ملخص
العلاقة بين الجي بي تي والادباء تزداد التباساً وتعقيداً، خصوصاً بعد انقسام الأدباء في العالم والعالم العربي، بين مؤيد أو رافض. هل يمكن اعتماد الجي بي تي في كتابة رواية أو نصوص أو حتى مقالات؟
يعتبر الكاتب الفرنسي المعروف ميشال ويلبك أن الأدب يهتم بالناس وليس بالأفكار، وأن الناس ليسوا أفكاراً فقط. وتأتي هذه الجملة لتكشف حدة التوجس من الذكاء الاصطناعي ومن قدرته على الحلول محل الكاتب. فهذا النوع الجديد من الذكاء تحول إلى تهديد لصنعة الكتابة البشرية بالنسبة للبعض الذين يخشون أن يحل الذكاء الاصطناعي محل الكاتب كما حصل مع غيره من أصحاب المهن الحرة التي زاولها الإنسان لقرون خلت. وقبل أيام انتقد الروائي سلمان رشدي فكرة الـ"شات جي بي تي"، بل سخر منه عندما اكتشف فشله في كتابة نص رديف لنصه بعدما لقنه إياه.
لا شك في أن الذكاء الاصطناعي بات يشكل هاجساً جديداً يضاف إلى هواجس الكاتب في العالم العربي كما في العالم. فإضافة إلى مشكلات قرصنة الكتب والسرقة الفكرية ودور النشر غير الشفافة وعدد القراء المتضائل، يأتي الذكاء الاصطناعي ليصيب صناعة الكتابة في مقتل.
فبفضل مهارات العصف الذهني وأدوات الكتابة والتصحيح اللغوي وأدوات التحرير باتت برامج الذكاء الاصطناعي قادرة على كتابة نصوص كاملة متكاملة دون الحاجة إلى كاتب ماهر ولا إلى قدرات متميزة ولا إلى موهبة أدبية رفيعة. فمع الـChatGPT-3 و4، والـSudowrite والـLong Form Writer والـShort Form Assistant بات يمكن للمرء أن يكتب أفضل نص في الموضوع المراد من دون أي بحث أو مجهود.
الكتاب بين متخوفين ومطمئنين
لا يخفى على أحد أن كتابة مقالة أو بحث أو فقرة أو تقرير باتت اليوم مسألة سهلة بسيطة لا تتطلب سوى بضع كبسات على أزرار الهاتف أو الحاسوب، وهو ما صار يشكل مصدر تخوف لدى أساتذة المدارس والجامعات الذين لا يستطيعون السيطرة على تلاميذهم وطلابهم كما لا يستطيعون منعهم عن الاستعانة ببرامج الكتابة الإلكترونية. ومن الظاهر أن هذه البرامج مدربة على استيعاب المفاهيم والأسئلة لتقديم الإجابات المناسبة لها، وهو مأخذ يأخذه كثر على الذكاء الاصطناعي، فهؤلاء يعدون أن برامج الكتابة الإلكترونية لا تخلق النصوص، بل تعيد صناعتها بحسب ما سبق أن وجود لديها من معلومات وبيانات سابقة. إنما أليس هذا تماماً ما يفعله الكاتب: يصهر ما عاشه وما قرأه ويقدمه في قالب إبداعي جديد؟ أليس هذا ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بورديو (1930-2002) بالـhabitus؟
أعلن عدد من كتاب السيناريو إضرابهم في هوليوود احتجاجاً على توظيف الذكاء الاصطناعي في كتابة النصوص، وجاء هذا الاحتجاج ليجسد هاجساً بات موجوداً ومبرراً، وهو أن يحل الذكاء الاصطناعي مكان الذكاء الإبداعي الإنساني، وأن تكف وظيفة كتابة السيناريو عن الوجود، لكن صاحب رواية "أطفال منتصف الليل" الكاتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي (مولود سنة 1947) يبدو غير متأثر بتاتاً بهذا الشأن فهو يعتبر أن الذكاء الاصطناعي لا يشكل تهديداً ولا خطراً على الكتاب الجادين فهو يفتقر إلى حس الفكاهة وإلى أصالة الكاتب الجيد. ويضيف هذا الكاتب الذي يجمع في أسلوبه ما بين الواقعية السحرية والخيال التاريخي في مقال مترجم إلى الفرنسية للمجلة الأدبية La Nouvelle Revue Française (NRF)، أنه طلب من الـ"شات جي بي تي" أن يكتب له فقرة من 200 كلمة بأسلوبه تبين له من بعدها أن الذكاء الاصطناعي لم يقدم سوى "حفنة من الترهات"، فيقول "لا يمكن لأي قارئ قرأ صفحة واحدة من كتاباتي أن يظن أنني المؤلف".
