، في أي دولة أو مؤسسة.
ولعل البعض الآخر اعتبر أن الفاتيكان، التعبير الصنو، للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، إمبراطورية واسعة وشاسعة ممتدة عبر قارات الأرض الست، حتى وإن لم تكن لها مستعمرات أو حدود، خارج مساحتها الجغرافية أقل من نصف كيلومتر مربع.
ولعل سحر وألق هذه المؤسسة يتجلى في طقوسها التي يعدها بعض الناس سرية، مع أنها ليست كذلك، وفي أرشيفها الذي يطلق بعضهم من حوله التهويمات، في حين أنه مفتوح للباحثين لا لهواة الشهرة الممجوجة، ويأتي على رأس الكل هناك، البابا، الحبر الروماني، أسقف روما، الرجل ذو الثوب الأبيض، الذي يعد الرئيس الفعلي لدولة الفاتيكان، ويساعده أعضاء "الكوريا" الرومانية، أي حكومة البابا.
ومن بين المشاهد المثيرة في حاضرة الفاتيكان نجد جماعة الكرادلة أو أمراء الكنيسة بألوانهم الزاهية التي تميل إلى اللون النبيذي، ومن بينهم يُختار البابا. والشاهد أن تاريخ البابوية مليء بالتشويق والإثارة والمتعة، فقد عرف الكرسي الرسولي، الذي أسسه بطرس الصياد الفلسطيني الأصل في العقود الأولى من القرن الأول الميلادي، قبل أن يستشهد هناك في زمن الإمبراطور الروماني الطاغية نيرون، عرف صنوفاً وألواناً من الباباوات، منهم القديسون، وآخرون اعتبروا ملاعين، لكن على رغم كل ذلك مضت سفينة بطرس كبير الحواريين قدماً من دون أن يعطبها شيء، يموت بابا فيتم اختيار بابا آخر ضمن عملية لها طقوسها وتراتبيتها.
كيف يُختار البابا الروماني الكاثوليكي؟ وما الأجواء التي ينتخب فيها والآلية اللازمة لعملية الانتخاب؟
هذه هي الأجواء التي يدخلنا فيها الفيلم الأميركي الأخير "كونكلاف" أو "المجمع"، الذي بدأ عرضه أخيراً في دور السينما العالمية، وأحدث دوياً بالغاً، لا سيما أنه يخلط الدراما بالتاريخ، وسحر البابوية بالإثارة التي تجري وراء الكواليس، ناهيك بالإسقاطات التي يحملها على البابا الحالي فرنسيس. ماذا عن هذا العمل أول الأمر؟
"كونكلاف"... الفيلم البابوي المثير
في الـ29 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي خرج فيلم "كونكلاف" أو "المجمع" على ملايين المشاهدين حول العالم، ممثلاً لفيلم إثارة بابوي عالمي من إخراج المنتج وكاتب الأفلام الألماني الشهير.
الفيلم مأخوذ عن رواية للكاتب والصحافي الروائي البريطاني روبرت هاريس وهو أحد كتاب الخيال العلمي، وكتب السيناريو له بيتر ستروجان.
منذ أن بدأ عرض الفيلم على الشاشة وتقييمه لم يتراجع عن خمس نجوم، فكل شيء فيه، ظاهرياً في الأقل، رائع، التمثيل والحوار، المكان والأجواء والجاذبية، مما يجعلك تشعر وكأنك بالفعل في داخل دهاليز الفاتيكان التي لا يسمح إلا لنخبة النخبة من قادة الكنيسة السير فيها.
الذين شاهدوا الفيلم يعرفون أن المشاهد سيربط من الوهلة الأولى بين هذا العمل وفيلم "شفرة دافنشي"، إذ تبدو الأجواء متطابقة، من خلال موت بابا وانتخاب بابا آخر، وبالتحديد كان المقصود وقتها موت البابا بولس السادس عام 1978، وانتخاب البابا يوحنا بولس الأول في العام نفسه، الذي لم يقدر له العيش أكثر من 33 يوماً، ليعد من بين أقصر الباباوات في التاريخ.
