Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مزحة تشيخوف تتحول مسرحية سورية بعنوان "الرّهان"

المخرج زهير بقاعي قلب المراة في النص الروسي رجلاً في صيغة درامية محلية

من مسرحية "الرهان" المقتبسة عن نص للروسي تشيخوف (خددمة الفرقة)

ملخص

إقتبس المخرج السوري زهير بقاعي نص الكاتب الروسي الشهير "الدب" وعربه صيغة وإخراجاً، ليلائم الواقع السوري وما يعاني أهله من آثار الحرب. لكن الرجل تحول امرأة  في مسرحية "الرهان" السورية والمرأة رجلاً، لكنّ الإنتقام في العرض السوري انتقل كما في النص الروسي، إلى قصة حب.

لا يكاد يخلو موسم من مواسم المسرح السوري من استعارة نص "الدُّب" لأنطون تشيخوف (1860-1904)، فمنذ أن حققه الكاتب الروسي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ونقله إلى العربية المصري أبو بكر يوسف عام 1983، تعددت الصيغ التي حققها مخرجون سوريون وعرب لما كان اعتبره تشيخوف نفسه "مزحة من فصل واحد". حتى إنه لم يوقعه باسمه إلا بعد نجاحه كعرض على مسارح روسيا. اليوم يعود الفنان زهير بقاعي إلى إنجاز صيغته من هذه "المزحة" بعنوان "الرّهان"، ولكن بإعداد قام المخرج السوري بتحقيقه بنفسه لفرقة "المسرح القومي في دمشق"، مستفيداً من خبرته الطويلة في مجال العمل على الخشبة.

تدور أحداث المسرحية الأصلية كما بات معروفاً حول أرملة شابة تدعى بوبوفا تقرر اعتزال الناس بعد موت زوجها. وبينما تعيش أسابيع حدادها مناجيةً صورته المعلّقة على جدران الصالة، يقتحم رجل يدعى سميرنوف عزلتها، مدّعياً أن له ديّناً بذمة زوجها المتوفى. وعندما تخبره الأرملة الشابة بأنها سوف تعطيه الديّن بعد غدٍ عندما يحضر وكيلها المالي، يرفض الرجل الجلف مغادرة بيتها قبل أن يسترد حقه، فتتطور الأمور وتتصاعد بينهما، وصولاً إلى المبارزة بالمسدسات كما جرت العادة في مجتمع ملاّكي الأراضي في روسيا القيصرية، لكن الأرملة الشابة لا تتقن استخدام السلاح، فيقوم سميرنوف بتدريبها عليه في مفارقة كوميدية. وبينما هما يهمان ببدء المبارزة يضم الرجل المرأة إلى صدره بقوة، ويغيبان في عناق حار.

هكذا يتغلب الحب على الأحزان، فرغم مكابرة بوبوفا لوقوعها في غرام سميرنوف، إلا أنها تذعن أخيراً لمشاعرها، وتطوي صفحة الماضي. الحكاية ذاتها ساقها مخرج عرض "الرّهان" ولكن بقلب الأدوار، فبدلاً من بوبوفا الأرملة سوف نتعرف إلى عطا الله (زهير بقاعي) الأرمل الخمسيني الذي يقضي حزنه على زوجته الشابة، وما هي سوى لحظات حتى تدخل السكرتيرة ساندي (يارا مريم)، وهي هنا بديل عن شخصية العجوز لوقا في النص الأصلي.

ترجو الموظفة الشابة مديرها أن يخرج من حزنه، وأن يستجيب لطلبات موظفيه بدفع رواتبهم المتأخرة، وإلا فسوف تلقى شركاته مصير الانهيار المالي بعد تقديم استقالات عديدة من موظفيه. وهنا يرن جرس البيت، ونعرف من السكرتيرة الشابة أن فتاة تدعى هدباء (نجاة محمد) تنتظر في الباب وتصر على مقابلة عطا الله. لكن الرجل الأرمل يصر على وحدته واجترار أحزانه بعيداً عن ضجيج المراجعين وجلبتهم، وأنه لن يسمح لأحد باقتحام عزلته وقطع مناجاته لصور زوجته الراحلة على صفحتها الشخصية في الفيسبوك.

وبين صد ورد تقتحم هدباء شقة الرجل الحزين، وتخبره أنها أتت لاسترداد مبلغ بقيمة خمسين ألف ليرة كانت قد أعطته لزوجته المتوفاة. وعندها يتهمها عطا الله بأنها من أولئك النصابات اللاتي يدرن عمليات احتيال رخيصة ضد رجال أعمال وتجار، تشهر هدباء سنداً مالياً بقيمة الديّن كدليل على صدقها. وهنا يذعن عطا الله لها، لكنه يخبرها أن تحضر بعد يومين لاستلام النقود ريثما يحضر مديره المالي. ترفض الفتاة المغادرة قبل أخذ حقها، وتخبره أنها مضطرة للمال كي تدفع أجرة بيتها الذي تقيم فيه هي وأمها المريضة وأخوها الصغير، وإلا سوف يكون الشارع بانتظارهم.