الذكاء الاصطناعي والروايات
تكمن القضية الأحدث في قدرة الـ"تشات جي بي تي" على أن ينشئ نصاً معقداً يبدو وكأن وراءه كاتباً حقيقياً. لقد تصدرت هذه التقنية هموم الكتاب والصحافيين ولجان تحكيم الجوائز في العالم، مع القلق خصوصاً من إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي لكتابة رواية بأكملها. وقد تجلت هذه المخاوف في مواقع التواصل الاجتماعي وفي عناوين الصفحات الثقافية العالمية أخيراً وبكثافة، مع كاتبة يابانية تفوز بجائزة وطنية عريقة لعام 2024 وتعترف بأنها وضعت كتابها بمساعدة برامج الذكاء الاصطناعي، مروراً بكاتب فرنسي يتنبأ بحلول العالم الافتراضي مكان العالم الحقيقي ما يؤدي إلى انتحار الراوي Les liens artificiels - Nathan Devers))، وصولاً إلى الكاتب المصري أحمد لطفي الذي وظف الـ"شات جي بي تي" لوضع رواية كاملة مؤلفة من 100 صفحة وموجهة للقراء لليافعين.
لم تتوان الكاتبة اليابانية ري كودان في الاعتراف بأن برنامج الـ"شات جي بي تي" قد تولى كتابة بعض فقرات روايتها، ما يشكل نسبة 5 في المئة من مجمل النص، عدا عن الفقر التي ساعدها على كتابتها بتقديمه جملاً مفاتيح. وتؤكد هذه الكاتبة الثلاثينية أن الذكاء الاصطناعي حررها من الخوف من الورقة البيضاء وأطلق العنان لمخيلتها عبر المقاطع والجمل التي زودها بها لتتقدم في نصها. ومن الجدير ذكره أن رواية كودان "برج الرحمة في طوكيو" التي فازت بالجائزة اليابانية الأدبية العريقة أكوتاغاوا، نالت إعجاب أعضاء لجنة التحكيم الذين اعتبروها عملاً "يبلغ درجة من الكمال يصعب معها العثور على أي خلل فيه".
أما في ما يتعلق برواية "خيانة في المغرب" للمصري أحمد لطفي الصادرة عن دار "كتوبيا للنشر والتوزيع" سنة 2023، فقد أثارت جدلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن صارت متاحة للقراءة على المنصات الأدبية وفي الأسواق. ويقول أحمد لطفي في شأن روايته التي يظهر على صفحة غلافها أن الـ"شات جي بي تي" شارك في كتابتها، "يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقوم بكتابة رواية كاملة، أو مشاهد قصيرة من رواية، أو أن يضيف بعض التفاصيل للمشاهد، فاستخداماته لا تقف عند ثيمة واحدة. كان الهدف من كتابة الرواية، التجريب والتعلم، وخوض تجربة جديدة وعرضها على الجمهور".
في الثورة الصناعية في القرن الـ19 حلت الآلة مكان مهام العامل اليدوي، ثم حلت الكاميرا مكان الرسام وأخذت بعضاً كثيراً من وهجه ومن دوره الفني في المجتمع، وظن الكاتب آنذاك أنه بمعزل عن الاستبدال. فجاءت اليوم ثورة الذكاء الاصطناعي لتحل محل المترجم والمصور، فهل تحل محل الكاتب؟ هل حلول الآلة مكان الكاتب هو ديستوبيا لا مفر منها أو تحد جديد أمام الكاتب يمكنه أن يفوز فيه؟ هل تتطفل التكنولوجيا على صنعة الكتابة أم أن الكتابة من المهن التي تتطلب الخلق والإبداع والعاطفة الإنسانية والتفرد كما يعتبر ويلبك وهو ما لا يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام به؟
اختبار وأخطاء
