ملخص
وجه الأسقف كارلو ماريا فيغانو اتهامات خطيرة للبابا فرنسيس، تفتح الباب واسعاً للغوص في أفكار البابا التي لا تجد دعماً أو تأييداً من جانب الكرادلة المحافظين والاتجاهات اللاهوتية التقليدية داخل الكنيسة
هل الفاتيكان موئل للشيطان أم مقر مستقر للقديسين؟ علامة استفهام لم ولن يتوقف الجدل من حولها، ولفظة الفاتيكان هي الصنو للمؤسسة الرومانية الكاثوليكية، والتي وصفها المؤرخ الأميركي "وول ديورانت" بأنها أهم مؤسسة بشرية عرفها التاريخ، لا سيما في ظل امتداد أفقي ورأسي عبر ألفي عام، وقال البعض الآخر إنها إمبراطورية من غير ممتلكات مادية، أو مستعمرات جغرافية.
من هنا يبدو من الواضح للغاية، أنها مؤسسة جاذبة بصورة كبيرة للأحاديث، وسواء كانت من قبيل الحقائق، أو من ضروب الأساطير والتهويمات، غير أن الحقيقة تبقى دوماً وضع متوسط بين تطرفين كما يقال باللغة اللاتينية لغة حاضرة الفاتيكان.
ولأنها مؤسسة بشرية، لا مجتمع ملائكة، لذا يمكن القطع بأن الخلافات الأرضية لا توفرها، سواء كانت خلافات أيديولوجية، أو ميثودولوجية، في التعليم والتهذيب وترقية مليار و400 مليون نسمة، يخضعون للبابا روحياً.
أما البابا فيعد الرئيس الروحي من جهة، ورئيس الدولة والمشرف على ما يسمى الكوريا الرومانية، أي حكومة حاضرة الفاتيكان من ناحية ثانية.
تعرف الكنيسة الكاثوليكية مبدأ يسمى "عصمة البابا"، وهو لا يعني أنه معصوم من الخطأ كما يخيل للكثر، بل إنه حين يعلم ضمن الإجماع العام المسمى السينودس، أي مجلس الأساقفة الكاثوليك من العالم، وفي حال إعلان عقائد كنسية، فإن السماء تكفل له صحة هذا التعليم والقرارات، وهو أمر مختلف من حوله مع بقية الطوائف المسيحية الأخرى.
غير أن هذا لا يعني أن هناك رؤى شخصية وقرارات قد تكون اجتماعية، أو سياسية، وربما اقتصادية، قد يخفق فيها البابا، وهذا ما يفتح الباب لجدل واسع، حول مخالفته، ومع إذا كان الأمر يعد نوعاً من الانشقاق عليه، يذكر بما حدث في القرن الـ16 من جانب القس مارتن لوثر، الذي فتح الباب للبروتستانتية، وأسهم في تكريس الانشقاق الأول في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.
لماذا هذه السطور المتقدمة وما أهميتها؟
المؤكد أن 11 عاماً من حبرية البابا فرنسيس، بدأت بخط إصلاحي داخلي، حتى إنه أطلق عليه "بابا إصلاح الروح"، لم تمض كما كان الجميع يتصور، سخاءً رخاءً، صفاءً زلالاً، إذ ظهرت خلافات بعضها ملأ الأرجاء، ووصل الأمر إلى حد توجيه الاتهامات للجالس على كرسي ماربطرس كبير الحواريين، وبلغ الأمر منتهاه حين طالب أحد الأساقفة الإيطاليين، المدعو "كارلو ماريا فيغانو"، باستقالة فرنسيس من منصبه؟
من هو فيغانو، وكيف لرجل على هذه الدرجة الرفيعة من المكانة، إذ شغل منصب سفير الفاتيكان لدى الولايات المتحدة الأميركية، أن يمثل نقطة فراق لا وفاق في طريق الفاتيكان المعاصر؟
تبدو قصة فيغانو مثاراً لتساؤلات عميقة، عما إذا كان هذا الأسقف منشقاً، أم إصلاحياً، محافظاً تقليدياً على الكنيسة الرومانية الكاثوليكية كما كانت قبل المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962-1965)، أم صاحب كاريزما شخصية يسعى من خلالها إلى مواجهة فرنسيس الليبرالي القريب إلى اليسار، لا سيما أنه قادم من الأرجنتين، إحدى أهم دول أميركا اللاتينية التي عرفت معنى ومبنى "لاهوت التحرير"، منذ أواخر ستينيات القرن الماضي؟
الأسئلة حول قصة الأسقف فيغانو غائمة وغامضة، لا سيما أن الرجل يتحدث بلغة "أبوكاليبسية"، بمعنى أنه يميل إلى رسم صورة للأخرويات، أو علم قيام الساعة، منطلقاً من حاضرات أيامنا... من هو فيغانو، وما هي قصته؟
في فاريزي – إيطاليا كانت البداية
ولد كارلو فيغانو في الـ16 من يناير (كانون الثاني) عام 1941 في مدينة فاريزي بإقليم بومبارديا في إيطاليا، إذ قضى سنوات تعليمه الأولي قبل أن ينضم إلى سلك الإكليروس، وليرتسم كاهناً في الـ24 من مارس (آذار) عام 1968.
