ملخص
لفتت الموضوعات المتعلقة بالحروب وتبعاتها ،انتباه عددٍ من المفكرين والمؤرخين. وقد توقف بعضهم أمام مفهومي النصر والهزيمة كل بحسب رؤيته، كأن يقول الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري مثلاً "النصر والهزيمة كلمتان لا معنى لهما. الحياة تقع دوماً وراءهما. ذلك أن النصر يضعف شعباً ما، بينما توقظ الهزيمة شعباً آخر". فما قول الفلسفة في هذين المصطلحين؟ وماذا يخبرنا التاريخ عن المنتصرين والمهزومين في شتّى أنحاء العالم؟ ومتى ظهر مفهوم النصر، وماذا كان يعني هذا المصطلح في المجتمعات القديمة؟ وهل كان النصر الطريقة الوحيدة لإنهاء الحروب؟
من وجهة نظر فلسفية، يمكن أن يُفهم النصر على أنه أكثر من مجرد تحقيق هدف أو التفوق في صراع. قد يرتبط بفكرة النجاح أو التفوق، ولكنه يُنظر أيضاً في سياق أعمق يتعلق بالقيم الإنسانية والنمو الشخصي والتحديات الداخلية.
بعض الفلاسفة تناولوا هذا المفهوم نقدياً، فاعتبروا أن النصر قد يكون أحياناً زائفاً عندما يتحقق على حساب المبادئ الإنسانية أو التضحية بالآخرين أو عندما يرتبط بالأنانية أو التدمير.
تعاسة النصر
الفيلسوف الرواقي والمستشار السياسي سينيكا تفكّر قديماً بهذا المفهوم كأمر لا يُكترثُ به. وهو دون أن يصل، كما شيشرون، حدّ القول، إن "لا شيء أكثر تعاسة من النصر"، لا يُظهر في نصوصه التي وصلت إلينا حماسة كبيراة تجاه الانتصارات العسكرية. فباستثناء بعض الإشادات التي وردت في "العزاء" الذي وجهه إلى بوليبوس بخصوص نجاحات الإمبراطور كلوديوس في بريطانيا، ذهب سينيكا حدّ التشكيك بقيمة الانتصارات الحربية انطلاقاً من المبادئ العامة للرواقية. فمن منظور هذه الفلسفة، الأشياء فئتان: تلك التي تتأتى من الحظ، وتلك التي تنبع من الفضيلة. وعلى الرغم من أن النصر يتوج أحياناً فضائل القائد الموهوب ويبتعد بحق عن أحقر الناس، فإنه، بالنسبة لسينيكا، يبدو في غالب الأحيان مرتبطاً بالفئة الأولى. وهذا الاستنتاج لا يقتصر على الرواقيين. فقد عبّر أحد أساتذة الفيلسوف زينون، ستيلبون الميغاري، عن هذا الاعتقاد بوضوح في كتابه "ثبات الحكيم"، عندما خاطب منتصره، ديمتريوس بوليوركيتس، قائلاً: "لا تعتقد أنني منهزم أو أنك منتصر. فإنما حظك هو الذي انتصر على حظي". وبالتالي، فإن النصر، من وجهة نظر رواقية، لا يرتبط بالضرورة بصفات القائد ولا يعكس أي تفوق شخصي. ولعل سينيكا قام بتقليص الهالة الكاريزمية المرتبطة بشخصية المنتصر، إذ قلّل في إحدى رسائله التي وجهّها في السنوات الأخيرة من حياته إلى لوكيليوس الأصغر الذي كان حينها حاكماً على صقلية، من الأهمية التي تُعطى عادةً للنصر الذي نظر إليه كأمر لا يؤثر على القيمة الحقيقية للحكيم أو الرجل الفاضل.
لذا لا ينبغي بحسبه اعتبار النصر خيراً في ذاته، فهو ليس إلا واحداً من "لُعب الحظ". فيمكن للمرء أن يكون فاضلاً تماماً، كما كان حال الإسبارطيين في معركة ثيرموبيلاي، دون أي أمل في الانتصار في ساحة المعركة. وبالعكس، يمكن لشخص ما أن يحقق النصر رغم انحطاطه الأخلاقي، بل وحتى بفضل هذا الانحطاط. فإن كان النصر بلا قيمة أخلاقية، فهو أيضاً بلا قيمة شخصية، ولا يضمن السعادة على الإطلاق. ووفقاً لمبدأ الاكتفاء الذاتي أي "الأوتارسيا" التي قال بها الرواقيون، فإن الحكيم المكتفي بذاته، لا تسلبه الهزيمة شيئاً، ولا يضيف النصر بدوره إليه شيئاً.