أجرينا بعض الاختبارات وطرحنا بعض الأسئلة على الـ"شات جي بي تي" لوضع الإصبع على حقيقة المسألة وأتت النتيجة جيدة إنما غير ممتازة. فيبدو أن الذكاء الاصطناعي لا يزال في حاجة إلى بعض التدقيق اللغوي ولا يزال يخطئ في بعض العبارات والاستعمالات. فعندما طرحنا سؤال: هل تستطيع كتابة فقرة مثل نجيب محفوظ؟ أجابنا الـ"شات جي بي تي" بفقرة أدبية هي الآتية، "في ظل الغسق الهادئ الذي يلف شوارع القاهرة بحلته الساحرة، تتجلى روح المدينة العريقة بكل جمالها وعمقها. تتلاطم أصوات الحياة وتتلاعب الأضواء بظلال الزمان، مثلما يتراقص الأحلام والأماني في أروقة الذاكرة (الصحيح: تتراقص). وسط هذا الجمال الساحر يتجلى بوضوح شخصيات شديدة التباين (الصحيح: تتجلى)، تعكس تنوعاً ثقافياً واجتماعياً لا مثيل له. فهنا، يجتمع الثرثرة الهادئة لكبار السن (الصحيح: تجتمع) في كافيهات الشارع مع صخب الشباب في المقاهي العصرية، لتختلط روائح القهوة بعبق الورد وعطر التاريخ. إنها القاهرة، تلك المدينة الساحرة التي تحتضن في طياتها أسرار الزمان ومفاتيح الحياة، حيث تتلاقى الأحلام بألوانها المتعددة لتخلق لوحة فنية لا تضاهى". ويبدو مبهراً ما في النص من روح نجيب محفوظ وعشقه للقاهرة بخاصة في الوصف الدقيق والجذاب وثراء المرادفات والحقول المعجمية، ولكن النص في نهاية المطاف كان من الممكن أن تتم كتابته بصورة أفضل وأصح مع لمسة أعمق من الإنسانية والدقة والإبداع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما عندما سألنا الـ"شات جي بي تي" إن كان يستطيع كتابة رواية بالعربية فأجاب، "بالطبع، يمكنني محاولة كتابة بداية لرواية. هيا بنا نبدأ: فصل البداية: عبق الذكريات. في ليلة مظلمة مليئة بأصوات الرياح العاصفة (الصحيح: زمجرة/ صوت الرياح) وأضواء النجوم الخافتة (الصحيح: تلألؤ النجوم الخافت)، ولدت قصة جديدة في أحد أرجاء المدينة الصامتة. كانت شوارع المدينة تنام في غفوة عميقة (الصحيح: غارقة في غفوة عميقة)، ولكن هناك زاوية مظلمة تحتضن أسراراً لم تكشف بعد (الصحيح: إنما كانت هناك). في ذلك الزاوية (الصحيح: في تلك الزاوية)، حيث تتشابك أشجار الصنوبر وتتلاطم أوراقها في وقت الريح (الصحيح: مع كل هبوب للريح)، كانت تلك اللحظة الأولى التي اجتمعت فيها حكايات الأرواح المفقودة وأصوات الأشباح البائسة (جملة ركيكة وخاطئة لغوياً). كان هناك منزل قديم، يبدو مهجوراً منذ سنين طويلة، ولكن لم يكن خالياً تماماً من الحياة. في لحظة ما، بينما كانت الهواء يغازل نوافذ المنزل القديمة (الصحيح: كان الهواء)، ظهرت شبحاً رقيقة (الصحيح: خيالات أشباح رقيقة) تتلاشى (الصحيح: تتمايل/ تختال) في ضوء القمر المتساقط (ركاكة في الوصف). كانت هذه الشبحية (خطأ) بيضاء كالثلج، وعيناها كانت تحمل عمق البحار (الصحيح: وكانت عيناها تحملان عمق البحار)، تتراقص فيهما أسرار الزمن وألغاز الحياة".
تبدو هذه البداية مشوقة إنما تشوبها ركاكة لغوية وقلة مهارة في اختيار المرادفات الصحيحة مع أخطاء في التوافق بين المؤنث والمذكر، كما أنها فقرة خالية من أي بلاغة أو عاطفة متوقدة أو لمسة توهج إنسانية، ليتجلى واضحاً من هذين الاختبارين أن الذكاء الاصطناعي لا يزال يحتاج إلى لمسة بشرية لتصوب وتصحح وتنقح وتحسن.
إن الكتابة ليست عملاً أوتوماتيكياً يقوم على رصف كلمات وتعابير وصفات، هناك صنعة الكاتب وقدرته على اختيار الكلمات المناسبة ومهارته وموهبته وخبرته في الحياة والأدب، ومن الواضح أن الـ"شات جي بي تي" سيسهل عملية الكتابة على المؤلفين، ولكنه سيكون مجرد أداة ولن يحل محل البشر، أقله ليس بعد، فهو لا يزال يحتاج إلى تدقيق لغوي وإلى مهارة اختيار الكلمة الأنسب والفعل الأفضل وإلى تلك القدرة على إضفاء الجمالية والأستيطيقا على النصوص، تلك القدرة على الـJe ne sais quoi، كما يقولون بالفرنسية.