تبدو حياة فيغانو الكاهن واعدة علمياً وأكاديمياً، فقد أكمل دراسته العليا ليحصل على شهادة الدكتوراه في علوم القانون الكنسي والقانون المدني على حد سواء.
قضى فيغانو سنوات طويلة من حياته في السلك الدبلوماسي الفاتيكاني، وخدم في عدد من البعثات الدبلوماسية حول العالم، قبل أن يقوم البابا الراحل يوحنا بولس الثاني بتكريسه أسقفاً عام 1992.
في الثالث من أبريل (نيسان) من العام نفسه عين رئيس أساقفة أولبيانا الفخري والمرسل الرسولي إلى نيجيريا من قبل البابا يوحنا بولس الثاني.
في ختام مهمته إلى نيجيريا في عام 1998 عين في وظائف داخل سكرتارية الدولة كمندوب للممثليات البابوية، مما جعله رئيس موظفي الكوريا الرومانية، إضافة إلى دبلوماسي الفاتيكان.
في عام 2009، أي في حبرية البابا بنديكتوس السادس عشر، عين فيغانو أميناً عاماً لمدينة الفاتيكان، وهو منصب رفيع الشأن، إذ قام وقتها بإصلاح كثير من الشؤون المالية المضطربة، المغلفة باتهامات الفساد. غير أن جرأته وكشفه للبابا بنديكتوس عن مآلات الفساد المالي، غالب الظن دفعت دوائر داخلية بعينها لمحاولة إزاحته من جانب البابا، ولهذا نقل إلى الولايات المتحدة ليشغل منصب سفير الكرسي الرسولي هناك، وكان ذلك في عام 2011.
خلال وجوده في منصبه هذا، اكتسب فيغانو سمعة باعتباره أسقفاً محافظاً تقليدياً، لا سيما أنه أظهر مواقف تقدمية رافضة للسلوك الجنسي المثلي، وبالفعل، فقد قام بترتيب لقاء بين كاتبة مقاطعة كنتاكي، "كيم دافيس"، الشهيرة برفضها للمثلية، وبين البابا فرنسيس الذي كان يزور أميركا في عام 2015.
هل كانت الذمة المالية النظيفة لفيغانو سبب المشكلات التي تعرض لها وقادته إلى خارج الإطار القريب جداً من بنديكتوس؟
في عام 2010، اقترح فيغانو أن ينسحب الفاتكيان من اتفاقية عملة اليورو لتجنب اللوائح المصرفية الأوروبية الجديدة، غير أن الفاتيكان اختار التزام الاتفاقية وقبول التدقيق الجديد الذي تتطلبه الأنظمة المصرفية الأكثر صرامة.
في أواخر يناير 2012 بث برنامج تلفزيوني في إيطاليا تحت اسم "المنبوذين" يهدف إلى الكشف عن رسائل ومذكرات سرية للفاتيكان.