لا بدّ في هذا السياق من التمييز في فكر الرواقيين، بين مفهوم النصر المادي ومفهوم النصر الأخلاقي. فبالنسبة لسينيكا، وحده النصر الأخلاقي مهم، والهزيمة العسكرية لا تعني فشلاً كاملاً، كما في قصيدة "الإنياذة" للشاعر الروماني فيرجيليوس. فقد استطاع البطل إينياس، بحسب سينيكا، تحويل الهزيمة التي لحقت بشعبه إلى عمل عظيم، بحيث أسس على إثرها الحضارة الرومانية التي قدّر لها أن تسيطر على العالم.
إن استعدنا إذاً المصطلحات الرواقية، وجدنا أن النصر، مثله مثل المال، ليس جيداً ولا سيئاً بذاته، بل إن الطريقة التي يتم بها توظيفه هي التي تحدّد أهميته الأخلاقية والشخصية بالنسبة للفرد أو للجماعة. ففي بعض نصوصه يعتبر سينيكا النصر من الأشياء التي تساعد على العيش، علماً أنه في نصوص أخرى يبدي وجهة نظر أكثر توازناً. ففي بعض الأحيان، يرى أن الهزيمة قد تكون أفضل من النصر، لأنها تتيح ممارسة الفضائل كالصبر والثبات، وبهذا المعنى، يصبح المهزوم محظوظاً، بينما يقود الانتصار المنتشي بفوزه إلى الشقاء والسمعة السيئة والفشل. ذلك أن بعض الرجال العظماء يجعلون من الهزيمة انتصاراً ومن الشدائد وسيلة لاختبار الفضيلة. فقد يختار المرء أن يكون مثل ريغولوس، الشجاع في الهزيمة، على أن يكون مثل مايكناس، المستسلم إثر انتصاره للترف والملذات الحقيرة. هذا يعني أن الفشل يمكّن الإنسان من مواجهة مواقف تكشف عن معدنه الأخلاقي. فسقراط حكيم لأنه فضّل النصر على الهزيمة. ولأنه حكيم لم يتمكن النصر من إفساده. لكن عندما لا يكون المنتصر على مستوى نزاهة سقراط الأخلاقية، فإن سينيكا ينظر إلى النصر بعين قلقة.
عواقب مدمرة
لذا حذّر الفيلسوف من العواقب المدمرة التي قد تنشأ عن النصر. لأنه لا يوجد أي منتصر يخلو من الجشع والقسوة. ولما كان النصر يمثل بحسبه هذه اللحظة التي تتفتح فيها اضطرابات المنتصر النفسية، فإنه يضعه في مواجهة عدو أكثر خطورة، عنيت مجموعة أهوائه التي غالباً ما تهزمه. لذا يجب التعامل مع النصر بحذر. لكن النصر ليس فقط سبباً للأفعال المدانة، إنه أيضاً نتيجة لها. ويرى سينيكا أن النصر، في النزاعات الأكثر عنفاً، يصبح شكلاً من أشكال الدنس، لأنه يُمنح للطرف الأسوأ والأكثر طموحاً وتعطشاً للفوز. ويمكن التساؤل عما إذا كانت هذه الفكرة هي أحد الأسباب التي دفعت بسينيكا، بوصفه مستشارا ًورجل دولة، إلى الاشمئزاز الدائم من المغامرات العسكرية التي تسعى إلى النصر من أجل ذاته، دون أي غرض استراتيجي شامل.
باختصار، يقول سينيكا لا يكون النصر شيئاً إلا عندما يتلاشى، أي عندما لا يترك في فكر المنتصر شعوراً بالتفوق الذي يوّلد الكبرياء ويُنذر بانحدار أخلاقي ويفتح الباب أمام الغضب. ولا يكون النصر شيئاً عندما يتحول إلى وصمة عار على جبين المغلوب، الذي افتقر إلى الحظ في لحظة معينة. فالنصر كمسألة فلسفية هو في عرف الرواقي ثمرة الصدفة والحظ. فلا يمكن اعتباره خيراً حقيقياً وهو أمر غير ذي أهمية، لأنه لا يتنبأ بالسعادة ولا بالقيمة الأخلاقية للمنتصر أو المهزوم. ورغم أنه يبدو أفضل من الهزيمة، إلا أنه يأخذ أحياناً، وبطريقة متناقضة، طابعاً مقلقاً، بحيث يمكنه أن يُفسد المنتصر، في حين يجد المهزوم في المحنة فرصة لإظهار فضيلته.
