ملخص
يمكن أن يؤثر تمرد "فانو" في القضايا العابرة للحدود الوطنية التي تشمل الحرب في السودان وعدم الاستقرار في الصومال والوضع في إريتريا.
كان إقليم أمهرة شمال غربي إثيوبيا ملاذاً للاجئين السودانيين الذين تمركزوا في محيط الإقليم بمخيمات نُصبت في منطقتي أولالا وكومر، منذ اندلاع الحرب السودانية في الـ15 من أبريل (نيسان) 2023. ولم يطب لهم الاستقرار هناك، حيث تحرك أكثر من 6 آلاف لاجئ سوداني من المخيمين إلى مدينة غوندر العاصمة التاريخية لإثيوبيا التي تبعد نحو 180 كيلومتراً، بسبب المضايقات والهجمات المتكررة من قبل ميليشيات "شفتة" و"فانو"، إضافة إلى نقص الغذاء والإمدادات الطبية والمياه النظيفة. وتلتحم هذه المنطقة مع مدينة القلابات وولاية القضارف شرق السودان، وكانت تستوعب تدفقات اللاجئين الإثيوبيين الفارين من الحروب الإثيوبية في التسعينيات بين إثيوبيا وإريتريا، وبين الحكومة الإثيوبية و"جبهة تحرير تيغراي" خلال الأعوام الماضية قبل توقيع اتفاقية السلام "معاهدة بريتوريا" بين الجانبين في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022.
ظل إقليم أمهرة يشهد توتراً متصاعداً منذ أبريل 2023 بسبب الصراع المسلح بين ميليشيات "فانو" الأمهرية، والحكومة المركزية بعدما عزمت الحكومة على تجريدها من السلاح. وفي أغسطس (آب) من العام نفسه، أعلنت الحكومة حالة الطوارئ في الإقليم، ثم رُفعت في يونيو (حزيران) الماضي، ولكن ظلت الاضطرابات مستمرة.
إضافة إلى المخاوف الإقليمية من أن تجر ميليشيات "فانو" إثيوبيا إلى حرب أهلية أخرى، فإن الصراع أصبح مهدداً لولاية القضارف خصوصاً مدينة القلابات التي سبق أن تعرضت مدينة المتمة الإثيوبية المحاذية لها إلى سيطرة ميليشيات "فانو" للتحكم بالمعبر والحركة التجارية فيها. وأخيراً احتجزت ميليشيات "فانو" نحو ست شاحنات سودانية محملة بغاز الطبخ، كان يقودها سائقون سودانيون في منطقة قنت، مطالبة شركة "نوك" الإثيوبية العاملة في مجال النفط والغاز بسداد فدية مالية ضخمة في مقابل إطلاق سراح الشاحنات والسائقين المحتجزين.
وبعدما فرضت "فانو" سيطرتها على قرى حدودية عدة، فر أكثر من 300 جندي من قوات حرس الحدود الإثيوبية إلى السودان، وأسرت 80 جندياً من قوات الدفاع الوطني الإثيوبية في جوندر بعد تدمير قاعدتهم. كما أدت المعارك إلى مقتل حوالى 100 جندي إثيوبي على يد قوات "فانو".
تفاعل تاريخي
تعود علاقة السودان بمنطقة الأمهرة إلى العصور القديمة، إذ شهدت حضارة مملكة كوش في السودان علاقات فاعلة مع مملكة أكسوم الإثيوبية، تجارياً واجتماعياً وثقافياً، برزت في عهد الملك منليك الثاني (1866-1889). وتشمل أمهرة ثاني أكبر مجموعة عرقية في إثيوبيا، إثنيات قمانت وأجاو وآرقويا.