كان من بين تلك الوثائق رسائل كتبها فيغانو إلى البابا وإلى وزير الخارجية في ذلك الوقت الكاردينال بيرتوني، يشكو فيها من الفساد المالي في مالية الفاتيكان، ومن حملة التشهير ضده، وطالب بعدم نقله لأنه كشف عن الفساد المزعوم الذي كلف الكرسي الرسولي الملايين في أسعار العقود المرتفعة، ولاحقاً ستثبت صحة كلامه من خلال قصة صفقة عقار لندن.
على أن أزمة فيغانو الحقيقية، ستتشكل لاحقاً في عام 2018... ماذا عن تلك البداية المثيرة التي تكاد تسبب انشقاقاً حقيقياً كما يرى البعض في جسد الكنيسة الواحد؟
مؤامرات داخلية في الفاتيكان
قبل الجواب عن أزمة 2018، ربما ينبغي التوقف قليلاً وكشف بعض من ملامح الصراع الذي كثيراً ما يحدث داخل القصر الرسولي، ومن حول رجالات البابا.
في الـ13 من أغسطس (آب) عام 2011 وقبل عامين من الاستقالة الغامضة للبابا بنديكتوس من منصبه حبراً أعظم لحاضرة الفاتيكان، أبلغ وزير الخارجية بيرتوني، الأسقف فيغانو، بأنه سيعين سفيراً للكرسي الرسولي في الولايات المتحدة.
بدا فيغانو، وبحسب وكالة "رويترز"، رافضاً لهذا المنصب الجديد، مؤكداً أنه ليس هذا هو ما اتفق عليه مع البابا بنديكتوس في الأصل.
كتب فيغانو إلى بنديكتوس مشيراً إلى أن نقله هذا من شأنه أن يخلق حالة من "الفوضى والإحباط"، بين أولئك الذين عملوا ضد عديد من حالات الفساد والهدر الماليين.
في عام 2012، وبعد فضيحة تسريب خادم البابا بنديكتوس كثيراً من الوثائق المهمة إلى الصحافة الإيطالية، كان من بينها رسالة من فيغانو إلى بنديكتوس يؤكد حالة الفساد، ويكاد يتهم وزير خارجية الفاتيكان بيرتوني بالتواطؤ مع الفاسدين.
شهد المتحدث الرسمي باسم الفاتيكان الأب اليسوعي فيدريكو لومبادري، بأن بنديكتوس كانت لديه ثقة لا جدال فيها في فيغانو، إلا أن بياناً صدر في 2012 وقعه بعض قادة الفاتكيان جاء فيه أن ادعاءات فيغانو "خاطئة"، ولا أساس لها من الصحة، بل "إنها مبنية على لا أساس ومخاوف غير حقيقية".
هل كان فيغانو صادقاً أم كاذباً؟
تبقى هذه واحدة من النقاط المحيرة حتى الساعة، ذلك أن شقيق فيغانو، لورينزو فيغانو، وهو عالم يسوعي في الكتاب المقدس، قال إن شقيقه كذب عندما أخبر بنديكتوس السادس عشر أنه في حاجة إلى البقاء في روما لرعاية شقيقه المريض، فيما الحقيقة أن لورينزو كان يتمتع بصحة جيدة، ويعيش في شيكاغو بالولايات المتحدة الأميركية.
علق الكاردينال تيموثي دولان، رئيس أساقفة نيويورك في ذلك الوقت على تصرفات فيغانو بالقول: "إن الكشف عن شكاوى في شأن الفساد والمحسوبية في مالية الفاتيكان، بطريقة ما يعزز صدقيته كشخص لا ينظر إلى الأعمال الداخلية للكرسي الرسولي بعين وردية، بل ينظر بنظارات ملونة، وإن كان يدرك في حقيقة الأمر الصعوبات القائمة على الأرض هناك".
هل كانت هذه الصراعات هي التي ولدت في نفس فيغانو رغبة في الانتقام من الدبلوماسية الفاتيكانية، وبنوع خاص من فرنسيس وحاشيته؟
ربما كان مكانه الجديد في الولايات المتحدة الأميركية، الموقع والموضع المناسبات له في هجمته الأشد والأقوى.
