ملخص
في مايو (أيار) الماضي خفضت مؤسسة "ستاندرد أند بورز" للتصنيف الائتماني تصنيفها لسندات الدين السيادي الفرنسي نقطة إلى مستوى AA-
استقرت أسعار الأسهم والسندات في السوق الفرنسية نسبياً أول من أمس الإثنين، حتى بعد رفض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبول استقالة الحكومة، وإن ظل مؤشر "كاك 40" في البورصة أقل بنسبة أربعة في المئة عن مستواه قبل الدعوة إلى الانتخابات في التاسع من يونيو (حزيران) الماضي.
وتراجع فارق زيادة العائد على سندات الدين السيادي الفرنسي مع نظيرتها الألمانية بصورة طفيفة عن النسبة الكبيرة التي وصل إليها بعلاوة أخطار أعلى من 0.7 في المئة ليصل الفارق إلى أعلى من 0.6 في المئة، لكن يظل العائد على السندات الفرنسية المتوسطة الأجل لمدة 10 سنوات مرتفعاً عند أعلى مستوياته في ثمانية أشهر مقترباً من نسبة 3.3 في المئة.
وتشهد الأسواق حالاً من القلق والانزعاج إزاء الوضع في فرنسا منذ جاءت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات مشيرة إلى فوز اليمين المتطرف بغالبية برلمانية، ثم أسفرت الجولة الثانية من الانتخابات عن فوز تحالف أحزاب يسارية في المركز الأول يليه تحالف الوسط للرئيس ماكرون، وجاء اليمين المتطرف في الترتيب الثالث لجهة عدد المقاعد في البرلمان.
وإذا كانت الأسواق العالمية ارتبكت مع احتمال فوز اليمين المتشدد وتشكيل الحكومة قبل أكثر من أسبوع، فإنها الآن لم تهدأ في ظل "برلمان معلق" لا يملك فيه أي حزب الغالبية التي تمكنه من تأليف الحكومة وحده، بالتالي يُخشى من استمرار الاضطراب السياسي في سياق السعي إلى تحالفات لتشكيل حكومة بين أحزاب تبدو متناقضة في برامجها الاقتصادية ومواقفها من مشكلات البلاد الملحة.
أزمة ديون
في مايو (أيار) الماضي خفضت مؤسسة "ستاندرد أند بورز" للتصنيف الائتماني تصنيفها لسندات الدين السيادي الفرنسي نقطة إلى مستوى AA-، محذرة من ضرورة "ضبط الأوضاع المالية" للبلاد، وفي المذكرة المصاحبة لقرارها قالت المؤسسة الكبرى، "تزيد عمليات التشظي السياسي من عدم اليقين والشكوك في قدرة الحكومة على الاستمرار في تطبيق السياسات التي تؤدي إلى زيادة معدل النمو الاقتصادي وتواجه اختلالات الموازنة".
وكان ذلك قبل نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي فاز فيها اليمين المتطرف في فرنسا بالنسبة الأكبر من المقاعد وحل البرلمان ودعوة الرئيس الفرنسي إلى انتخابات عامة، ومنذ ذلك الحين تضاعفت المخاوف من تدهور الأوضاع في ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو بعد الاقتصاد الألماني، فعلى جانبي الطيف السياسي الفرنسي، سواء اليمين أو اليسار، يسعى المتطلعون للحكم إلى تنفيذ برامج إنفاق تمول بواسطة زيادة الاقتراض، مما يهدد بفقاعة دين غير مستقرة قابلة للانفجار مع أي تطور بسيط مثل إفلاس بنك أو عمليات بيع كبيرة لسندات الدين في السوق.
وتزيد نسبة العجز في الموازنة الفرنسية على خمسة في المئة (5.5 في المئة العام الماضي)، بينما سقف العجز المحدد للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي هو نسبة ثلاثة في المئة، أما الأخطر فهو حجم الدين العام الفرنسي الذي تزيد نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي على 110 في المئة، فضلاً عن أن البلاد ترزح تحت ضغط دين عام يصل إلى 3 تريليونات يورو (3.2 تريليون دولار)، حتى بعد رفع سن معاشات التقاعد العام الماضي.
ويشكل هذا الوضع الذي يمكن وصفه بأنه "على حافة الخطر" كما ذكرت صحيفة "فايننشال تايمز" مشكلة كبيرة ليس لفرنسا فحسب، بل لمنطقة اليورو كلها والمفوضية الأوروبية في بروكسل كذلك، خصوصاً إذا أفلت زمام الأمور وأصبحت فرنسا بؤرة أزمة دين أوروبية تتطلب تدخلاً للإنقاذ.