ومع دخول الاستعمار للبلدين نشأت صراعات حدودية بين السودان وإثيوبيا خصوصاً في منطقة الفشقة الزراعية، ووقعت على إثرها معاهدات في عامي 1902 و1907. وفي عام 1998 عقد البلدان مفاوضات لترسيم الحدود، لم تسفر عن حل إلا في عام 2008 بأن اعترفت إثيوبيا بالحدود القانونية على أن يُسمح للإثيوبيين الموجودين في المنطقة بممارسة نشاطهم الزراعي مع السودانيين. واستمر التعايش السلمي بين السودانيين والإثيوبيين، إلى أن أُطيح بـ"جبهة تحرير شعب تيغراي" من الحكومة الفيدرالية عام 2018، فدان زعماء عرقية أمهرة الاتفاق، ووصفوه بأنه صفقة سرية، لم تتم استشارتهم في شأنه، فطالبت إثيوبيا بخط سيادي نهائي. وزاد التوتر بسبب توغل ميليشيات "شفتة" داخل الحدود السودانية والاستيلاء على أراض زراعية.
ومنذ قرون نشأت ميليشيات "فانو" في منطقة أمهرة كمجموعات مسلحة للدفاع عن مصالح سكان المنطقة. ويعني اسم "فانو" في اللغة الأمهرية "فرقة من الجنود بلا قائد، لا يخضعون للمساءلة أمام أي شخص". وقبل القرن الـ20، كانت "فانو" مصدراً مهماً للعمالة المسلحة للحكام الإقليميين الذين يمكن تعبئتهم والقتال من أجلهم في أوقات الحاجة. وخلال القرن الـ20، تم حشد "فانو" أيضاً تحت الإدارة الأكثر مركزية لهايلي سيلاسي لصد الغزو والاحتلال الإيطالي من عام 1936 إلى عام 1941. وفي ستينيات القرن الماضي، استخدمت حركة الطلاب الماركسية اللينينية في إثيوبيا مصطلح "فانو" لوصف أعضائها في نضالهم ضد نظامي هيلا سيلاسي، ثم نظام الرئيس منغستو هايلي مريام (الدرغ) خلال ثمانينيات القرن الماضي.
وعندما اندلعت الاحتجاجات في منطقة أمهرة عام 2016، قادتها مجموعات "فانو"، بالاشتراك مع حركة احتجاج أورومو "كيرو"، وأطاحت بـ"الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية" الحاكمة، وأسهمت في وصول آبي أحمد وحزب "الازدهار" إلى السلطة عام 2018.
وتدخلت "فانو" في النزاعات المسلحة لا سيما تلك المرتبطة بقضايا تخدم المصالح القومية الأمهرية، ومنها حشد قبائل "فانو" وإشراكها في اشتباكات ضد القوات المسلحة السودانية حول منطقة الفشقة المتنازع عليها منذ عام 2020.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تغير التحالفات
كان الصراع بين السودان وإثيوبيا في فترات متقطعة محكوماً بوحدة الموقف الجيوسياسي الأفريقي، حتى في ذروة صراع تيغراي وما شاع من أن الجيش السوداني متحالف مع قادة الجبهة واستخدام مسلحي تيغراي التاريخي للسودان كقاعدة خلفية لهم. في ذلك الوقت كانت ميليشيات أمهرية على رأسها "فانو" يقاتلون إلى جانب قوات الحكومة الفيدرالية في منطقة تيغراي. ومن هنا زاد العداء القائم أصلاً للسودان من قِبل أمهرة الذين كانوا يخططون لكسب الأراضي في تيغراي، ضمن مطالباتهم بها لفترة طويلة، لذلك عندما وقع رئيس الوزراء آبي أحمد و"جبهة تحرير تيغراي" معاهدة بريتوريا، شعر الأمهرة بالخيانة، وتأججت المخاوف من استمرار وجود مقاتلي تيغراي في السودان، واحتمال استعادة تشكيل أنفسهم لمواجهة ميليشيات "فانو".
أما اللاجئون السودانيون ومنهم إثيوبيون وقعوا ضحايا اللجوء المزدوج فقد طالبوا بالعودة إلى السودان على رغم ظروف الحرب هناك والاحتماء ببعض المدن في شرق السودان المحسوبة ضمن المناطق الآمنة، وفضلوا هذا الخيار على وجودهم وسط الصراع في إقليم أمهرة الذي تزيد من وطأته الظروف الصعبة التي يكابدونها، بسبب قصور لازم المنظمات الإنسانية الدولية هناك وعرقل إيفاءها بالتزاماتها.
