Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المخ البشري... عالم من فصين

الأكثر تعرضاً للقيل والقال والفهم المغلوط والقوالب النمطية والأقدر بلا منازع على عكس الثقافات والأعراف حين تختلط الحقيقة بالخيال والفلكلور بالعلم

دماغ بشري حقيقي داخل صندوق زجاجي كجزء من معرض تفاعلي عنوانه "الدماغ: عالم داخل رأسك" في البرازيل (أ ف ب)

ملخص

العالم الذي يتحكم فينا ولا نراه، ذلكم هو المخ البشري.

يتنمر أحدهم على آخر فيخبره أن "مخه تخين"، ويسخر هذا من ذاك فيصفه بأن "مخه مهلبية"، وحين يدعو صديق صديقه ليسمو فوق الصغائر يقول له "كبر مخك". وخلص بعض العلماء في الغرب قبل عقود إلى أن الإنسان الأبيض يتمتع بعقل أكثر رجاحة وحكمة وتحضراً من بقية الألوان.

ويعتقد جانب غير قليل من رجال الأرض أن مخ الرجل أكبر من مخ المرأة. وتعيش الملايين في أوهام وخيالات قوامها أن المخ كلما زاد حجمه زادت حصافته ورصانته. ولحسن الحظ أن كثراً لم يطلعوا على ما وصل إليه أحدث بحوث الدماغ، إذ مخ الإنسان لا يختلف كثيراً عن مخ أقرب أقربائه من الحيوانات، وهو ما يعني أن البحث عن الذكاء يحتاج إلى ما هو أكثر من الحجم والشكل والتكوين.

المخ "التخين"

على مدى عام 2023، استمر علماء الأرض في بذل جهود بحثية جبارة والخروج بنتائج أغرب من الخيال عن مكونات الجسم البشري، بعضها أكد شكوكاً سابقة، والآخر دحض أفكاراً راسخة، ومعظمها أدهش الجميع وأزاح عتمة الأساطير عن أدمغة غرقت في خرافات "المخ التخين" (دلالة على الغباء) و"المخ الجزمة القديمة" (دلالة على العناد) و"المخ البرلنت بحر العلم وترعة المفهومية" (دلالة على الغباء المستحكم).

يمكن القول إن المخ البشري هو الأكثر تعرضاً للقيل والقال، والفهم المغلوط، والقوالب النمطية، وأخيراً وليس آخراً، الأكثر عكساً للثقافات والعادات والتقاليد والأعراف التي تختلط فيها الحقيقة بالخيال والفلكلور بالعلم.

العلم يقول إن هذا الجزء من الجسم البشري مذهل، فهو يتكون من 100 مليار خلية عصبية تتحكم في كل كبيرة وصغيرة في جسم الإنسان، بدءاً من الحركة مروراً بالمشاعر وانتهاء بالشخصية، وعلى رغم ذلك فإن الغالبية تسيء فهمه.

وفهم مخ الإنسان لم - وغالباً لن - يصل إلى مرحلة الكمال. فمع كل بحث علمي متعمق، وكل اكتشاف طبي متأن عن الدماغ البشرية ومحتوياتها، يتم كشف الجديد المذهل عن المخ. وعلى رغم ذلك يبقى المخ العضو الأكثر غموضاً وإثارة وجذباً للأساطير والروايات والحكايات التي هي أقرب إلى الخيال.

أغرب 10 حقائق 

في ورقة عنوانها "أغرب 10 حقائق عن المخ" نشرتها دورية "نوري ويسترن ميديسين"، يفند أستاذ علم الأعصاب السلوكي بورنا بوناكداربور الأفكار الـ10 الخاطئة وهي:

يستخدم الإنسان 10 في المئة فقط من المخ، والحقيقة هي أن المخ نشط دائماً ويطلق ملايين الخلايا العصبية حتى في أثناء النوم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حجم الدماغ يؤثر في مقدار الذكاء، والحقيقة أن مقدار الذكاء يحدده عدد الوصلات بين خلايا الدماغ، والتي تسمى المشابك العصبية، وليس بحجم الدماغ نفسه.

المواد الكحولية تقتل خلايا المخ، والحقيقة هي أن تناول الكحول بكميات قليلة لا يؤثر في خلايا المخ، والعكس صحيح إذ إن تناولها بكميات كبيرة يتلف الخلايا.

الأطفال الذين يستمعون للموسيقى الكلاسيكية يكونون أكثر ذكاءً من أقرانهم ممن لا يستمعون لها، وعلى رغم جاذبية الفكرة فإنها عارية من الصحة ولا دليل علمياً يثبتها.

من يستخدمون الجزء الأيسر من المخ أكثر قدرة على التحليل والمنهجية، في حين أن من يستخدمون الجزء الأيمن أكثر إبداعاً وميلاً للفنون، والحقائق العلمية تنفي هذا وذاك، إذ لا صحة علمية بأن الناس يستخدمون جزءاً معيناً من المخ أكثر من غيره.