صعوبة الإنقاذ
قبل عقد من الزمن عام 2014، اندلعت أزمة ديون في أوروبا بسبب تعرض اليونان للإفلاس (التخلف عن سداد الديون)، ولم يكُن كافياً تدخل صندوق النقد الدولي لإنقاذ الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي، فاضطر البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية إلى ترتيب حزم إنقاذ لليونان بشروط قاسية، لكن في النهاية أدت عملية الإنقاذ إلى خروج اليونان من الأزمة وأصبح اقتصادها الآن أفضل أداءً من اقتصادات أوروبا الكبرى.
بل إن الدول التي عانت مشكلات مديونية في السابق وتجاوز فيها العجز النسبة المحددة من المفوضية الأوروبية مثل البرتغال وإيرلندا وإسبانيا حتى أصبحت في وضع اقتصادي جيد، أما الاقتصادين الكبيرين، الألماني والفرنسي، فيعانيان خلال الأعوام الأخيرة مشكلات بطء النمو وتفاقم العجز وغيرها من الاختلالات المالية.
وسواء كان اليمين المتطرف فاز في الجولة الثانية من الانتخابات كما في الأولى وشكّل الحكومة، أو شكل تحالف يساري الحكومة كما يبدو الوضع الآن، فإن فرنسا مقبلة على أزمة مالية وانفجار فقاعة دين وفقدان ثقة السوق، ربما بما يشبه ما حدث في بريطانيا عقب الموازنة الكارثية لحكومة ليز تراس قبل عامين، كما أشار الكاتب الاقتصادي جديون راكمان في مقالة بصحيفة "فايننشال تايمز"، مشيراً خصوصاً إلى ارتفاع الأخطار على سندات الدين الفرنسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان كبير الاقتصاديين لأوروبا في "كابيتال إيكونوميكس" أندرو كنينغهام رسم سيناريوهات لما يمكن أن يحدث في فرنسا، بحسب ما نقلت شبكة "سي أن بي سي" الأميركية، ومن بين تلك السناريوهات "في أسوأ الحالات أن تشهد أزمة مالية وأزمة سندات شاملة". وحول رد الفعل الأوروبي، أضاف كنينغهام أن "البنك المركزي الأوروبي سيكون متردداً في التقدم لإنقاذ فرنسا ما لم تضع أي حكومة مستقبلية خطة واضحة وعملية لخفض عجز الموازنة. لكن إذا تطورت أزمة سندات الدين وأصبحت كارثية، فقد يضطر البنك إلى التدخل كما فعل بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) بعد كارثة الموازنة التكميلية (لحكومة ليز تراس عام 2022)".
الأزمة مستمرة
وبغض النظر عن نتيجة الاضطراب السياسي الحالي في الطريق إلى تشكيل حكومة فرنسية جديدة، فإن الأزمة مستمرة، خصوصاً بالنسبة إلى الأسواق والمستثمرين الأجانب في الدين الفرنسي، علاوة على أن قلق المفوضية الأوروبية في بروكسل ينذر باحتمال مواجهة بينها وباريس من ناحية، وحتى احتمال مواجهة بين فرنسا وألمانيا، أكبر اقتصاد في منطقة اليورو من ناحية أخرى.
وكتب مدير مركز "يورو إنتليجنس" ولفغانغ منشو مقالة في "ذا نيو ستاتسمان" يحذر فيها من كارثة متوقعة نتيجة الاضطراب السياسي في بريطانيا، مشيراً إلى أن "السيناريو الذي يقلقني بشدة هو حدوث أزمة دين سيادي ما بين الآن وعام 2027، ستكون أزمة هائلة لكل منطقة اليورو لأن فرنسا تصنف على أنها أكبر من أن تفشل وأيضاً أكبر من أن يجري إنقاذها".
ويتوقع أن ما سيحافظ على تحالف الأحزاب المتناقضة في السلطة ليس خطة عمل مشتركة أكثر مما هو الإنفاق الممول بزيادة الدين، ويلفت إلى أن الخوف في البداية كان من أن صعود حكومة يمينية يمكن أن يسبب أزمة مالية، إلا أن التجارب التاريخية تقول العكس، فغالباً ما يصعد اليمين السياسي نتيجة الأزمات المالية ولا يكون سببها، مذكراً بما حدث لأوروبا في الثلاثينيات من القرن الماضي ولأميركا اللاتينية في السبعينيات وما حدث أخيراً أيضاً".
والمشكلة تكمن في أن أحزاب اليسار التي تقدمت في نتائج الانتخابات ليست متجانسة، في الأقل بالنسبة إلى مواقفها من السياسة المالية والاقتصادية، بالتالي فإن أي حكومة ائتلافية من أحزاب اليسار أو حتى بتحالف اليسار والوسط ستنطوي على تناقضات واضحة، فضلاً عن أن اليمين المتطرف يظل يمثل معارضة قوية بعدد نوابه في البرلمان الفرنسي، مما يجعل تمرير أي إجراءات أو قوانين للإصلاح المالي صعبة على أي حكومة.