ملخص
"الأشجار ليست عمياء"، رواية للكاتبة شيماء هشام سعد تتطرق إلى قضايا الهجرة الفلسطينية واللجوء والإصرار على عدم التخلي عن الأرض والبيت، أياً يكن الثمن.
من الواضح من رواية "الأشجار ليست عمياء" (دار دون، 2024) أن الكاتبة المصرية شيما هشام سعد، غزيرة في أفكارها وأسلوبها الروائي وتملك الكثير لتقوله، فهي على مدى 24 فصلاً من الرواية ، تتخللها فصول مذكرات لا تدخل ضمن الترقيم، تمسك باهتمام القارئ وانتباهه وتركيزه بقبضة من حديد، أولاً بفضل فكرتها الغريبة وأسلوبها السهل، وثانياً بفضل تقنية تعدد الأصوات الروائية التي تعتمدها وتعدد القضايا والمستويات السردية.
في كل فصل، وعلى مدار 270 صفحة تقريباً، يختلف الراوي وتختلف زاوية السرد ليتمكن القارئ من الإحاطة علماً بكل ما يجري مع الشخصيات. أما ما يجري فهو أمر جلل، تموت حبهان الأم والزوجة، لكن زوجها عبود يعود من الدفن ليجدها في البيت تطوي الغسيل، فكيف يخبرها أنها ميتة وأنها يجب أن تغادر البيت؟
تدور أحداث هذه الرواية في فيرفاكس، وهي مدينة تقع في الولايات المتحدة الأميركية في ولاية فرجينيا، مع أفراد عائلة فلسطينية مؤلفة من أم هي حبهان، وأب هو عبود، وثلاث بنات هن أمينة وصفية وضحى، وابن هو يوسف، وهو ابن الأم من زوجها الأول، وإبراهيم الابن الذي انتحر لضغوط من معلمته اليهودية الإسرائيلية. وتـتـنـقل دفة السرد بين هؤلاء جميعهم لتكتمل الحبكة من نواحيها المختلفة.
ويصدم القارئ لاكتشافه منذ بداية السرد أن الأحداث تدور حول عودة الأم من الموت وحول واقع أن الأب هو وحده الذي يراها، فيقول هذا الأخير: "أسخف ما يمكن أن تتعرض له كإنسان هو أن تخاف من شيء لا يراه أحد غيرك، ولا يريد أحد أن يصدقك عندما تخبرهم بوجوده" (ص: 19)، ثم يصف الأب الموقف بجمل أخرى قائلاً "أليس من الطبيعي أن يرغب الإنسان في ذهاب شخص ميت؟ أي إنسان في هذا العالم قد يحب أن يدفن شخصاً، ثم يعود إلى البيت ليجده يجمع الملابس للغسيل كأن شيئاً لم يحدث؟" (ص: 207).
يروح الأب يخبر المحيطين به من أصدقاء وجيران وأقرباء، طوال السرد، أن زوجته الميتة تعيش معه وترفض مغادرة البيت وترفض تصديق فكرة أنها ميتة، لكن أحداً لا يصدقه بطبيعة الحال، فيقول واصفاً حاله: "من ساعتها وأنا أعيش مع امرأة ميتة في بيت واحد، بالطبع صرخت كثيراً، حكيت كثيراً، لكن أحداً لم يصدقني، قالوا أعصاب الرجل تعبانة بسبب وفاة زوجته، وفسروا ذلك بالوفاء والبقاء على العشرة" (ص: 23).
والأغرب من هذا كله أن الزوجة التي تعود من الموت تمسك بزمام السرد في فصلين اثنين (الفصل 7 والفصل 23)، وكأن شيئاً لم يكن وكأنها غير ميتة. لكنها في الواقع لا تعلم حتى إنها ميتة ويراها القارئ تكمل حياتها بصورة عادية مستغربة تصرفات زوجها الفظة التي توحي لها برغبته برحيلها، فيقول الزوج: "وخطر لي للمرة الأولى وأنا أنظر إليها خلسة بطرف عيني: هذه المرأة لا تعلم أنها ماتت! أكاد أقسم على هذا، لكن كيف!" (ص: 74) [...] نعست وأنا أفكر في هذه الورطة الجديدة وأتساءل كيف بإمكان الرجل أن يقنع زوجته أنها ماتت وعليها أن تغادر البيت" (ص: 78).