قدرات المخ تتراجع بالتقدم في العمر، والحقيقة هي أنه على رغم تراجع بعض الوظائف المعرفية بالتقدم في العمر، فإن كثيراً من المهارات العقلية تتحسن مع التقدم في العمر، كذلك كبار السن يتمتعون بقدرات أعلى من الأصغر سناً في فهم المفردات وحل النزاعات والتحكم في المشاعر وتنظيمها.

الفكرة السابعة الخاطئة أن الناس لديهم أساليب تعلم مختلفة، إذ يعرف عن المعلمين ابتداع طرق مختلفة لتعليم الطلاب بصورة تناسب الاختلافات بينهم، والحقيقة هي أن اختلاف الأساليب لا يؤدي إلى نتائج مختلفة بالضرورة في نواتج العملية التعليمية، إذ تظل الفروق الفردية بين الطلاب هي الحاكمة.

والفكرة الثامنة هي أن الألعاب العقلية تعمل على تحسين الذاكرة ومهارات التفكير، لكن الحقيقة هي أن الوظائف الإدراكية للمخ لا تختلف من شخص داوم على هذه الألعاب وآخر لم يمارسها.

 

 

وتشير الفكرة التاسعة إلى أن معدل الذكاء يبقى كما هو طوال حياة الشخص، والحقيقي هي أن معدل الذكاء يمكن أن يختلف من مرحلة إلى أخرى مع الأخذ في الاعتبار أن علم قياس الذكاء ليس علماً مكتملاً بعد.

أما الفكرة الأخيرة فهي أن المخ يعمل بشكل أفضل تحت الضغط، والحقيقة هي أنه على رغم الضغوط التي تتسبب فيها منظومة "مواعيد التسليم"، التي تؤدي إلى عمل الشخص بصورة أسرع أو أكثر جدية، فإن ذلك لا يؤدي إلى تحسين عمل المخ. ليس هذا فقط، بل يعتقد أن التوتر الزائد أو المستمر يؤدي إلى إضعاف وظائف المخ.

هل مخ المرأة فارغ؟

المخ البشري البالغ وزنه نحو 1،5 كيلوغرام، وهو أصغر بمرتين تقريباً من حجم مخ الفيل، ولا يشكل لدى الشخص البالغ إلا نحو اثنين في المئة من كتلة الجسم، ويحرق وحده نحو 20 في المئة من السعرات الحرارية، لكن هذه ليست الحقيقة الوحيدة المفاجئة.

المفاجأة التي تصيب بعض الثقافات بالصدمة، لدرجة التعتيم أو الإنكار أو الاتهام بالتزوير، هي أن مخ المرأة لا يختلف عن مخ الرجل من جهة القدرة على التفكير وإدارة شؤون الحياة الخاصة والعامة، بما فيها المناصب القيادية والوزارية والرئاسية، ولكن بطرق مختلفة.

بمعنى آخر، فإن ما يشاع عن أن مخ المرأة تافه أو فارغ أو سطحي أو غير قادر على عقلنة الأمور باستثناء الطبخ والتجميل والتزيين ليس له أساس من الصحة. ولأن الطبيعة البشرية بشكل عام - قبل اختراع الصوابية السياسية وابتكار أسلوب حياة "المينيمالزم" أو التقليل أو التبسيط - تميل إلى تفضيل كل ما هو كبير أو وفير، ولأن مخ الرجل أكبر بنسبة 10 في المئة من مخ المرأة، فقد اعتقدت هذه البشرية على مدى العقود والقرون أن مخ الرجل بالضرورة أكثر رجاحة من مخ المرأة، ومن ثم سمعة المرأة كحاملة "مخ تافه".

 

 

أستاذ علم الأعصاب السلوكي الأميركي إيان ماكيل غرانت يشير في دراسته "معارك المخ: الرجال في مقابل النساء"، إلى أن اختلاف حجم المخ واختلاف نسب حجم الفصوص بين النساء والرجال لا يرتبطان بالذكاء أبداً.

ويقول إن الفص الجداري السفلي يكون عادة أكبر لدى الرجال، وهذا الجزء يكون مسؤولاً عن المسائل الرياضية وتقدير الوقت وإصدار الأحكام بسرعة. أما أجزاء المخ المتعلقة بالذاكرة فلا فرق بين أداء مخ الرجل عن المرأة فيها.

ويشير غرانت إلى أن الرجال عادة أكثر ميلاً إلى التفوق في الأعمال التي تعتمد على مهام معينة موكلة إليهم، في حين النساء أكثر تفوقاً في اللغة والمهام المتعددة.

