ملخص
يمثل نص "الحضيض" للكاتب الروسي مكسيم غوركي، تحديا أمام أي مخرج يسعى إلى تقديمه، فمنذ أن قدمه، لأول مرة، المخرج الروسي الرائد ستانسلافسكي عام 1902 والمخرجون حول العالم لا يكفون عن تقديمه. من هنا يطرح السؤال: ما الجديد الذي يمكن تقديمه مع نص تكاد تكون تفاصيله كافة محفوظة في ذاكرة كل المهتمين بالمسرح؟
تحظى مدينة الإسكندرية بمكانة لافتة ومؤثرة في المسرح المصري، إذ تعد واحدة من أكثر المدن المصرية إنتاجاً للمسرح، وجذباً لجمهوره، وانفتاحاً على تجاربه حول العالم. هذا الأمر ليس غريباً على الإسكندرية مدينة سيد درويش، وقسطنطين كفافيس، والتشكيليين محمود سعيد، والأخوين سيف وأدهم وانلي، والروائيين إدوار الخراط وإبراهيم عبدالمجيد ومحمد جبريل، وسواهم من الفنانين والشعراء والكتاب. وربما من تابع المسلسلات التلفزيونية التي تم عرضها في رمضان الماضي، سيلاحظ وجود عشرات الممثلين، الذين قدموا أدواراً لافتة، ينتمون في الأصل إلى الإسكندرية ومسرحها، الذي كان بداية انطلاقهم وصقل تجاربهم.
في تجربته الجديدة مع فرقة مسرح قصر ثقافة الأنفوشي (هيئة قصور الثقافة - وزارة الثقافة) واصل المخرج والسينوغراف إبراهيم الفرن، سعيه الحثيث والهادئ، لإثبات قدراته كمسرحي بدأ مصمماً للإضاءة، ثم جمع بين تصميم الإضاءة والديكور، وبعدها أخرج عروضاً صغيرة لنوادي المسرح من دون إنتاج، قبل أن ينطلق، بعد ذلك، في تقديم عروض كبيرة، سواء من جهة كلف إنتاجها، أو من جهة استعانته بممثلين وفنيين أصحاب خبرة، أو من جهة الاستقبال الطيب لها، من قبل الجمهور والنقاد. هي رحلة طويلة أمضاها هذا المسرحي الطموح، متسلحاً بالإرادة والرغبة في العثور على موطئ قدم في هذا العالم الساحر، عالم المسرح، وضح أثرها في عرضه الجديد.
ضرورة النص
اختار الفرن نص" الحضيض" للكاتب الروسي مكسيم غوركي (1868-1936) ذلك النص الذي يمثل تحدياً هو الآخر لأي مخرج يعمل عليه، إذ منذ أن قدمه المخرج الروسي الرائد قسطنطين ستانسلافسكي (1863-1938)، للمرة الأولى عام 1902 على مسرح الفن في العاصمة موسكو، ولا يكف المخرجون، حول العالم، عن تقديمه، كل بلغته، ليكون السؤال: ما حاجتنا إلى مثل هذا النص الآن، وما الجديد الذي يمكن لمخرجه إضافته إلى ما سبقه من تجارب؟
المؤكد أن الظرف الاقتصادي الصعب، الذي تعيشه مصر، والتفاوت المرعب بين الطبقات، بل وسحق الطبقة الوسطى تماماً، بصورة ممنهجة ومنظمة، يستدعي تقديم مثل هذا النص الواقعي، الذي يلامس هموم وظروف أبناء هذه الطبقة، بخاصة أنهم يشكلون غالبية جمهور المسرح. من هنا فإن" الحضيض" هذا وقت تأمله، والتحديق فيه بعمق، ووقت مشاهدة أنفسنا فوق خشبة المسرح، حتى لو كان، كما جاء في نص العرض، يغلق أمامنا أبواب الأمل إلا من كوة صغيرة، لعل وعسى.
إن ما يتفشى في نص العرض من بؤس ومرض وجهل وتخلف وبطالة وانعدام ضمير وفساد أخلاقي، هو نفسه ما يتفشى خارجه ويلمسه المشاهد بنفسه، ويعيشه بتفاصيله كاملة.
على أن ذلك كله لم يكن ليؤثر في مشاهدي العرض لو جاء وفق صيغ تقريرية، أقرب إلى المنشور السياسي الزاعق، منها إلى الرؤية الفنية التي تتوسل بالجمالي لتكون أكثر وخزاً وتأثيراً، ولا تتخلى، في الوقت نفسه، عن فكرة الإمتاع والتسلية، وهو ما حدث في العرض، أجواء باردة وشديدة القسوة والقبح، لكنها، عبر الفني، تمتع بقدر ما تؤلم، تضحك بقدر ما تبكي، مصورة مصير الإنسان التعس، وسط عالم لا يحفل به، ولا يشعر بوجوده في الأساس.
