يصعب على السودانيين في عيدهم الرابع على التوالي خلال الحرب التي تدور في بلادهم بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023 أن يعيشوا الفرحة والطقوس الفريدة، وبدلاً من تبادل التهاني ما زالت البلاد تتلقى أنباء ارتفاع أعداد القتلى والجرحى جراء المواجهات الدامية بين الطرفين المتحاربين، بلا نهاية وشيكة في الأفق.
حل عيد الأضحى في وقت يشهد السودان أزمات عدة بسبب تداعيات الصراع المسلح، تجلت في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وانخفاض العملة الوطنية، مما جعل المواطنين يعيشون ظروفاً غير مسبوقة في قسوتها، ما بين الجوع والنزوح والتشرد، وكذلك تفاقم الأوضاع الإنسانية والمعيشية نتيجة توقف الأعمال اليومية، فضلاً عن أزمة الرواتب، مما ترك كثيرين منهم غير قادرين على توفير حاجاتهم اليومية من الغذاء، فكيف بالنسبة إلى شراء خراف الأضاحي؟
صلاة العيد
وفي ظل تصاعد هجمات الطائرات المسيّرة على بعض المدن الآمنة التي لم تطاولها الحرب، اقتصرت صلاة العيد في ولايات عدة على المساجد بدلاً من ميادين قريبة من المنازل خشية التعرض لهجوم، وفي ولاية الخرطوم حرص السكان على أداء الصلاة في المساجد بعد قرار السلطات بإلغائها في ساحات شهيرة مثل ميادين المولد بسبب الوضع الأمني في مناطق الاشتباكات.
وارتدى الرجال السودانيون أثواباً بيضاء ووضع بعضهم العمامة على رؤوسهم، وخلال صلاة العيد امتزجت الدعوات والأمنيات بإنهاء الحرب وحلول السلام في ربوع البلاد، وركز أئمة المساجد خلال خطبهم على الدعوة إلى وقف الصراع المسلح ونبذ العنف.
وعند عودة المصلين بصحبة أطفالهم قاموا بمعايدة الجيران والأقارب، وبعدها انصرف الجميع إلى ذبح الأضاحي خصوصاً المقتدرين اقتصادياً، إذ تجهز النساء وجبة تجتمع خلالها العائلات مع بعضها ويدعون إليها عابري السبيل، كما يوزّع جزء من لحوم الأضاحي على الفقراء والمساكين.
أوضاع صعبة
جلال عبدالقادر، أحد الموجودين بمدينة بحري في الخرطوم، قال إن "الحرب غيبت قسرياً عادات أصيلة، وسادت أجواء من الحزن لم تسمح لكثير من السكان بالاستمتاع بالطقوس التي تمارس عادة في الأعياد، لا سيما التجمع في منزل كبير العائلة، وزيارة بيوت الجيران والأسر لتقديم واجب التهاني، والحفاظ على ما اعتادوا عليه من مراسم موروثة منذ القدم".
وأضاف أن "عدداً كبيراً من المواطنين عزفوا عن شراء الأضحية هذا العام نظراً إلى الظروف الاقتصادية الصعبة وتوقف الأعمال ونفاد المدخرات المالية، في وقت امتلأت الميادين والساحات العامة في العاصمة الخرطوم بالأضاحي بحثاً عن المشترين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح أن "غالبية الأسر لم تتمكن هذا العيد من شراء ملابس جديدة للأطفال، على رغم أنها بالنسبة إليهم تساوي كل فرحة وبهجة المناسبة السعيدة، كما أن الصغار لم يجدوا فرصة سانحة لممارسة الألعاب المتنوعة داخل الساحات والميادين بسبب أخطار التنقل والوضع الأمني المضطرب".
وتابع أنه "مع دخول الحرب عامها الثاني، لا يزال الموظفون في القطاعين العام والخاص يعانون الأمرّين نتيجة توقف صرف المرتبات، إذ باتت مئات الأسر التي تعتمد كلياً في تدبير سبل عيشها على الرواتب الشهرية مواجهة ومثقلة بالديون، ولم يعُد بإمكانها توفير وتلبية حاجاتها الضرورية من الغذاء والعلاج".
لمة العائلة
تقول فاطمة الفاتح، وهي ربة منزل تقيم في أم درمان، إنها "حرصت على شراء كسوة العيد الجديدة لأطفالها، وتخلى الكبار عن الثياب من أجل سعادة الصغار، فضلاً عن شراء خروف الأضحية وتناول وجبة الفطور التي تتكون من الشية والكمونية والسلطات".