رويداً رويداً نتعرف أكثر إلى ماضي القصة التي يسوقها عرض "الرّهان"، فهدباء الفتاة ذات الحضور العضلي اللافت والصوت الجهوري، تخفي ضعفها إزاء واقع يزداد توحشاً من حولها، فهي فقدت عملها مؤخراً كمربية أطفال بعد تعرضها للتحرش على يد والد الطفل الذي تشرف على رعايته، وعندما قررت العمل مستقلة على ماكينة للخياطة في بيتها المستأجر، جاء صاحب البيت وأخذ منها وسيلة عيشها، ورفض أن يعيد لها ماكينة الخياطة قبل أن تدفع الأجرة المترتبة عليها منذ أشهر. أما عطا الله فيستعيد عبر شريط ذاكرته حكاية حبه مع زوجته المتوفاة، فنطل أكثر فأكثر على شخصية رجل عاطفي يخبئ خلف بدلة رجل الأعمال وتعليماته الصارمة، شاعراً بقلبٍ رقيق.

ولا يغيب هنا التصعيد العاطفي للشخصيتين، وبوح كل منهما للآخر في إطار يمزج الجد بالهزل، فتتداعى المواجهة من جديد، وتصل الأمور إلى المبارزة بالمسدسات. فيعجب الرجل بقوة شخصية الفتاة وصدقها في انتزاع حقها، ويقوم أخيراً بعرض الزواج من هدباء، ويعدُها بأنها ستكون أسعد امرأة إذا ما قبلت به شريكاً لحياتها. لكن هدباء ترفض هذا العرض ما لم يقبل بأن تعيش والدتها وأخوها معهما في الفيلا التي سيقيمان فيها، وأن يدفع رواتب موظفيه المتأخرة، وعندها يذعن عطا الله لطلبات الفتاة، وتنتصر إرادة الحب على أيام الحداد والعزلة.

حاول "الرّهان" تقديم قالب واقعي للأحداث، والإطلالة على الراهن السوري اليوم من خلال قصة بسيطة بدت أحداثها مختزلة لجهة الصراع الدرامي، وإسقاطها على واقع البلاد التي دفعت نساءً كثيرات لخوض غمار سوق العمل، وتعرضهن للكثير من التعنيف والتحرش الجنسي في مجتمع الحرب، وهذا ما عوّل عليه الفنان زهير بقاعي عبر قلب أدوار النص الأصلي، وتعويض أدوار الرجال بالنساء، وجعل النص الروسي منطلقاً لفضح مسألة الرشوة الجنسية التي تتعرض لها فتيات كثيرات، وبيع أجسادهن مقابل المال والحصول على الوظيفة.

اعتمد بقاعي في عرضه على قطع من ستائر بيضاء وبعض الكوادر الخشبية المفرّغة في عمق المسرح لإتاحة الفرصة لتشكيلات أنيقة من الضوء عليها، واللعب على مساحات قسمت الفضاء إلى قسمين: الأول جسد صالة والآخر غرفة انتظار خارجية، وذلك من دون مراكمة لما يشبه العفش المسرحي. بل بتوظيف كل قطع ديكور للإيحاء بوجود منزل فخم تحيط به أصص نباتات ذابلة، مما سمح للممثلين الثلاثة برسم ميزانسين (الخطة الحركية للعرض) متوازن بين يمين خشبة القباني ويسارها، والتركيز على ردود أفعال مبررة وموظفة ضمن الشرط الدرامي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعمد بقاعي في حياكة خيوط مسرحيته إلى أسلوب أقرب إلى المسرح الطبيعي، فلم يلجأ إلى مسرَحة مبالغ بها، بل حاول تقديم فسحة لعمل الممثل عبر أدواته الجسدية والحسية، والابتعاد عن قالب المسرح المسرحي لصالح إدارة مغايرة لملكات الممثل، وتركيزه على تشريح هادئ للشخصية. وذلك من خلال التداعي الحر للذاكرة الانفعالية، والخروج من حيثيات البيئة الصقيعية في النص الأصلي، والاعتماد على معايشة الدور بدلاً من تكلف الأداء واصطناعه.

ويعتبر عرض "الرّهان" تتويجاً لمسيرة حافلة للفنان زهير بقاعي بعد أول عرض قام بإخراجه عام 1983 بعنوان "تاريخ قضية"، ليعمل بعدها على نصوص عديدة كان منها: "سهرة على الطريقة الأمريكية" لمحمد الماغوط، و"الليل جزار" لعبد الفتاح قلعجي. وكتب العديد من العروض وأخرجها ومثّل فيها ومن أبرزها: "جلجامش" عام 1997، عن نص للعراقي طه باقر، و"كاليغولا" عن نص لألبير كامو، ليكمل مسيرته كممثل في عروض بارزة في الريبرتوار السوري مع كلٍ من المخرجين وليد قوتلي وهشام كفارنة ومحمود خضور وزيناتي قدسية، وصولاً إلى تأليفه وإخراجه العديد من عروض مسرح الطفل، ونيله العديد من الجوائز عليها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة