ملخص
على رغم تزايد الإدانات التي تحولت لاتهامات تبعتها إجراءات قانونية دولية في حق إسرائيل وقادتها، فإن استمرار الحرب دفع المتابعين للتساؤل عن أية صدقية يمتلكها نظام دولي لا يملك أدوات فرض قراراته
لم يكد الحبر الذي كتب به قرار محكمة العدل الدولية لوقف العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح يجف، حتى كانت قذائف الجيش الإسرائيلي تحرق خيام النازحين وتقتل العشرات في أحد مخيمات النازحين بالمدينة الواقعة أقصى جنوب قطاع غزة، في ما بدا أنه دليل جديد على تحدي إسرائيل النظام الدولي بمؤسساته المختلفة.
وعلى رغم تزايد الإدانات التي تحولت لاتهامات تبعتها إجراءات قانونية دولية في حق إسرائيل وقادتها، فإن استمرار الحرب دفع المتابعين للتساؤل عن أية صدقية يمتلكها نظام دولي لا يملك أدوات فرض قراراته، فطلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت يتوقف تنفيذه على مدى استعداد الدول لتنفيذ مذكرة الاعتقال، في وقت يحتاج تنفيذ قرار من محكمة العدل الدولية إلى تدخل مجلس الأمن الذي شهدت أروقته استخدام الولايات المتحدة حق النقض "الفيتو" ثلاث مرات منذ اندلاع حرب غزة لحماية إسرائيل من أية قرارات تدعو لوقف فوري للحرب.
قرار محكمة العدل الدولية الذي صدر الجمعة الماضي تلبية لطلب من جنوب أفريقيا، أمر إسرائيل بوقف هجومها على مدينة رفح جنوب قطاع غزة، إضافة للعمل على فتح معبر رفح واتخاذ التدابير اللازمة لضمان وصول المحققين من دون عوائق إلى القطاع.
اختبار
وعدم اكتراث إسرائيل بقرار المحكمة الذي أثبتته هجماتها على النازحين المدنيين ليل الأحد، سبقته تصريحات من مسؤولي تل أبيب تؤكد عدم الاعتداد بقرار أكبر كيان قانوني في إطار الأمم المتحدة، واعتبر مكتب نتنياهو الاتهامات الموجهة لإسرائيل في محكمة العدل الدولية "كاذبة ومشينة"، في وقت رأى الوزير في حكومة الحرب بيني غانتس أن جيش بلاده يعمل وفق القانون الدولي مع ضمان أقصى قدر ممكن من الحماية للسكان المدنيين "ليس بسبب محكمة العدل الدولية، ولكن بسبب هويتنا والقيم التي ندافع عنها".
قرار محكمة العدل الدولية اعتبر اختباراً لمدى احترام الدول والمؤسسات القانون والنظام الدوليين، وقال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إن الاتحاد سيتعين عليه الاختيار بين دعم احترام المؤسسات الدولية المعنية بسيادة القانون ودعم إسرائيل، كما أكد وزير الخارجية النرويجي إسبن بارت إيدي أن احترام المحكمة ووظائفها "أمر ضروري لتعزيز القانون الدولي والنظام القانوني الدولي"، كذلك قالت وزارة الخارجية التركية إنه "لا توجد دولة في العالم فوق القانون"، داعية مجلس الأمن إلى القيام بدوره.
وعلى رغم الصفة الإلزامية لقرارات محكمة العدل الدولية لكل الدول الأطراف في الأمم المتحدة وكونها نهائية لا يجوز الطعن فيها، فإن منح القانون الدولي مجلس الأمن سلطة معاقبة الدول التي لا تلتزم بقرارات المحكمة يجعل إسرائيل في مأمن نسبياً عن أية عقوبات من المجلس، في ظل وجود الولايات المتحدة الحليفة الرئيسة لإسرائيل، والتي استخدمت حق الفيتو أربع مرات لمصلحة تل أبيب منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ثلاث منها لوقف قرارات تدعو لوقف الحرب، وواحدة لمنع منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.
استهتار بالقانون
مخالفة إسرائيل لقرارات المحكمة بعد نحو 48 ساعة من إصدارها وصفه المتخصص في مجال القانون الدولي العام محمد محمود مهران بأنه يمثل استهتاراً خطراً بالقانون الدولي الإنساني، ويقوض الثقة بالمؤسسات الأممية المنوط بها حفظ السلم والأمن وحماية حقوق الإنسان.
