ملخص
في الحلقة الثانية من ملف "حزب الله" في الأرشيف الوطني البريطاني، تستعرض "اندبندنت عربية" أبرز محطات الخلاف والصراع حول المرجعية العليا للمذهب الشيعي في نهاية القرن الماضي، بخاصة بعد وفاة المرجع الديني الشيعي أبو القاسم الخوئي، واحتمالية أن يصبح رجل الدين اللبناني محمد حسين فضل الله المرجع الأعلى في النجف، وكذلك محاولة اغتياله في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت.
يعود تاريخ الصراع حول المرجعية العليا للمذهب الشيعي إلى مطلع القرن السادس عشر الميلادي، حين أرادت الأسرة الصفوية وهي أسرة ذات جذور تركية آذرية من مدينة أردبيل الواقعة في إقليم آذربيجان شمال غربي إيران، استغلال هذا المذهب لغايات سياسية.
ومنذ ذلك الحين بدأ التنافس بين تيار شيعي موالي للدولة الفارسية، وصفه الكاتب الإيراني الراحل الدكتور علي شريعتي، بـ "التشيع الصفوي" يقابله "التشيع العلوي".
وقد حاول الصفويون نشر المذهب الصفوي في إيران والمناطق المجاورة الأخرى لإيران، وأولوا اهتماماً كبيراً بفتح المزارات الدينية. وكانت العلوم الدينية الشيعية التقليدية تُدرس في مدينة النجف العراقية بعد هجوم السلاجقة، أي قبل أكثر من 500 عام من صعود الصفويين للسلطة، وكانت بلاد فارس والأقاليم المجاورة لها جميعها تحسب على أهل السنة.
أما الحوزة العلمية بمدينة قُم الإيرانية، فقد دشنت عام 1923 ولم تكن منافسة لحوزة النجف في بدايات تدشينها لكن مع وصول آية الله الخميني للسطلة في إيران عام 1979 ظهر الصراع الخفي حول المرجعية العليا بين حوزتي قم والنجف للعلن.
على مدى أكثر من أربعة عقود صمدت الحوزة العلمية بالنجف أمام مرجعيات الحوزة العلمية في قم، إلا أن الحرب الإيرانية- العراقية (1980-1988) ولاحقاً عملية غزو العراق للكويت عام 1990 وفترة الحصار الدولي على العراق، أسهمت بشكل مباشر في تضعيف الحوزة العلمية في النجف وتراجع دورها.
عام 1992 توفي المرجع الديني الشيعي أبو القاسم الخوئي، وبعدها انتقلت الأنظار إلى لبنان، حيث رجل الدين محمد حسين فضل الله، باعتبار أنه سيصبح المرجع الأعلى في النجف، وهو الأمر الذي أزعج القيادة السياسية وولي الفقيه في إيران وجعلها تعمل على إزاحة فضل الله والتخلص منه، على رغم أنه كان يعتبر الأب الروحي لـ "حزب الله" في لبنان.
منابر موالية لإيران تهاجم فضل الله
في الحلقة الأولى من ملف "حزب الله" في الأرشيف الوطني البريطاني، استعرضت "اندبندنت عربية" ما كشفته الوثائق عن نشأة الحزب وانتشاره عسكرياً بين البقاع والجنوب، وكذلك العلاقة التي جمعته بالسوريين الذين كانوا حاضرين خلال الحرب الأهلية في لبنان وحتى بعدها.
وفي الحلقة الثانية، تستعرض إحدى وثائق هذا الملف التي تعود لعام 1994 من الأرشيف الوطني البريطاني، ترجمة حرة لمقال كان قد انتشر في صحيفة "الوطن العربي" في عددها رقم 879 الصادر يوم 7 يناير (كانون الثاني) من العام نفسه، في مرحلة كان الخلاف بين فضل الله من جهة والحزب وإيران من جهة ثانية في أوجه.
يذكر هذا المقال أن الخلاف بين إيران والحزب من جهة، والشيخ محمد حسين فضل الله من جهة أخرى، لم يبق خلف الكواليس طويلاً، حيث منذ أسابيع، وجه خطباء المساجد في قم وفي المدن الإيرانية الأخرى اتهامات وإساءات للأب الروحي لـ "حزب الله"، ولعنوه بكل أنواع اللعنات، وامتدت الحملة ضده حتى وصلت إلى بعض المنابر الشيعية في لبنان وقيادات الحزب.
يسأل كاتبو هذا المقال عن أسباب هذا الاختلاف وتداعياته؟ و"هل فعلاً بسبب الاتهام الموجه لفضل الله، أنه انتقد مكانة السيدة فاطمة الزهراء (بالقول إن كل ما كتب عنها لم يكن دقيقاً في محاضرة فلسفية ألقاها)، أم بسبب إعلان تأييده لمرجعية النجف (العراق) مقابل مرجعية قم (إيران)، أم بسبب ترشحه لمنصب المرجعية العليا؟ (بعد وفاة الخوئي في النجف)؟".
لبنان والتحالف الشيعي الثلاثي
ومما جاء في الوثائق عن فضل الله أيضاً أنه طوال السنوات الأخيرة من عصر الثورة الإسلامية الإيرانية، عمل فضل الله، المعروف بأنه من جماعة النجف التقليدية، على الظهور وكأنه الخيط الرفيع الذي يربط بين سلطات النجف وقم... وعلى رغم تحفظاته على عمليات الحزب، ورفضه المقاومة الإسلامية ضد إسرائيل أثناء الاجتياح الإسرائيلي صيف عام 1982، إلا أنه قبل تشكيل خلايا الحزب على يد الخميني، وهو عمل حتى يصبح معروفاً في الأوساط الإعلامية بصفته الزعيم الروحي أو المرشد لـ "حزب الله".
تقول الوثائق "لقد كان الشيخ فضل الله يحلم منذ زمن طويل بالسلطة... وفجأة، أصبح منبوذاً في قم، وبالتالي فقد آماله في السلطة حتى على نطاق محدود. والسبب الواضح لهذا الاستبعاد المفاجئ هو الاتهام بأنه انتقد مقام السيدة فاطمة الزهراء في محاضرة تاريخية ألقاها".
وفي هذا الإطار مما كشفه الأرشيف البريطاني أن فضل الله كتب رسالة إلى القيادات والمرجعيات الدينية في قم يبرر فيها ما قاله في محاضرته، وأوضح مواقفه الحقيقية ودافع عن نفسه. لكنه لم يتلق أي ردود ولم يغفر له. فكان عليه أن يلجأ إلى النجف بعد خيبة أمله وفشله في استعادة الدوائر الشيعية في قم ولبنان، بعد أن ثبت له أن المرجعية العليا انتقلت إلى إيران".
نصرالله يقود حملة إعلامية ضد فضل الله
حسن نصرالله، الأمين العام الحالي لـ "حزب الله"، كان في تلك الفترة ناشطاً في الحزب، وهنا "تؤكد مصادر مطلعة في بيروت أن الحملة التي يشنها الحزب ضد فضل الله تصاعدت وأدت إلى تحالفات جديدة واضطرابات داخل الطائفة الشيعية. وتشير هذه الأوساط إلى أن فضل الله يخطط لهجوم مضاد للخروج من عزلته من خلال تشكيل تحالف ثلاثي مع الأمين العام السابق لحزب الله صبحي الطفيلي، والشيخ صادق الموسوي. والأخير استغل موقف فضل الله المحرج وعقد اجتماعات معه على أساس معارضة توجيهات قيادة الحزب".
ويعتبر الشيخ الموسوي من أبرز المعارضين لقيادة الحزب في لبنان. وهو إيراني جاء إلى لبنان عام 1970 ويتحرك تحت غطاء "الحركة الإسلامية في لبنان". ولديه، بحسب الوثائق البريطانية، إمكانيات مالية محترمة تتدفق من التيارات الإيرانية المتطرفة.
أما صبحي الطفيلي، فهو رجل دين شيعي وأول أمين عام لـ "حزب الله"، لكن كانت له مواقف متمايزة عن قيادة الحزب، لعل أبرزها معارضته بشكل علني في مرحلة لاحقة بعد انتهاء الحرب الأهلية دخول الحزب البرلمان اللبناني ومعه الحياة السياسية.
وبالعودة إلى الوثائق، يذكر أن هذا التحالف الثلاثي الذي جمع الطفيلي والموسوي وفضل الله، خلق جبهة معارضة لمواجهة الحزب وأمينه العام. ويشار هنا إلى أن هذه الجبهة مؤيدة للتيار البقاعي في الحزب وضد التيار الجنوبي، فيما يكشف الملف السري أنه كان متوقعاً أن ينضم حينها إلى هذا التحالف أيضاً حسين الموسوي، المسؤول في حركة "أمل" إلى هذه الجبهة المعارضة، بعدما بات في عزلة فرضتها عليه قيادة الحزب وقيدت نشاطاته وتحركاته ووضعه المالي.
إيران تحذر من نقل المرجعية العليا إلى النجف
وفي سياق الخلاف بين مرجعيتي النجف وقم، نشر هذا الملف البريطاني السري ترجمة مقتضبة لمقال من مجلة "الوسط" الصادر في 9 يناير (كانون الثاني) 1994، بعنوان "إيران تحذر من نقل المرجعية العليا إلى النجف".