2018 واتهامات فيغانو لفرنسيس
بالوصول إلى عام 2016، كان على الأسقف فيغانو أن يبادر بتقديم استقالته، بحسب اللوائح الكنسية لكل من بلغ من العمر 75 سنة، وهو أمر يسري على جميع الأساقفة وليس عليه وحده.
في الـ12 من أبريل، قدم فيغانو استقالته، وقبلها فرنسيس، الذي عين مكانه رئيس الأساقفة كريستوف بيير ليخلفه في منصب السفير البابوي في الفاتيكان.
بعد نحو عامين من استقالته، وتحديداً في الـ25 من أغسطس 2018، أصدر فيغانو رسالة مكونة من 11 صفحة يتهم فيها فرنسيس بصورة رسمية بالتستر على رئيس أساقفة واشنطن السابق، ثيؤدور ماكاريك المتهم بالتعدي جنسياً على بعض الطلاب الإكليريكيين، وربما غيرهم.
قبل شهرين من رسالة فيغانو ذات الـ11 صفحة، كانت الإجراءات قد اتخذت في حق ماكاريك عبر عزله من الخدمة الكهنوتية من قبل الفاتيكان، لا سيما بعد أن وجدته لجنة مراجعة ادعاء موثوقاً ومثبتاً بارتكاب جرائمه.
هل كان هناك تواطؤ بالفعل تجاه قضية ماكاريك منذ وقت طويل يعود إلى زمن البابا يوحنا بولس الثاني؟
بحسب رسالة فيغانو أنه في عام 2000 أبلغ "غابرييل مونتالفو" السفير البابوي السابق في هندوراس الفاتيكان عن سلوك "ماكاريك" غير الأخلاقي الخطر مع الإكليريكيين والكهنة.
لاحقاً، وبحسب فيغانو، أبلغ "بيترو سامبي"، السفير البابوي في الولايات المتحدة من 2005 إلى 2011، الفاتيكان مرة أخرى بالأمر، قبل أن يكتب فيغانو نفسه مذكرته الخاصة في شأن ماكاريك في عام 2006، ومع ذلك وفقاً لفيغانو، لم يتم فعل أي شيء حتى أوقف البابا بنديكتوس السادس عشر ماكاريك.
في الـ27 من يوليو (تموز) 2018 أمر البابا فرنسيس ماكاريك بممارسة "حياة الصلاة والتكفير عن الذنب في عزلة"، وقبل استقالته من مجمع الكرادلة في انتظار نتائج المحكمة القانونية المشكلة لمحاكمته.
تبدو اتهامات فيغانو لفرنسيس خطرة بالفعل، وتفتح الباب واسعاً للغوص في أفكار البابا التي لا تجد دعماً أو تأييداً من جانب الكرادلة المحافظين والاتجاهات اللاهوتية التقليدية داخل الكنيسة.
على سبيل المثال يؤكد فيغانو أنه كتب في عام 2007 مذكرة ثانية تضمنت مواد من خبير الاعتداء الجنسي الكتابي "ريتشارد سيب"، ما دفع البابا بنديكتوس السادس عشر في عام 2009 أو 2010 إلى وضع قيود صارمة على تحركات ماكاريك وخدمته العامة، إذ لم يسمح له بالمغادرة خارج نطاق المعهد اللاهوتي الذي كان يعيش فيه، ولم يسمح له بإقامة القداس علناً.
لاحقاً، يقول فيغانو إنه تحدث إلى البابا فرنسيس حول سلوك ماكاريك، وبالتحديد في يونيو (حزيران) 2013، وأبلغه بالقيود التي فرضها بنديكتوس عليه. ومع ذلك يزعم فيغانو في رسالته المطولة أن فرنسيس أزال هذه العقوبات وجعل ماكاريك "مستشاره الموثوق به"، على رغم أن فرنسيس كان يعلم منذ الـ23 من يونيو 2013 في الأقل أن ماكاريك كان "مفترساً متسلسلاً"، على حد قوله، كما كان يعلم أنه رجل فاسد، وقام بالتستر عليه حتى النهاية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دعوة إلى الاستقالة ورد فرنسيس
هل توقفت ثورة فيغانو عند حدود كتابة الرسالة الغاضبة التي تسببت بالفعل في خلق أحجار عثرة في داخل أروقة الفاتيكان ووراء جدرانه؟
يبدو أن الأمر تعدى ذلك بكثير، إذ دعا الأسقف الثائر البابا فرنسيس وجميع الآخرين الذين تستروا على سلوك ماكاريك إلى الاستقالة.
