منذ عام 1971، شكّلت سوريا المنفذ الوحيد لروسيا على مياه البحر الأبيض المتوسّط، من خلال قاعدة طرطوس، وموطئ قدم الروس في الشرق الأوسط. وبعد أربع سنوات على تدخّلها العسكري في سوريا، لا شيء يوحي بأن وجودها لن يكون طويلاً، على الرغم من الإعلان التدريجي عن سحب موسكو لقوات وخفض ملحوظ لعملياتها في سوريا، من دون أن يؤثر ذلك على وجودها على المدى الطويل فيها، الذي يبدو أساسياً لمستقبل البلاد.
فالجنود الروس يتمتّعون بحياة مرفّهة في قاعدتهم البحرية الرئيسة في مدينة طرطوس الساحلية، وفي قاعدة حميميم الجوية في محافظة اللاذقية المجاورة، إذ يرسّخ الجيش الروسي حضوره ولا يمانع عرض منشآته أمام مجموعة من الصحافيين، دُعُوا لزيارة سوريا، بينهم فريق من وكالة الصحافة الفرنسية.
وبإمكان الجنود الروس ارتياد قاعات الرياضة وحمّام الساونا والمخابز ومصبغة الملابس، وكنيسة صغيرة أرثوذكسية. ويقول ضابط روسي، فضّل عدم الكشف عن هويته كونه غير مخوّل بالتصريح للصحافيين، إن لدى الجنود "كل وسائل الراحة اللازمة". ويشير ضابط آخر إلى نباتات صغيرة مزروعة داخل حديقة في القاعدة البحرية، "سيكون أمامها الوقت الكافي لتنمو".
إنقاذ الأسد
وأتاح تدخّل سلاح الجو الروسي في النزاع السوري، منذ نهاية سبتمبر (أيلول) 2015، ترجيح الكفة لصالح نظام بشار الأسد، الذي تمكّنت قواته من إحراز تقدّم واسع على حساب الفصائل المقاتلة المعارضة، مستعيدةً السيطرة على مساحة كبيرة من البلاد.
وبات الجنود الروس يظهرون علناً، على غرار دوريات الشرطة العسكرية التي تجوب شوارع المدن السورية، و"المستشارون" الذين يتجوّلون أمام عدسات وسائل الإعلام أثناء تدريبهم لكتيبة النخبة التابعة للجيش السوري قرب دمشق.
وفق إحصاءات رسمية، ينتشر 3 آلاف جندي روسي في سوريا، إضافة إلى طائرات ومروحيات وسفن حربية وغواصات أخرى. وتوفّر أنظمة دفاع جوي حديثة من طراز "أس 400" الحماية لمنشآتهم.
قاعدتا طرطوس وحميميم "روسيتان" لـ 49 عاماً
وبعدما أقيمت على عجل على أطراف مطار مدني، أصبحت قاعدة حميميم الروسية قاعدةً دائمة بدءاً من العام 2017. والأمر نفسه حدث في طرطوس، حيث تحوّلت المنشأة التابعة للبحرية الروسية إلى "قاعدة بحرية دائمة".
إذ تحظى موسكو في الموقعين بعقدي إيجار لمدة 49 عاماً، سيرسّخان حضورها في الشرق الأوسط ويمكّنانها من ممارسة نفوذها، خصوصاً في مواجهة الولايات المتحدة، خصمها التاريخي.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واضحاً بقوله، في يونيو (حزيران) 2018، إن الروس سيبقون في سوريا طالما ترى موسكو مصلحة في ذلك. وأسهم وجود روسيا في هذا البلد وتقاربها من إيران بجعلها لاعباً رئيساً في المنطقة.
وعلى المستوى العسكري، أتاحت الحرب السورية، التي بدأت عام 2011 وتداول على المشاركة فيها 63 ألف عسكري روسي، اختبار روسيا لقواتها ولأسلحة متقدمة على غرار صواريخ "كاليبر" والقاذفات بعيدة المدى ضمن ظروف حقيقية. وعبر تنفيذ نحو 100 طلعة جوية يومياً في أحلك ظروف الحرب، اكتسب نحو 90% من طياري الجيش الروسي خبرةً قتالية.