المشاهد نفسها تكاد تأخذ المتابع إلى أجواء فيلم "ملائكة وشياطين"، الذي يعد أكثر قرباً من أجواء هذا الفيلم، ذلك لأن مساحة "كونكلاف" أو "المجمع" فيه واسعة، وأحاديث المؤامرات التاريخية وراء جدران الفاتيكان حاضرة بقوة، كذلك فإن استدعاء ماضي القرون الوسطى والصراع بين التقدميين والمحدثين من الكرادلة قائم بقوة في ثناياها.
هل "كونكلاف" هذا يحمل على قراءة مغايرة، ولهذا أحدث ضجيجاً عالياً جداً في الأوساط العلمانية المدنية حول العالم، وبالقدر نفسه داخل الكنيسة؟
ربما لا يستقيم الجواب قبل أن يعرف القارئ ما الذي يعنيه "كونكلاف" هذا أو "المجمع" أول الأمر.
"كونكلاف"... نظرة عبر التاريخ
يشير هذا المصطلح إلى مكان اجتماع مغلق من الخارج، أصله يعود إلى اللغة اللاتينية وهو " كومكلافه" Cumclave أي "بالمفتاح"، وتشير إلى المكان الذي ينتخب فيه الكرادلة البابا الجديد، وفي الوقت نفسه يفهم منها أيضاً اجتماع الانتخاب نفسه .
تاريخياً أول اجتماع معروف من هذا النوع جرى في عام 1241، عندما حبس سيناتور روماني الكرادلة بالقوة في قصر مهلهل، وأمر بتعذيبهم وتهديدهم بعقوبة الموت إذا لم يتفقوا سريعاً على انتخاب بابا جديد من بينهم. ومن اجتماعات "الكونكلاف" التاريخية اجتماع آخر جرى في مدينة فيتيربو Viterbo عام 1268، وانتهى بعد ثلاثة أعوام، لأنهم لم يتمكنوا من الاتفاق على انتخاب بابا جديد.
وبعد أن أصبحت هذه الحال لا تطاق، حبس سكان فيتيربو الكرادلة وسدوا الأبواب عليهم بحجر البناء، كما قاموا نزعوا القرميد من السطح، واكتفوا بتقديم الخبز والماء فقط ليرغموهم على الاتفاق.
وبعد هذه التجارب المريرة أصدر البابا غريغور العاشر 1210-1276 نظام تعليمات صارماً في شأن اجتماع "المجمع" هذا، إذ ألزم الكرادلة على البقاء في قاعة الاجتماع المغلقة والسكن فيها، فحسب، وليس في قصورهم حتى يتوافقوا على انتخاب البابا الجديد.
وينعقد "كونكلاف" في كنيسة "السيستين" الشهيرة بسقفها الذي رسمه رسام النهضة مايكل أنجلو وقد بدأ العمل فيها عام 1473 ميلادية.
ويبدأ الاجتماع بعد وفاة البابا بـ25 يوماً، وهي أيام الحداد على البابا الراحل، ومن ثم يتلو عميد "مجمع" الكرادلة واثنان من مساعديه قانون الانتخاب لعام 1996 .
وتطلى عادة نوافذ الكنيسة لمنع إرسال أي إشارات من الخارج، وتركب أجهزة تشويش لتعطيل أدوات الاتصال والتنصت بمختلف أنواعها، ويتولى الحرس السويسري تفريغ المكان.
ويحق فقط لسكرتير البابا ورئيس الاحتفالات الرسولية وراهب الاستماع إلى الاعترافات، وطبيبين والعدد الكافي من الخدام الكنسيين البقاء داخل الفاتيكان خلال فترة انعقاد "المجمع"، أما إقامة الكرادلة فتكون في القصر الرسولي الذي يغلق بدوره أيضاً.
ويجري انتخاب البابا بطريقة ديمقراطية، ويفوز بالمنصب الرفيع من يحصل على أعلى نسبة من الأصوات، وفي حال الفوز تحرق الأصوات مع بعض الصمغ فيخرج دخان أبيض من مدخنة كنيسة "السيستين"، فيعرف العالم كله أنه انتُخب بابا جديد، أما في حال عدم التوصل إلى فائز فتحرق الأصوات مع بعض القش، فيخرج دخان أسود، وبذلك يعرف الجميع أنه لم يُنتخب البابا.
هل جاء فيلم "كونكلاف" ليقدم رواية شبيهة بالواقع أم أن صناع الفيلم ذهبوا بعيداً وإلى منطقة أخرى جعلت كثيراً من الحناجر ترفض الأمر وتعتبره ضمن الأدوات الهوليوودية المعادية للكنيسة الرومانية الكاثوليكية؟
الأجواء الدرامية لفيلم "كونكلاف"
تدور رواية روبرت هاريس التي حُولت إلى هذا الفيلم حول عميد الكرادلة الكاردينال توماس لورانس الذي يلعب دوره باحتراف الممثل الإنجليزي رالف فاينس، وقد يقوده، هذه المرة وبقوة، إلى جائزة "الأوسكار"، الرجل المسؤول عن تنظيم أعمال مجمع بابوي لاختيار بابا جديد بعد وفاة الأب الأقدس الحالي.
ويبدو الكاردينال توماس مدبراً دقيقاً ومتمكناً للغاية من تفصيلات العمل كافة الذي يجمع بين الطقوس الدينية الملزمة، والديناميكيات التفصيلية لعملية الاقتراع، لا سيما أن هناك مناقشات ومشاورات تجري على هامشها لتأمين الأصوات لمرشح بعينه.
ما إن تبدأ عملية غلق أبواب كنيسة "السيستين" على الكرادلة وبدايات المناوشات لاختيار البابا القادم، يجد الكاردينال توماس نفسه ليس مسؤولاً عن الإجراءات، ذلك أنه يكتشف ما حدث حقاً للبابا المتوفى، الذي تبدو وفاته غامضة بصورة متزايدة.
ويتحول الفيلم هنا من عالم الدراما إلى التشابك مع بعض من الأمور الحقيقية التي جرت خلف أسوار الفاتيكان منذ قرابة خمسة عقود، ومع قضايا إيمانية ولاهوتية وأسئلة شائكة معقدة، استطاع المخرج إدوارد بيرغر أن يقدمها بمهارة عالية، حتى وإن عرضته لهجمات واسعة تالية من الجماعة المؤمنة المحافظة من مليار و400 مليون كاثوليكي حول العالم. ما الذي نعنيه بهاتين الجزئيتين؟
أما عن الأمور الحقيقية، فما من شك أن فيلم "كونلاف" يفتح جرحاً غائراً، ويشاغب ملفاً سرياً من ملفات حاضرة الفاتيكان القريبة نسبياً، التي تعود إلى عام 1978، حين توفي ألبينو لوتشاني أو يوحنا بولس الأول بعد نحو 33 يوماً من بابويته.
وأعلن رسمياً في ذلك الوقت وقبل نحو 46 عاماً أن البابا توفي بأزمة قلبية، غير أن كثيراً من الإشاعات كانت ولا تزال تطارد حاضرة الفاتيكان، بأن لوتشاني قد اغتيل، والسبب أنه كان يسعى إلى إحداث حركة تطهير في بنوك الفاتيكان، إذ كانت تجري عمليات غير شرعية، لا سيما في ظل التعاون مع الأميركيين لمواجهة الاتحاد السوفياتي، مما سمح بفساد مالي حاول البابا مواجهته لكن هناك من سبقه.
فيما الجانب الآخر الذي برع صناع الفيلم في تقديمه هو إظهار الوجه الإنساني للمؤسسة المقدسة، إذ يعيش فيها بشر لا ملائكة، لذا تبدو الأخطاء قائمة وقادمة إن جاز القول.
من هنا يبدو "كونكلاف" بمثابة خلطة من المقدس والمدنس، ولغز يدور حول "الكاردينال توماس"، الذي عاش لفترة طويلة مخلصاً لدعوته الكهنوتية وخدمته الكنسية، متقبلاً كثيراً من الشعور بالغموض في حياته، وثمة أسئلة ما ورائية من الميتافيزيقيات التي تحفل بها العلوم اللاهوتية، أو من دروب الفاتيكان السرية التي تبدو كاللغز الملفوف في أحجية تاريخية، ضمن بئر يصل قاعها إلى 2000 عام.
يكتشف الكاردينال توماس أن كل شيء من حوله يبدو وكأنه لغز: الدوافع السياسية لزملائه في عملية اختيار البابا، والطموحات السرية لأصدقائه الراغبين في الوصول إلى السدة البطرسية، وحتى قدرة المؤسسة الكنسية ذاتها على تنفيذ إرادة الله على الأرض.
هنا وفي وسط هذا العالم المثير والخطر تبدو الهمسات أعلى صوتاً من صياح الديكة في مواجهة بطرس الرسول، وتبدو الإشاعات والقيل والقال طبولاً مدوية في ذهن الكاردينال توماس، فيما التوسلات والصفقات من حوله تجري بسرعة هائلة أملاً في الوصول إلى المحفة التي يحمل البابا عليها، وفي هذه الأجواء يضحى الكاردينال لورانس الرجل الوحيد الذي يطرح الأسئلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأجواء السرية والوصول إلى البابوية
يحق للذين شاهدوا فيلم "كونكلاف" أن يتساءلوا هل يقدم المخرج بيرغر وصفة للفاتيكان وما يجري داخله على أنه صراع بين الثعابين والحمائم، كما قدم دان براون، من قبل، بعضاً من مشاهد أراد من خلالها أن يصور الأمر على أنه مواجهة بين الملائكة والشياطين في داخل هذه المؤسسة الروحية الكبيرة والعريقة؟
غالب الظن أن هناك شيئاً من هذا القبيل في فيلم "كونكلاف" مما يفتح الباب واسعاً لوجوه بشرية تجري بها الحبكة الدرامية ضمن سياقات بوليسية، تمزج بين الجريمة والعقاب، المحبة والكراهية، الخوف والشجاعة.
على سبيل المثال يبرز المخرج شخصية غامضة تظهر في الساعة الـ11 قبل انتخاب الحبر الأعظم الجديد، شخصية الكاردينال المكسيكي بينيتيز، الذي خدم، من قبل، كرئيس أساقفة في العاصمة الأفغانية كابول، ولم يُعين كاردينالاً إلا أخيراً جداً، قبل وفاة البابا السابق.
يدرك الجمهور أن هذا الكاردينال عُين في ظروف غامضة.
يتساءل المشاهد "لماذا استحضار أفغانستان بنوع خاص، وهي دولة لا توجد فيها مسيحية ولا مسيحيون، ولهذا ما من كاردينال أو رئيس أساقفة هناك؟ هل من إسقاط سياسي ما يحاول الراوي والمخرج أن يجهدا ذهن المشاهد به، لا سيما أن الكاردينال قادم من المكسيك الخلفية الجغرافية للولايات المتحدة الأميركية؟".
علامة استفهام أخرى ضمن ثنايا هذا العمل تتجلى في الإثارة الناجمة عن لقاء أشد وقعاً ولا يدري عنه أحد في الفاتيكان شيئاً، ذاك الذي جرى بين كاردينال آخر يدعى تريميلاي الذي يقوم بأدائه الممثل الأميركي جون ليثغو، وبين البابا الراحل، إذ تسري الإشاعات حول قيام البابا بفصله قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، مما يعزز شبهة الوفاة الجنائية للبابا الراحل، ومن غير أن يوفر المشهد اتهامات واضحة لهذا الكاردينال.
يقدم شخوص الفيلم حالة لا تغيب عن الذهن من الصراع بين المجددين والتقدميين في داخل الفاتيكان، وبين المحافظين والتقليديين، الذين لا ينفكون يرفضون التجديد ويعدون الأمر من قبيل البدع والهرطقات.