والأكثر إثارة لانتباه القارئ وتشوقه هو أسلوب الكاتبة الساخر والجذل في وصف غرائبية الموقف، فيزخر النص بجمل غريبة يلفظها الزوج المرعوب والمتوجس من الورطة التي هو فيها كمثل: "ضحكت ضحكة أخافتني، وكل ضحكها يخيفني لأنه ليس من الجيد أن يضحك لك شخص ميت في العموم" (ص: 150).
أهل البيت لا يتركونه
قد تبدو هذه الرواية لمن يقرؤها ويقرأ عن موضوعها بأنها رواية ظريفة سلسلة تتناول موقفاً غريباً ومضحكاً، لكنها أكثر من ذلك. يمتلئ النص بإشارات وعودات إلى القضية الفلسطينية وإلى قضية سكان الولايات المتحدة الأميركية الأصليين الذين أجبروا على الرحيل عن أرضهم والانزواء في أجزاء صغيرة منها فحسب. ويتشابه الشعبان ويرتبطان، إذ إن أرضيهما كليهما قد سلبت وسرقت وتم احتلالها من العدو نفسه.
إن رفض المرأة الفلسطينية التي تموت مغادرة بيتها، هو رمز لرفض الفلسطيني مغادرة بيته وإن مات وإن تهجر وإن أصبح لاجئاً. تطرح الكاتبة عدة موضوعات كبيرة ودقيقة وحساسة بأسلوب ذكي محنك، سواء من حيث علاقة الفلسطيني بوطنه وأرضه وبيته ورحيله القسري عنها، أو من حيث علاقة السكان الأصليين بالإدارة السياسية للولايات المتحدة الأميركية، فترد جمل مفتاح لا يمكن إلا أن تلفت بالإشارات التي تودي إليها، كمثل قول حبهان المرأة التي من المفترض أنها ماتت: "أنحدر من ناس لا يتركون بيوتهم أبداً حتى لو خرجوا لبعض الوقت" (ص: 72).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن الجدير ذكره أن حبهان فلسطينية مولودة في مخيم تل الزعتر في لبنان عام 1960، هاجرت مع والدها إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد مجزرة تل الزعتر التي كلفتها خسارة أمها وإخوتها، من دون أن تنسى يوماً واقع لجوئها وهربها وخساراتها المتعددة لمصلحة قضية لا يتخلى عنها أهلها.
وما يمنح السرد عمقاً أكثر بعد هو فصول المذكرات التي يجدها صهر المرأة الميتة ويقرؤها، فيقرأ قصة الموت والهجرة واللجوء والفقد والخسارة والألم واتخاذ قرارات ضرورية وقاسية للاستمرار والبقاء. تمتلئ مذكرات المرأة الفلسطينية بالحزن والوجع والرحيل والانتقال من وطن مسروق إلى الوطن الذي سرقه، والذي أيضاً تمت سرقته من أهله الأصليين، وتشكل شخصية المرأة الفلسطينية الميتة رمزاً كثيفاً ولغزاً هائلاً بتفاصيل حياتها وشخصيتها ومبادئها وكيفية تربيتها لأولادها وللأسئلة الكثيرة التي تطرحها، فتتحدث في مواضع كثيرة من السرد عن هويتها كفلسطينية أميركية وعن علاقتها بمفهوم الوطن، فتكتب في مذكراتها: "لا وطن ولا بيت والأبناء ذهبوا، أبسط يدي الفارغتين أمامي وأتأملهما، ماذا تبقى لي غير هذا البيت في وطن مسروق وذاكرة تتفلت منها صورة وطن رفضت أن أدخله للمرة الأولى بختم سارقه على جواز سفري. هل هذا بيتي حقاً؟ [...] وهل أنتمي إلى هذا البلد الذي عشت فيه ثلاثة وأربعين عاماً أم إلى البلد الذي أخرجوا أبي منه ولم أره؟" (ص: 157).
"الأشجار ليست عمياء" رواية كثيفة وسلسلة في الوقت نفسه رواية فيها حبكة غريبة غرائبية لكنها في الوقت نفسه تحمل في كلماتها رمزية وطن مسلوب وشعب مقهور وأناس يرفضون مغادرة بيوتهم على جثثهم وبعد موتهم حتى.