بقاء مشروط برئاسة الأسد
يقول مدير الأبحاث في معهد حوار الحضارات في موسكو أليكسي ملاشينكو لوكالة الصحافة الفرنسية "مع هذه القواعد، عزّزت روسيا مكانتها، لكن ذلك طالما لديها بشار الأسد في سدة الرئاسة". وأضاف "لن يكون هناك أي بديل أو حركة أو مجموعة يمكن أن تدافع عن الوجود الروسي بمثل هذا الحماس".
غير أنه لتحقيق استقرار النظام السوري وضمان استمرار وجوده، يتوجّب على روسيا مواجهة ملف إعادة الإعمار الشائك، الذي قدّرت الأمم المتحدة العام الماضي كلفته بأكثر من 400 مليار دولار.
وفي الوقت الحالي، لا تؤتي الجهود المبذولة في العديد من المدن ثمارها، في ظل العقوبات الغربية المفروضة على دمشق وإحجام المجتمع الدولي عن تمويل فترة ما بعد الحرب، بسبب عدم إحراز تقدم حقيقي نحو حل سياسي للنزاع المستمر في البلاد منذ أكثر من ثماني سنوات.
ففي حلب، ثاني أكبر مدن سوريا التي دمّرتها الحرب، أتاح الدعم الروسي عبر توفير أسلاك التوتر العالي والأنابيب إعادة التغذية بالكهرباء وتوفير المياه للمنازل. لكن الأحياء التي كانت تحت سيطرة الفصائل المعارضة لا تزال غارقةً في الدمار.
ولم يتّضح بعد ما إذا كانت العملية السياسية التي بدأت مع تشكيل لجنة دستورية أخيراً، تضمّ ممثلين عن النظام والمعارضة والمجتمع المدني، قادرةً على حسم مسألة مستقبل بقاء الأسد، الذي تطالب أطراف محلية ودولية برحيله.
كما أن محافظة إدلب شمال غربي البلاد، التي تسيطر هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) على الجزء الأكبر منها، تخضع لاتفاق هشّ بين موسكو وأنقرة لوقف إطلاق النار، لتجنيبها هجوماً دموياً من قبل النظام السوري. لكن لا يمكن ضمان استدامة الوضع الراهن فيها حالياً.
"لا استراتيجية روسية"
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفيما يتعلّق بمستقبل الوجود الروسي في سوريا، يعتبر ملاشينكو "أنه ما من مخرج أمام روسيا. لديها تكتيك جيد ولكن من دون أي استراتيجية"، معرباً عن اعتقاده أنها تعرف ما ستكون عليه "الخطوة المقبلة ولكن لا أحد يعلم ما سيحصل بعد ذلك".
ولطالما سعت روسيا إلى ترسيخ علاقاتها مع سوريا. إذ منذ وصول الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى سدة الرئاسة عام 1970، تعزّزت العلاقات بين البلدين، وراح الاتحاد السوفياتي يقدّم الدعم لنظام الأسد لتعزيز وجوده في الشرق الأوسط بوجه الأميركيين.
وقدّم السوفييت الدعم السياسي والعسكري لدمشق وأغرقوها بالأسلحة، كما أسهموا في بناء البنى التحتية في سوريا، ووثّق البلدان تعاونهما الثقافي والاقتصادي. ومع اندلاع الحرب السورية عام 2011، دعمت موسكو حكومة دمشق دولياً، فنقضت مراراً مشروع قرارات في مجلس الأمن لإدانة النظام السوري. وعندما وجد الروس أن دعم إيران غير كاف لإنقاذ الأسد، أرسل بوتين قواته إلى سوريا حيث شكلوا الرافعة الأساسية للنظام.
غير أنه على الرغم من المكاسب السياسية والعسكرية التي حقّقتها روسيا من تدخّلها في الحرب السورية، شكّلت فاتورة الحفاظ على نافذتها إلى الأبيض المتوسّط عبئاً ثقيلاً على موازنتها، إذ قدّرت صحيفة "فاينانشال تايمز" إنفاق موسكو على هذه الحرب بنحو 3.2 مليون دولار يومياً، ومليارات الدولارات منذ ثماني سنوات حتى اليوم.