على سبيل المثال نتابع شخصية الكاردينال تيديسكو، الذي يلعب شخصيته الممثل الإيطالي سيرجيو كاسيليتو، ويظهر كوحش متعطش للصعود إلى مقام البابوية بأي ثمن.
هنا ملاحظة أكثر إثارة، ومن غير اللجوء إلى فكر المؤامرة، أو التستر وراءه، ملاحظة تتعلق بالاسم تيديسكو أي الألماني، التي تبدو وكأنها شفرة لمن لديه علم من كتاب خلافات الكرادلة الألمان المحافظين مثل الكاردينال مولر مع البابا الحالي فرنسيس.
يظهر تيديسكو في الفيلم كارهاً للنساء، ورافضاً للإسلام كديانة، وربما للمسلمين الذين يدينون بهذا الإيمان، ومحافظاً بصورة غير عادية في جميع النواحي الأخرى، فعلى سبيل المثال يريد إلغاء القرارات والدساتير التي بلورها المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962-1965) والتي مثلت مرحلة انفتاحية من الكنيسة على العالم، بكل أطيافه الإيمانية، وأطرافه المجتمعية، بل إنه سمح بتلاوة الصلوات وأداء الطقوس الدينية باللغات المحلية، بعدما بقيت لقرون طويلة حكراً على اللغة اللاتينية.
"كونكلاف" وواقع الكنيسة المعاصر
لا يبدو "كونكلاف" بالنسبة إلى الخبراء المحققين والمدققين في عالم الفاتيكان فيلماً سينمائياً، أو دراما تقدم على الشاشة الفضية، بل تمثيلاً واقعياً جداً لما يحدث في هذه الأيام في الداخل الروماني الكاثوليكي، من صراع أجنحة بين البابا فرنسيس القادم من الأرجنتين، البلد البعيد كل البعد من الشرق الأوسط والعالم الشرقي القديم حيث ولدت المسيحية وحافظت على حضورها عبر 2000 عام، وقد بات فرنسيس يمثل رؤية عصرانية تقدمية، لا سيما أنه يشاغب كثيراً من القضايا التي خشي كثر من الباباوات السابقين الاقتراب منها، وبين دعاة التقليد الكنسي، والحفاظ على النهج القديم، سواء الظاهرين منهم على سطح الأحداث، أو المتوارين عبر عديد من المؤسسات التي تعمل من غير تسليط أضواء على أنماط عملها .
على سبيل المثال يخشى الكرادلة الليبراليون في هذا الفيلم أن يصل تيديسكو إلى كرسي البابوية، مما يمكن أن يكون بمثابة ضربة مدمرة لتيار التقدم والتحرر، الليبرالية والعلمنة.
في المقابل نشاهد نموذجاً لكاردينال آخر مرشح للبابوية، صديق لعميد الكرادلة توماس، والمدعو الكاردينال ألدو بيليني، وهذا يلعب دوره الممثل الأميركي ستانلي توتشي.
ضمن الشفرات المثيرة جداً في هذا الكاردينال هو اختيار الاسم، الذي يبدو شديد الشبه بالأسماء الإيطالية، وهو أمر غير عشوائي، ذلك أن العارفين ببواطن أمور الفاتيكان يدركون أن الكرادلة الإيطاليين، الذين عادة ما يخرج من بينهم بابا الفاتيكان، مصممون للغاية أن يكون البابا القادم إيطالياً، بعد أن حرموا من المنصب منذ وفاة البابا بولس السادس عام 1978.
بيليني يترشح على أساس برنامج من القيم الليبرالية بما في ذلك توسيع دور المرأة في الكنيسة، وهي الفكرة التي ترعب عديداً من الكرادلة المحافظين الذين يرفضون، وبإصرار، فكرة كهنوت المرأة.
ضمن أبطال الفيلم يقدم لنا المخرج بيرغر شخصية الأخت أغنيس التي تلعب بطولتها الممثلة الإيطالية إيزابيلا روسوليني، التي تقوم بدور المشرفة على صيانة مدينة الفاتيكان، في حين أن حضورها في الفيلم يمكن تفهمه من منطلق أنه حان الوقت للخلاص من الخوف الفاتيكاني المؤسسي من أي مقاربة طقوسية لدور المرأة في الكنيسة الكاثوليكية.