وأوضح عضو الجمعيتين الأميركية والأوروبية للقانون الدولي "أن قيام إسرائيل بارتكاب مذبحة رفح في حق المدنيين العزل بعد أيام قليلة من صدور حكم تاريخي من محكمة العدل الدولية يلزمها بوقف أعمال العنف والعدوان في غزة، يعد تحدياً سافراً لسلطة أعلى هيئة قضائية دولية، وازدراء صارخاً لمبادئ العدالة الدولية وقواعد القانون الدولي الإنساني، وقال مهران إن عدم امتثال إسرائيل لقرار المحكمة، واستمرارها في ارتكاب فظائع بشعة ضد المدنيين الفلسطينيين، بما في ذلك قصف مراكز إيواء النازحين والمستشفيات، من شأنه التقليل من هيبة محكمة العدل الدولية كأعلى سلطة قضائية في العالم، وتقويض صدقيتها في إنفاذ العدالة وحماية حقوق الضحايا.
ازدواجية المعايير
وحول موقف مجلس الأمن من عدم تنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية، الذراع القانونية للأمم المتحدة، أكد مهران أن تقاعس المجلس عن اتخاذ إجراءات حازمة وعقابية لإجبار إسرائيل على الانصياع للقانون الدولي وتنفيذ أحكام محكمة العدل، يمثل ضربة قاصمة لدور المجلس في حفظ الأمن والسلم الدوليين كما ينص ميثاق الأمم المتحدة، كما أن صمت الأجهزة الدولية الرئيسة المطبق حيال تمادي إسرائيل في جرائمها اليومية ضد الفلسطينيين، وعدم محاسبتها وفرض عقوبات عليها جراء انتهاكاتها الخطرة والمتكررة للقانون الدولي الإنساني، يقوض ثقة دول العالم في المنظومة الأممية، ويجعلها عرضة للانتقاد والاتهام بعدم الحياد والكيل بمكيالين والازدواجية في المعايير.
وتعد محكمة العدل الدولية الجهاز القضائي الرئيس للأمم المتحدة، وتختص طبقاً لأحكام القانون الدولي بالفصل في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول، وتقديم آراء استشارية في شأن المسائل القانونية التي قد تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.
وشدد مهران على أن المجتمع الدولي وعلى رأسه الأمم المتحدة، ملزم اليوم بالعمل السريع والجاد لاستعادة الثقة بمنظوماته وأدواته القضائية والسياسية، من خلال التصدي الحازم للانتهاكات الإسرائيلية، وفرض تدابير عقابية بموجب ميثاق الأمم المتحدة والفصل السابع لوقف العدوان وحماية المدنيين، وإحالة الجرائم للمحاكم الدولية حتى لا يفلت مجرمو الحرب الإسرائيليون من العقاب، وكي يستعاد الثقة في النظام الدولي.
ورأى المتخصص في مجال القانون الدولي أن ما يزيد من تآكل صدقية النظام الدولي، هو موقف بعض الدول الكبرى المنحازة لإسرائيل مثل الولايات المتحدة، التي تستخدم "الفيتو" بصورة ممنهجة لإجهاض أية محاولة لإصدار قرارات تدين الاحتلال الإسرائيلي أو تفرض عليه عقوبات، بل وتدرس فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية جراء محاولتها محاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين، على رغم تأثر المحكمة بسبب التهديدات ومحاولة تسييس قرارتها.
الصدقية "على المحك"
ولم تسلم المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها كريم خان من التهديدات بـ"العقاب" في حال دان إسرائيل، بحسب ما صرح به عديد من أعضاء الكونغرس الأميركي، ونددت دول غربية بما سمته مساواة بين حركة "حماس" وإسرائيل، بعد طلب خان إصدار مذكرات اعتقال في حق ثلاثة من قيادات الحركة إلى جانب رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيليين.
من جانبه، حذر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الأفراد الذين يهددون بالانتقام من المحكمة وموظفيها، مؤكداً أن ذلك يمكن أن يشكل "هجوماً على العدالة"، وأشار إلى أن استقلال وحياد المحكمة يتم تقويضه بالتهديدات باتخاذ إجراءات انتقامية في حال اتخاذ قرارات في التحقيقات التي تجريها، داعياً إلى وضع حد فوري لـ"محاولات العرقلة أو التخويف أو التأثير بصورة غير مبررة على مسؤوليها".