كان حديث فيغانو قاسياً إلى حد المزعج والمخيف، وجاء فيه: "في هذه اللحظة الدرامية للغاية بالنسبة للكنيسة المسكونية، يجب على البابا فرنسيس أن يعترف بأخطائه، وتماشياً مع المبدأ المعلن المتمثل في عدم التسامح مطلقاً يجب أن يكون البابا فرنسيس أول من يقدم قدوة جيدة للكرادلة والأساقفة الذين تستروا على تجاوزات ماكاريك ويستقيل معهم جميعاً". وأضاف "يجب أن نهدم مؤامرة الصمت التي حنى بها الأساقفة والكهنة أنفسهم على حساب مؤمنيهم"، معتبراً أن "صمت الفاتيكان يحول الكنيسة إلى كيان عالمي، لا يفترق كثيراً عن المافيا العالمية".
كانت اتهامات فيغانو تطاول إلى جانب فرنسيس ثلاثة وزراء خارجية متعاقبين في الفاتيكان: الكاردينال أنجلو سودانو، والكاردينال ترشيسيو بيرتوني، والكاردينال بيترو بارولين، واتهمهم جميعاً بأنهم كانوا على دراية بأفعال ماكاريك، لكنهم لم يفعلوا شيئاً حيال ذلك.
هل من أصوات في الجانب الآخر اعتبرت اتهامات فيغانو باطلة تقوم على غير أساس؟
هذا ما حدث بالفعل من جانب صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، التي وصفت فحوى رسالة فيغانو، بأنها "إعلان استثنائي للحرب ضد بابوية فرنسيس في أكثر لحظاتها ضعفاً".
هنا يبدو التساؤل المهم والمثير: كيف جاء رد فعل البابا فرنسيس على هذه الرسالة؟
في أواخر أغسطس من العام نفسه، وبعد أيام قليلة من رسالة فيغانو العلنية، كان فرنسيس عائداً من إيرلندا، حيث أكد أنه لا ضرورة للرد على الاتهام على تجاوزات ارتكبها الكاردينال الأميركي ماكاريك.
قال البابا "لن أنبس ببنت شفة في شأن هذا الأمر. أعتقد البيان يتحدث عن نفسه". والبيان هو رسالة فيغانو نفسها.
جاء جواب فرنسيس غامضاً غير مفهوم، ولا أحد يدري هل أراد صبغ الجو العالم بهذا الغموض المتعمد، فقد أضاف "لقد قرأت البيان بعناية، واحكموا عليه بأنفسكم". وأضاف "لديكم القدرة الصحافية الكافية للتوصل إلى استنتاجات. هذا عمل ثقة. عندما يمر بعض الوقت وتكون لديكم الاستنتاجات، عندها ربما أتكلم عنه، ولكن على نضجكم المهني أن يقوم بهذا العمل".
لم يلق رد فرنسيس تفهماً كبيراً، لا سيما أن الاتهامات تطاوله وبقوة وعدداً واضحاً ومهماً من كبار معاونيه.
مرة جديدة، هل كانت هذه هي نهاية هجمات فيغانو على فرنسيس، أم أن الأسقف الذي بات الفاتيكان يعتبره متمرداً، مضى في اتهاماته إلى ما هو ربما أبعد وأخطر من ذلك، وبما يمكن اعتباره زلزالاً داخل المؤسسة الرومانية الكاثوليكية؟
التشكيك في إيمان فرنسيس وبابويته
في حوار مثير جرى لاحقاً في عام 2020 مع موقع "لايف ستايل" بدا فيغانو، وكأنه يشكك في بابوية فرنسيس، وفي إيمانه الكاثوليكي، إذ أشار إلى أنه منذ أول إغلاق بسبب فيروس كورونا في مارس 2020، لم يعد فرنسيس يستخدم المذبح البابوي في كنيسة القديس بطرس مع المؤمنين، وهو مذبح يقع أعلى قبر القديس بطرس، وبدلاً من ذلك يستخدم البابا مذبحاً آخر في البازيلك الكبير.