يظهر كذلك ضمن أعمال "كونكلاف"، وفي طريق السعي إلى البابوية، شخصية الكاردينال أديمي الذي يلعب دوره الممثل البريطاني لوسيان ماسماتي، ويقدمه الفيلم كواجهة لكاثوليك القارة الأفريقية، إذ النمو الواضح للكثلكة هناك، الذي يعكس تحفظاً شديداً في قضايا المثلية الجنسية، على العكس من التوجه الذي تزعمه فرنسيس الذي رفض إدانة هؤلاء، مما دعا أساقفة القارة السمراء إلى اتخاذ موقف رافض، غير أن كثيراً من الكرادلة في الفيلم يرون أنه يمكنهم التغاضي عن رفضه هذا، في مقابل أنه سيكون أول بابا أفريقي في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية منذ تأسيسها وحتى الساعة.
البابوية وأزمة الهوية الجنسانية
يشاغب الفيلم في نهايته عصباً عارياً، لا يمكن أن ينفصم بحال من الأحوال عن الوثيقة التي خرجت عن الفاتيكان أوائل العام الحالي وأحدثت أزمة وإثارة Fiducia supplicans أو "البركات الصغيرة" التي تتعلق بالتسامح النسبي مع المثليين .
يكتشف الكاردينال توماس في نهاية أعمال "المجمع" أن صاحب الحظ في الترقي للسدة البابوية، هو الكاردينال المكسيكي الغامض بينيتيز الذي لعب دور الممثل المكسيكي كارلوس دياز، يعاني حالة بيولوجية "خنثوية" أي إنه شخص لديه خصائص جسدية أو "كروموسومية" لا تتناسب مع التعريف النموذجي للذكر أو الأنثى.
طوال أعمال "الكونكلاف" لاختيار البابا الجديد، بدا الكاردينال المكسيكي عطوفاً محباً تقدمياً بصورة استثنائية، مما يمثل فرصة جيدة للكنيسة في العالم المعاصر.
يكتشف الكاردينال توماس من مساعده المونسنيور ريموند أومالي الذي يلعب دوره الممثل الإيرلندي برايان أف أوبيرن أن بينيتيز ولد خنثى ونشأ على يد عائلته كذكر.
لم يتم هذا الاكتشاف إلا حين تعرض الكاردينال المكسيكي لحادثة تفجير، وفي أثناء الفحص والخضوع للجراحة عرف هذه الحقيقة، ولهذا قابل البابا الراحل ليقدم استقالته، غير أن البابا منعه من ذلك وعينه بدلاً من ذلك كاردينالاً.
في تلك الأوقات بدا عميد المجمع الكاردينال توماس أمام حيرة "هل يكشف الأمر لمجمع الكرادلة أم يحتفظ بسرية الأمر؟".
في نهاية الحيرة المفاجئة التي ألمَّت به، يوافق توماس على عدم إخبار أحد، ويفهم ضمناً أنه يفعل ذلك لأن الكاردينال المكسيكي الذي سيحمل اسم البابا "إينوسنت"، شخص طيب يتمتع بمنظور فريد من نوعه من شأنه أن يدفع الكنيسة إلى الأمام بمواقف تقدمية مطلوبة بشدة، في ما يتعلق بالتعاطف مع جميع الأشخاص.
هل يفتح الفيلم بهذه الصيغة طريقاً جديداً لتقبل كاثوليك العالم التقليديين فكرة التحولات الجنسية، وإدماج المتحولين جنسياً في صفوف الإكليروس بدءاً من الرتب الصغيرة وصولاً إلى منصب البابوية الكبير والخطر؟
ربما حاول بيرغر أن يقدم لنا وصفة مغايرة لكنيسة في ذهنه، كنيسة على النقيض من تأكيدات الرجل القوي الشرير تيديسكو، إذ يمثل بينيتيز هذا عدم اليقين والانفتاح ليس فقط في مثله العليا فحسب، بل في هويته البيولوجية أيضاً.