يتوقف هذا المقال بشكل واضح عند ما وصف أوساط إيرانية دعوة بعض الأحزاب الدينية لنقل المرجعية العليا إلى النجف في العراق، بأنها "مؤامرة خطيرة يجب مواجهتها وإخراجها إلى العلن". وقد أعربت شخصيات دينية حينها عن انشغالها بالدعوة أو النية لنقل المرجعية الدينية الشيعية العليا إلى النجف، وقالت إن مثل هذه الدعوة تأتي من خارج المؤسسة الدينية وتجد صدى داخلياً لدى من يتحرك في النجف.
وكما تطرق المقال إلى مؤامرة داخلية لنقل المرجعية العليا إلى النجف، يتحدث أيضاً عن التأثيرات الخارجية والغربية تحديداً في الإطار نفسه. وينقل عن الشيخ مسيح مهاجري، الذي كان مقرباً حينها من خامنئي، أن بريطانيا والولايات المتحدة تحاولان منذ فترة طويلة التأثير على انتخاب المرجع الديني الشيعي الأعلى، وتعملان على بسط نفوذهم داخل المؤسسة الشيعية لتوظيفها لخدمة مصالحهم، وقال إن "بعض سفارات الدول الغربية توزع الأموال هنا وهناك ورواتب للطلبة لتعزيز مواقف بعض المرشحين لمنصب المرجعية الشيعية العليا".
محاولة فاشلة لاغتيال فضل الله وعماد مغنية
التهديدات والخلافات حول المرجعية العليا للمذهب الشيعي، لم تبق في إطارها الكلامي أو الإعلامي، إذ تكشف برقية تحمل الرقم 602 صادرة عن السفارة البريطانية في بيروت والمرسلة يوم 22 ديسمبر (كانون الأول) عام 1994 إلى مرجعيتها في لندن، عن عملية تفجير سيارة مفخخة مساء يوم 21 ديسمبر من العام نفسه، وقعت في ضاحية بيروت الجنوبية. مما أدى إلى مقتل 4 أشخاص وإصابة 14 آخرين. وقدرت العبوة المنفجرة بـ 70 كيلوغراماً من مادة "تي إن تي".
وهنا تقول البرقية إن الهدفين الحقيقيين من التفجير هما كبار مسؤولي "حزب الله"، وبالتحديد محمد حسين فضل الله وعماد مغنية، الذين نجوا... أما المشتبه فيهم فهم إما إسرائيليين أو فصائل داخل الحزب.
وتضيف البرقية "وفقاً لموظفي الأمن التابعين لنا داخل السفارة (البريطانية)، يعتقد أن الهدفين الحقيقيين هما الشيخ فضل الله وعماد مغنية، زعيم "الجهاد الإسلامي" سيئ السمعة وشقيق فؤاد الذي قتل. انفجرت القنبلة على الطريق بين منزل فضل الله والمسجد الذي يرتاده. كانت سيارته قد مرت قبل 3 دقائق من التفجير. والطريق القصير الذي انفجرت فيه القنبلة هو الجزء الوحيد من الطريق بين المنزل والمسجد الذي لا يمكنه تجنبه. سمعت مصادر سفارتنا أن عماد مغنية عاد إلى بيروت من إيران منذ أسبوعين، وقضى معظم وقته منذ ذلك الحين مع فضل الله".
إشارة إلى أن عماد مغنية، يعد من أهم قادة، وقد اغتيل بتفجير سيارته في سوريا عام 2008، وفيما اتهم الحزب تل أبيب مباشرة باغتياله، نفت الأخيرة مسؤوليتها عن الأمر. وتصفه وسائل إعلام إسرائيلية بأنه "أخطر إرهابي" في الشرق الأوسط منذ 30 عاماً.
السيارات المفخخة ليست الطريقة المعتادة للموساد
وبالعودة إلى حادثة تفجير السيارة المفخخة عام 1994، اتهم "حزب الله" إسرائيل بالوقوف وراء الحادثة، لكن تل أبيب لم تؤكد أو تنفي ضلوعها في التفجير.
وفي هذا الإطار، تتحدث برقية مرسلة من السفارة البريطانية في تل أبيب إلى مرجعيتها في لندن عن غياب أي دليل على أن إسرائيل كانت وراء الحادثة، وتضيف بناء على حديث مصادر إعلامية موثوقة أن "عمليات السيارات المفخخة من هذا النوع ضد المدنيين ليست الطريقة المعتادة للموساد الإسرائيلي".