يذكر فيغانو المؤمنين بأن فرنسيس وضع فوق مذبح القديس بطرس وعاءً من النباتات مخصصاً للآلهة المزيفة "باتشاماما"، وبعد ذلك بوقت قصير، قرر البابا أيضاً أنه لن يستخدم لقب "نائب المسيح"، في الكتاب السنوي للفاتيكان لعام 2020.
يقارن الأسقف فيغانو بين وضع وعاء "باتشاماما"، على المذبح مع تنصيب Goddes Reason في كاتدرائية نوتردام أثناء إرهاب الثورة الفرنسية، ومع ذلك يشرح خطورة الموقف هذه المرة باعتبار التدنيس جاء من قلب خادم المذبح الأكبر نفسه، أي البابا.
يصف فيغانو الكنيسة في الوقت الحاضر بأنها "برغوغليانية"، تعطي لنفسها صورة مقلقة في جوهرها، والتي هي عبادة الآلهة الوثنية – أي الشياطين – وأن الأمر لم يعد مستتراً، لا سيما في ضوء رؤى البابا الأخيرة، والتي تتناول مسألة ما عرف باسم "البركات الصغيرة"، تلك التي تمنح للمثليين الأمر الذي أثار ثورة كبرى على فرنسيس، لم تخمد بعد على رغم كثير من التبريرات والتفسيرات التي قدمها البابا لاحقاً.
كتب فيغانو أكثر من مرة يقول "أرى أن ما نشهده في الوقت الحاضر، يمثل بروفة عامة لتأسيس مملكة المسيح الدجال، التي ستسبقها عظات النبي الكذاب، سلف الشخص الذي سينفذ الاضطهاد الهائل للكنيسة، قبل انتصار ربنا النهائي".
هنا يلاحظ أن فيغانو لم يستخدم لغة التصريح أو الإشارة إلى شخص فرنسيس، لكنه ترك الباب واسعاً للتلميح والاستنتاج، وهو ما يشاركه فيه الملايين حول العالم، الذين تزداد شكوكهم في البابا الحالي يوماً تلو الآخر.
فيغانو منشق أم مؤمن محافظ؟
هذا هو السؤال المهم والنهائي في هذه القراءة لأزمة الأسقف فيغانو.
من جهة يعرف القانون الكنسي لعام 1983 الانشقاق بأنه "رفض الخضوع للحبر الأعظم أو الشركة مع أعضاء الكنيسة الخاضعين له".
هل فيغانو بحسب تسلسل الأحداث يبدو منشقاً؟
نعم، إذ تشير اللغة التي استخدمها ضد البابا فرنسيس، وتالياً ضد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، بأنه يرفض الخضوع للحبر الروماني الأعظم، بل يكاد يوجه له اتهامات مباشرة تشي بأنه هو نفسه "ضد المسيح" أو "الأنتوخريستو"، وهذه تهمة تصل إلى حدود الهرطقة التي يمكنها أن تخلعه من عباءة الكهنوت مرة واحدة.
لكن، على الجانب الآخر هناك من يرى أنه كاهن وأسقف أمين على الإيمان الكاثوليكي القويم، لا سيما أنه قد بلغ الـ80 من عمره، ولا يتطلع إلى مناصب دنيوية، كما أنه لا يرغب في التسلق نحو كرسي البابوية القادم ليكون خلفاً لفرنسيس.
ولعل المثير في قصة فيغانو، هي وجود معضدين له، يرفضون كثيراً من توجهات فرنسيس الفكرية والروحية، وإن لم يجاهروا بآرائهم ربما حفاظاً منهم على وحدة الكنيسة.
هؤلاء لا يعتبرون فيغانو منشقاً، بل ثورياً تقدمياً، وستكون لآرائه أهمية كبرى حال اختيار البابا القادم الذي سيخلف فرنسيس، ذاك الذي يبدو مستقبله خلفه وليس أمامه، لا سيما في ظل حالته الصحية الأخيرة، مما يجعل الإعداد للكونكلاف القادم يجري في السر.