عندما زار رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بورتسودان والتقى قائد القوات المسلحة السودانية عبدالفتاح البرهان في أوائل يوليو (تموز) الماضي، كانت تلك أول زيارة يقوم بها رئيس دولة أجنبية إلى بورتسودان منذ انتقال مجلس السيادة الانتقالي من الخرطوم إلى شرق السودان بعد اندلاع الحرب. كان موضوع اللقاء المعلن هو إيجاد حل للأزمة السودانية. ولكن بقراءة الأحداث القريبة وموقف آبي أحمد نفسه من الجيش السوداني بعد الإجراءات التي فرضها الفريق البرهان في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، ثم تداول أخبار عن تحالف الجيش مع قوات تيغراي، يمكن إدراك أن عدداً من المعضلات السابقة قد أُزيلت، ويضاف إلى ذلك محاولات قوات "الدعم السريع" السيطرة على ولاية سنار المتاخمة لإثيوبيا، واحتمال تحالفها مع ميليشيات "فانو" لتطويق المنطقة شرق وغرب الحدود السودانية-الإثيوبية.
سيناريوهات محتملة
يثير تصاعد نزاع إقليم أمهرة، عدداً من السيناريوهات المحتملة في ظل عدم الاستقرار الذي يجتاح المنطقة. السيناريو الأول، بما أن ميليشيات "فانو" منقسمة إلى فصائل عدة، ولديها أهداف إستراتيجية متباينة بسبب اختلافاتها السياسية والدينية، فإنها تفتقر إلى قيادة مركزية موحدة خصوصاً عند انعقاد المفاوضات مع الحكومة المركزية الإثيوبية. ونتيجة لذلك سوف تتعذر المحادثات مع الحكومة الفيدرالية، كما ستواجه التزامات معاهدات السلام المستقبلية تحديات إضافية بسبب الأراضي المتنازع عليها، ومسألة من سيمثل الأمهرة في المحادثات، وتعنت "فانو" الذين رفضوا الامتثال لوساطات شيوخ وزعماء دينيين من الإثنية نفسها مطالبين بتدويل القضية أسوة بقضية تيغراي، مما يعني استمرار النزاع.
والثاني، الامتثال لسلام هش قد يصعد من خلاف "فانو" مع جماعة "قيمنت" من الإثنية نفسها، أو ربما يستثير القوميات الأخرى في المناطق المجاورة للإقليم مثل تيغراي أو أوروميا، لا سيما بعد حشد قوات تيغراي لاستعادة المناطق المتنازع عليها من سيطرة أمهرة. عندها ستحارب ميليشيات "فانو" من منطلق ديني وإرثها التاريخي المؤسس لإثيوبيا، وزعم محاولات ارتكاب إبادة جماعية ضدها لا سيما بعد عمليات قتل الأمهرة في أوروميا، وتهديد أراضيهم بما فيها العاصمة الفيدرالية أديس أبابا.
أما الثالث، يمكن أن يؤثر تمرد "فانو" في القضايا العابرة للحدود الوطنية التي تشمل الحرب في السودان إضافة إلى تعدياتها الحدودية، وعدم الاستقرار في الصومال والوضع في إريتريا، مما يمكن أن يرتد بصورة أعنف على إثيوبيا نفسها، وينعكس على مناطق أخرى في القرن الأفريقي. وتبعات هذا السيناريو كثيرة منها انعدام الأمن وتفاقم أزمة اللاجئين والعنف الإثني وربما تهديد مصالح القوى الدولية في المنطقة مما يستدعي تدخلها.
والسيناريو الرابع، نسبة إلى أن إقليم أمهرة يقطنه نحو 23 مليون شخص، ولديهم اعتداد كبير بلغتهم "الأمهرية" وهي اللغة الرسمية لإثيوبيا، وكذلك أصولهم التي تعود وفقاً للمعتقد التقليدي للقومية إلى سام ابن النبي نوح، فهنا تختلط سرديات التفوق العرقي مع الشعور بالتمييز السلبي مما يؤهل الإقليم للانفصال. وإذا تحقق ذلك وأصبح دولة مستقلة سيعاود الروايات التاريخية عن الامتداد إلى شرق السودان في عهد الإمبراطورية الإثيوبية ودور الأمهرة فيها، وسيوجه عداءه إلى السودان.