حضور الصورة
ولأن المخرج هنا هو "ابن الصورة" لو صح التعبير، فقد اهتم بالصورة، في إشراقها وتأثيرها. كيف يصيغ ذلك القبح والتردي بصورة واقعية، فيه من الجمال ما يمتع العين ويؤثر في النفس، ويحل بديلاً، في كثير من الأحيان، عن الكلمة، أو يعينها لتصبح أكثر عمقاً، وأعلى صوتاً، من دون صراخ أو تشنج.
هي لغة الخشبة التي يعي المخرج مفرداتها وكيفية صياغتها، بدءاً من الديكور (الديكور والملابس من تصميم المخرج) الذي جاء واقعياً متقشفاً، وقادراً على تصوير حالة البؤس التي تعيش فيها مجموعة من العاطلين والمرضى واللصوص وغيرهم. حجرة واحدة متسعة تتناثر محتوياتها هنا وهناك، في فوضى منظمة، وهناك مستوى مرتفع يمثل الدرج الذي يتم من خلاله الهبوط إليها، وكأننا أمام حجرة تحت مستوى الأرض، بكل ما فيها من برودة وبؤس تجعلها أقرب إلى القبر، أو القبو، منها إلى الحجرة العادية التي تلتزم الشرط الإنساني، حتى ولو في حدوده الدنيا.
وعلى رغم كل هذا البؤس اختار المخرج ألواناً مريحة للعين، ولافتة للنظر، وحرص مصمما الإضاءة (أحمد طارق وجاسر الفرن) على إغناء العرض بالحضور الفاعل للضوء ودرجاته وألوانه وبؤره، ومصادر إسقاطه، لتكون الإضاءة واحدة من أهم عناصر جذب المشاهد والتأثير فيه.
بائع الوهم
نحن أمام مجموعة من البائسين، الذين تمضي حياتهم كيف ما أتفق، لا أمل يلوح في الأفق، حتى يأتي إليهم وافد جديد هو لوقا. إن لوقا (أحمد جابر) هذا المهرج السابق، كان بمثابة صوت الضمير الأخلاقي، الذي يحاول إنقاذ هذه المجموعة من بؤسها، حتى ولو من طريق الكذب وبيع الوهم لهم. استخدم المخرج الفيديو مابينغ (تصميم حسن جمال) في تصويره ذلك المستشفى، الذي ينصح لوقا أحد المدمنين من سكان الغرفة بالذهاب إليه وتلقي العلاج، كما استخدمه في مشاهد أخرى لتصوير تلك المدن التي يخبرهم عنها، ويدعوهم إلى المغادرة إليها، وكأنها الجنة الأرضية التي تنتظرهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا كان أحمد جابر لعب هذا الدور الجاد، البعيد من طبيعته كممثل كوميدي، باحترافية ووعي وذكاء، وكان رمانة ميزان العرض، تنطلق الأحداث من عنده وتعود إليه، فإن ثمة ممثلين آخرين، اختارهم المخرج بعناية، لعبوا أدوارهم بفهم جيد لطبيعة الشخصيات، وأداء على قدر عال من الانضباط، منهم: مشيئة رياض (فاسليسا) وأحمد عامر (ببنوف) وأحمد عماد (ببل) وياسمين قابيل (ناتاشا) ومحمد فريد (كستيليوف) وياسر مجاهد (البارون) ومينا أسامة (الممثل) وإبراهيم جوصم (الطفل أندريا) ومريم زهران (الطفلة أولجا) ومنى المحمدي (المريضة أنا) وعبدالرحمن جريو (الحداد).
استعان المخرج بفتاة (هدير طارق) تحمل غيتاراً وتدخل من وسط الجمهور وتستقر في أقصى يمين مقدم المسرح، قدمت بعض الأغاني من أشعارها وعزفها، لكنها كانت منفصلة تماماً عن الأحداث وغير مشاركة فيها، أو مشتبكة معها. ويبقى السؤال: من تكون الفتاة، وما دورها في العرض، وماذا لو تم الاستغناء عنها؟ ربما كان من الأفضل استغلال موهبتها بطريقة تؤثر في الأحداث، وتجعل وجودها مبرراً وليس مجانياً.
في العرض بعض الاستعراضات (تصميم محمد صلاح) تم توظيفها بصورة جيدة عبر موسيقى (إعداد محمد إبراهيم) تماست مع طبيعة العرض، ومنحته قدراً من الحيوية والبهجة، خفف كثيراً من الأجواء الكئيبة التي دارت فيها الأحداث.
" الحضيض" في صيغته السكندرية يشير إلى أن هناك، دائماً وأبداً، طاقة كامنة في النص، يمكن لمن يتأمله جيداً، ويتمهل في معالجته، أن يقبض عليها ويعيد تفجيرها.