وأضافت أن "لمة العائلة افتقدت في أرياف الأقاليم لأن الأعياد لها طعم خاص خارج العاصمة لوجود بيئة صحية آمنة على صعيد الهواء النقي والأطعمة الطازجة وتعزيز العلاقات، علاوة على الاستفادة من مزايا الريف، خصوصاً الطبيعة الخلابة وسهولة الاندماج في المجتمع".
وتتابع الفاتح أن "الظروف القاسية التي يمر بها السودانيون داخل البلاد وخارجها بسبب تداعيات الصراع المسلح معلومة، لكننا حرصنا على الاحتفال وممارسة طقوس العيد الفريدة والعادات المميزة لندخل البهجة والفرحة إلى نفوس الأهل والأطفال كي ينسوا المآسي والأزمات ولو موقتاً".
عيد الولايات
بعيداً من العاصمة الخرطوم وفي ولايات السودان المختلفة عمت الشوارع أجواء الفرح وانصرف الجميع إلى ذبح الأضاحي واجتمعت العائلات وتم توزيع جزء من لحم الأضاحي على الفقراء.
وتناول كثير من سكان الأقاليم مشروباً شعبياً يعرف باسم "الشربوت"، ويرجع تاريخه إلى مئات السنين، ويعود أصله لشمال البلاد، ثم انتشر إلى بقية مناطق السودان ليصبح من المشروبات المفضلة، وهو عبارة عن منقوع التمر وتضاف إليه التوابل ويتم إعداده قبل أيام عدة من العيد، ويساعد في الهضم بحسب ما هو معتقد.
واعتبر الأديب محمد عثمان الحلاج الذي يقيم في مدينة الأبيض غرب الخرطوم أن "عيد الأضحى في الولايات يختلف كلياً عن العاصمة، بخاصة تلك التي لا تشهد نزاعاً مسلحاً، إذ يتجلى البعد الحقيقي لترف التواصل الاجتماعي وحميمية اللقاء في العيد الكبير كما يحلو لمعظم السودانيين تسميته، فيبدأ الناس يومهم بصلاة العيد في الساحات التي يتدافع إليها كل أفراد الأسرة مصطحبين التكبير والتهليل كموجه ديني".
معاناة النازحين
لا يبدو النازحون السودانيون في معسكرات الإيواء منشغلين كثيراً بالعيد وتفاصيله، بل بأوضاع البلاد وكيفية توقف القتال الدائر حالياً، إذ فقد الفارون من ويلات الحرب الشعور بطعم العيد بعدما غادروا منازلهم مجبرين.
يتحسر محمود المكي، أحد الموجودين في معسكر الفاروق بمدينة كوستي جنوب الخرطوم، على ما آلت إليه أوضاعهم منذ أكثر من عام، قائلاً "لا ملامح فرحة هنا في المعسكرات، وليس بين النازحين من لديه رغبة في الاحتفال بالعيد، واعتبره كثر يوماً كبقية الأيام".
وأضاف أنه "من المحزن أن ترى أطفالك وعائلتك أمام عينيك ولا تستطيع تلبية حاجاتهم من ملابس أو طعام، وهذا الإحساس بالعجز ضيق علينا حياتنا وفقدنا الأمل في العودة لمنازلنا من جديد".
وأشار المكي إلى أن "الجوع دهم معظم المقيمين في معسكرات الإيواء، وباتت الغالبية بالكاد تحصل على وجبة واحدة في اليوم بعد نفاد المدخرات المالية، فضلاً عن تعرض الأطفال للإصابة بأمراض سوء التغذية".
غربة وشتات
استقبل آلاف السودانيين عيد الأضحى في دول الجوار الأفريقي، خصوصاً مصر وأوغندا وكذلك إثيوبيا وكينيا، بعدما غادروا بلادهم بحثاً عن الأمان بفرحة طعمها الحزن، مع تمنياتهم بانتهاء هذه الحرب والعودة قريباً لبلادهم وديارهم.
يقول هيثم الريح الذي استقر مع أسرته في إثيوبيا، إن "الصراع المسلح أجبر آلاف المواطنين على النزوح وحرمهم من قضاء الأعياد في السودان ووسط الأهل والأصدقاء لأكثر من عام مرت خلاله أربعة أعياد، مما عزز من قناعة كثير منهم أن الحرب سيطول أمدها ولن تنتهي في القريب العاجل".
ولفت إلى أنه "لم يتوقع أن يأتي يوم ويقضي العيد خارج البلاد بعيداً من منزله في الخرطوم، حيث التقاليد والطقوس مميزة مقارنة بالمجتمعات في دول الجوار".
وناشد الريح الأطراف المتحاربة بضرورة "الوقف الفوري للقتال عبر الجلوس إلى طاولة التفاوض لإنهاء معاناة الملايين الذين تفرقت بهم السبل بين نازحين ولاجئين داخل السودان وخارجه".