إن التفكير في النصر كهدف أخير ونهائي للحروب يكشف عن كونه مفهوماً معقدّاً. فعلى مرّ القرون، اكتسب هذا المفهوم عمقاً جديداً. هذا ما استنتجه ليس فقط الفلاسفة، بل أيضاً المؤرخون الذين بحثوا عن ظهور هذا المفهوم المتشعب في المجتمعات القديمة. فقد لاحظوا أن التاريخ يُكتب بتوجيه من أمير أو حاكم، غالباً ما يعمل المؤرخ على تقديمه بأفضل صورة ممكنة. مما يعني أنه ثمة تشويه وتجميل لفكرة النصر التي تصبح مع الإسكندر الكبير مرادفاً للمجد والمكانة التي اكتسبهما من خلال غزواته ومعاركه العسكرية. أما في العصر الحديث، فقد وجد النصر في السياسة خيطاً ناظماً وأصبح مرتبطاً بتعزيز الدولة ككيان سياسي زاد التوسّع الجغرافي من قوته وأضفى عليه بعداً جديداً. لكن النصر العسكري ارتبط أيضاً بمفهوم السلام وتنظيم العالم كما في مرتكزات السلام الوستفالي المعتمد على توازن القوى، والذي حوّل الأرض إلى قضية استراتيجية تُحسم بالحرب والنصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبدو أنّ بعد معاهدة فرساي (1919) رُسّخ مفهوم النصر السياسي. فمن كان ينتصر عسكريًا كان يفوز سياسيًا. هذا واقع، ولكن فيما يتعلق بتسوية الحرب العالمية الأولى، فإن المشكلة الرئيسية لم تعد العلاقة بين النصر العسكري والنصر السياسي، بل أصبح النقاش يدور ارتباط النصر بالسلام. مثّل سلام فرساي انتصاراً استراتيجياً للحلفاء، ولكنه سلام بلا عدالة لأنه فرض سلام عقابي على ألمانيا، بينما سلام عام 1945 مثّل انتصاراً استراتيجياً كبيراً للحلفاء مع العدالة، حيث فرض سلاماً تصالحياً على الألمان واليابانيين. فبعد أن أدرك الألمان أنهم خسروا الحرب عسكرياً وسياسياً، لم يقبلوا هذا السلام المفروض وفضلوا سلاماً تفاوضياً رفضه الحلفاء بالنهاية، خاصة مع رفض برلين اعتبار نفسها المسؤولة الوحيدة عن الحرب.
أخيراً يبدو أن النصر وهمي، والإيمان به قد يكون خطيراً. بسبب الارتباط بين صورة القائد الجيد وضرورة تقديم الانتصارات، علماً أن السياسي لا يقدم قراءة موضوعية لنهاية الحرب، بل يسعى لجمع كل ما يمكن أن يمنحه ميزة استراتيجية وسياسية وتكتيكية أو رمزية لنهايتها بما يخدم أجندته الخاصة.
باختصار، إن صراعات القرن الحادي والعشرين حوّلت مفهوم النصر إلى سراب بعيد المنال. يظهر ذلك من خلال تعدد الأطراف المشاركة في النزاعات وثقل القضايا الإنسانية ودور وسائل الإعلام المتزايد وارتفاع وتيرة الحروب غير المتكافئة، مما يجعل مفهومي الحرب والنصر أكثر تعقيداً. لكن يبقى أن النصر يستوجب تحقيق الأهداف العسكرية العملياتية التي حُددت للحرب والأهداف الاستراتيجية التي شكلت الدافع لخوضها، دون أن ننسى ضرورة إبرام اتفاق دائم ومنصف مع العدو، يمنع نشوب حربٍ جديدةد. بدون تحقيق هذه المراحل، لا يمكن الحديث عن النصر الذي يُفهم ويُقاس فقط على المدى البعيد. ويبدو أن فكرة النصر التقليدي قد أصبحت بعيدة المنال.