كذلك، رأى المتخصص في مجال العلوم السياسية في "جامعة القاهرة" إكرام بدر الدين أن صدقية النظام الدولي "على المحك" معللاً بأن "الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية قراراتها ومناقشاتها من دون تأثير حقيقي على الممارسات الإسرائيلية الغاشمة في حق الفلسطينيين، بل زادت من العنف والاعتداءات والمجازر"، وقال بدر الدين إن إسرائيل تجد من يدعمها في مجلس الأمن بالقرارات المناصرة لسياساتها في مواجهة "حماس" وتدمير غزة بالكامل، مشيراً إلى أن الدول الأوروبية والولايات المتحدة تدعم إسرائيل بالسلاح والذخيرة والأموال، "بالتالي ستستمر في عدوانها"، مؤكداً أن ذلك يعرض صدقية النظام الدولي للانهيار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التغيير صعب
ووصف النظام الدولي حالياً بأنه أشبه بحالة الضعف التي مرت بها عصبة الأمم في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية وعجزها عن إنهاء النزاعات الدولية، مؤكداً أن مجلس الأمن والأمم المتحدة يكرران الأمر نفسه الآن وغير قادرين عن إيقاف إسرائيل عن الحرب.
ولفت المتخصص في مجال العلوم السياسية إلى التساؤلات المثارة في شأن مستقبل النظام الدولي في ظل ازدواجية المعايير التي يمارسها مجلس الأمن مع إسرائيل، إذ يناشد إيقاف أي حرب ومع ذلك لا تستجيب إسرائيل ولا يؤخذ أي إجراء في شأنها، وقال إن الأمم المتحدة ومجلس الأمن هدف تأسيسهما كان فض المنازعات بالطرق السلمية، وعلى رغم ذلك هما عاجزان عن إنهاء حرب غزة على رغم مناشدات الموظفين الدوليين في "الأونروا" لهما لكن من دون طائل، مما يعني أن دورهما ينهار مع الوقت.
وأوضح بدر الدين أن هاتين المحكمتين ليس من اختصاصهما إيقاف الحرب أو التدخل والتنفيذ، بينما ذلك شأن مجلس الأمن، وفي كل مرة حق "الفيتو" لأي دولة من الدول الخمس الكبرى يوقف أي قرار لمصلحة إيقاف الحرب في غزة، ومن هنا تتصاعد الأزمة ويظل النظام الدولي من دون تأثير حقيقي لأن إسرائيل تجد من يدعمها من الدول التي لها حق النقض، والصوت الواحد يوقف قراراً حتى لو اتفق الأعضاء بالكامل، مؤكداً أنه من الصعب للغاية تغيير النظام الدولي في الأمم المتحدة لأن ذلك يتطلب موافقة الدول الخمس الكبرى.
تداعيات سياسية
في المقابل، رأى مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق السفير عمرو رمضان أن صدقية النظام الدولي لم تتأثر بعضو "مارق" كإسرائيل، حتى وإن لم تحترم وتنفذ القرارات الصادرة عن المنظمات الدولية ذات الصلة كمجلس الأمن ومحكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية، وقال إن صدقية النظام الدولي مستمدة من القرارات التي تتخذ ضد إسرائيل، مشيراً إلى أن مجلس الأمن ضيق الخناق على تل أبيب حتى ولو لم يمنع إجرامها. أما عن تطبيق القرارات بالقوة، فأشار إلى أن مجلس الأمن يمكنه استخدام القوة لتنفيذ قراراته تحت بند الفصل السابع من الميثاق الأممي، لكن رمضان استبعد لجوء مجلس الأمن لضرب إسرائيل لأنه "غير واقعي" فهي دولة نووية، فضلاً عن الدعم الأميركي والأوروبي الكامل لها. ولفت إلى أن هناك تداعيات سياسية لتجاهل إسرائيل القرارات الدولية أبرزها تراجع الغرب عن "الدعم اللامحدود"، وكذلك تعليق واشنطن شحنات أسلحة إلى تل أبيب، مؤكداً أن ذلك التغير وإن كان تدريجاً لا يمكن التقليل من آثاره.
واستخدم الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة سابقاً لتنفيذ قرارات بحق بعض الدول، إذ أرسلت قوة شرطية متعددة الجنسيات لاستعادة النظام في هايتي في أكتوبر 2023، كما جرى إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان التي قامت بالتحقيق في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وفي عام 2006، منعت إيران من توريد الأسلحة إلى دول أخرى بموجب الفصل السابع، مما أدى إلى فرض عقوبات صارمة عليها.