هل هذا كل شيء؟ غالب الظن أن هناك مساحة واسعة من التحليلات لدقائق كثيرة في هذا العمل، غير أن السؤال الأكثر إلحاحاً "ما مدى قبول الكاثوليكية العالمية هذا الفيلم؟".
"كونكلاف" أسوأ من "شفرة دافنشي"
يحتاج الحديث عن ردود الفعل لدى عديد من الدوائر الكاثوليكية المختلفة تجاه هذا الفيلم، ومناقشة المواقف التي تبدت إلى حديث مطول، غير أنه وبحال من الأحوال لا يمكننا فصل هذا الفيلم عن أكثر من عمل سابق قُدم من جانب هوليوود، تنُوول فيه شأن المؤسسة الرومانية الكاثوليكية، التي ظهرت غالب الظن بوصفها "مغارة للصوص"، ودائرة للأعمال السرية والمنظمات الماورائية، مما أكد لملايين الكاثوليك حول العالم أن هناك نيات قديمة مبيتة عند القائمين على صناعة السينما هناك ضد هذه المؤسسة، وهناك من الآراء ما يذهب إلى ما هو أكثر تعقيداً، والقول بوجود الماسونية العالمية التي تعد كرسي روما آخر الكراسي الرسولية المسيحية الخمسة التاريخية، الذي لم يسقط حتى الساعة.
لا أحد يتوقع أن تقدم هوليوود وجبة عقائدية كاثوليكية عبر شاشتها، غير أنه من الواضح جداً، وكما يقول الباحث الكاثوليكي الأميركي ماثيو شمتز، "غير أنه في واقع الأمر يقدم صورة سخيفة للكنيسة الكاثوليكية، من خلال إثارة سياسية تبدو رخيصة ومفتعلة لكرادلة يجتمعون لاختيار بابا جديد، لا سيما أن العمل يقدم صورة صراع بين المحافظين العنصريين والليبراليين الذين يفترض أنهم ثاقبو البصيرة، والذين يتحدثون وكأنهم مزيد من الموارد البشرية وبطاقات المعايدة".
ويمكن لنا أن نتساءل في نهاية هذه السطور التي تحتاج إلى تعميق أكثر "من له مصلحة في سيادة وريادة حالة عدم اليقين ضمن هذه المؤسسة الدينية؟".
الفيلم في واقع الأمر يقدم "اليقين" على أنه العدو الأول، فيما لا يشكك في هوية الأشرار، حتى الأداء الدقيق والذكي من الكاردينال توماس عميد "المجمع"، لا يمكن أن ينقذ الأخلاق التبسيطية للفيلم.
أما على صعيد القضايا التقنية فالشيء الغامض هو كيفية اختيار طاقة التصوير لمواقع التصوير ذاتها، إذ يؤوى الكرادلة في دير يبدو وكأنه مزيج بين فندق نجمتين ومشرحة. لماذا الجدران مغطاة بالرخام الرمادي؟ من المحير أنهم يقيمون جميعاً بجوار الغرفة التي يموت فيها البابا في الدير نفسه حيث يتم الاحتفاظ بالأسرار للكشف الكبير.
هل لصدور هذا الفيلم على بعد أيام من انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة الأميركية إسقاط دوغمائي على المشهد السياسي الداخلي في أميركا؟
هل خروج هذا الفيلم على الجماهير في هذا التوقيت حيث البابا فرنسيس يعاني تراجعاً في صحته وأحاديث كثيرة عن استقالته أمر عشوائي أم تدبير مدبر وسابق، وبعيد من دائرة فكر المؤامرة؟
هل قرب الفيلم من زمن الكريسماس أمر يحمل الكاثوليك في قارات الأرض الست على تعميق تفكيرهم في القضايا الأكثر إلحاحاً وحساسية، وربما تأليباً من بعضهم لبعض؟
غالب الظن أن "كونكلاف" قد أثار تساؤلات بأكثر مما قدم إجابات، مما يعني أن القصة في حاجة إلى مزيد من الشروحات والطروحات.