اختلافات أخرى بين مخ المرأة والرجل تكمن في اختلاف كيمياء الدماغ، فكلاهما يعالج المواد الكيماوية، ولكن بشكل مختلف. على سبيل المثال مادة السيروتونين المرتبطة بالسعادة والاكتئاب لا يتم معالجتها بالصورة نفسها، وهو ما يفسر أن النساء أكثر عرضة للقلق والاكتئاب من الرجال.

إسفنجة اجتماعية

رجال ونساء من الباحثين في أمور المخ البشري وجدوا خلال العام الماضي قدراً وافراً من الشجاعة مكنهم من المجاهرة بالاختلافات الموجودة بين الجنسين في ما يختص بالمخ. عقود طويلة من الأصولية النسوية حاصرت الجميع، بمن فيهم العلماء والباحثون، وجعلت المجاهرة بالفروق التشريحية، وكذلك في طريقة عمل الدماغ بين مخ الرجل والمرأة أشبه بتهمة التحيز الجنسي، وذلك على رغم أن الفروق لا تعني فوقية أو أفضلية أحدهما على الآخر.

مضى عام 2023 من دون أن يحسم أثر الفروق التشريحية. ليس هذا فقط، بل كان العام عامراً بعناوين متضاربة تتأرجح بين عدم تأثير هذه الفروق في أداء وتفكير الجنسين، والتأثر البالغ بها. "تستجيب خلايا المخ لدى الذكور والإناث بشكل مختلف" و"إعادة النظر في النوع الاجتماعي والجنس والدماغ" و"دراسة تكشف فروق في أدمغة الرجال والنساء لكن فقط في الدول التي تفرق بين الجنسين" و"فروق جذرية بين أدمغة الرجال والنساء" و"إسفنجات اجتماعية: نمو الدماغ بحسب النوع الاجتماعي يأتي من المجتمع وليس من البيولوجيا".

 

 

وتظل الإسفنجات الاجتماعية حاكمة في التعامل الشعبي مع أدمغة النساء والرجال، تارة محملة بالمعتقدات والأعراف، وأخرى معضدة بالبحوث والكشوف العلمية، لكن أطرف ما تم الكشف عنه في هذا الصدد قبل أيام دراسة خلصت إلى أن "عدوانية الرجال تقل بنسبة 44 في المئة حين يشمون رائحة دموع النساء".

المقال المنشور في دورية "نيو أتلاس" تحت العنوان ذاته [ديسمبر (كانون الأول) 2023] إلى أن عالم التاريخ الطبيعي والجيولوجي تشارلز داروين كثيراً ما حيرته الدموع. وكان يعتقد أنها لا تقوم بأي دور مفيد سوى تشحيم العين، لكن البحوث أكدت أنه إلى جانب دورها الاجتماعي، فإنها تقلل من عدوانية الذكور عبر إرسال رسائل إلى المخ تدفعهم إلى تقليل حجم العدوانية، كما تكبح جموح الإثارة الجنسية الذاتية وتخفض من مستوى هرمون التستوستيرون.

ومن الهرمونات وعلاقتها بالمخ التي تجمع الرجال في جبهة والنساء في أخرى، إلى الأعراق وعلاقتها بالدماغ، تلك العلاقة التي يسميها علماء الأعراق والأجناس "الحقائق غير المريحة"، ويلقبها معارضو البحث العلمي عن الفروق بين الأدمغة على أساس العرق بـ"العنصرية العلمية".

فروق طبيعية أم ظلم اجتماعي؟

لم يشهد عام 2023 إحياءً لبحوث الدماغ على أساس العرق، لكنه في الوقت نفسه لم يشهد دحضاً لفكرة اختلاف قدرات المخ بناءً على العرق. فالعلماء المؤمنون باختلاف قدرات الدماغ بناءً على العرق يؤيدون ذلك بمزيد من نظريات "العنصرية"، مستندين إلى اختلاف متوسط العمر والتحصيل العلمي والثورة ومعدلات الجريمة، التي يمكن تفسير معظمها في ضوء فروق الفرص والخدمات والحقوق التي تتاح للبيض والسود، وفي أقوال أخرى الظلم الاجتماعي الذي يقع على عرق أو لون دون آخر، من ثم اختلاف الأداء بينهما. وما زالت العلوم التي تبحث عن الفروق بناءً على العرق تشكل جانباً جدلياً من الخطاب السياسي وكذلك الحراك الحقوقي، لا سيما في الدوائر الأكاديمية والبحثية في الدول الغربية.

 الدوائر الأكاديمية والبحثية في الدول الغربية تتسع لكثير، وليست حكراً على التحيز العرقي. ويتوقع أن يشهد العام الجديد 2024 وتحديداً في أستراليا بدء تشغيل كمبيوتر عملاق قادر على محاكاة نقاط الاشتباك العصبي في الدماغ البشرية على نطاق واسع. ويأمل العلماء أن يلقي الكمبيوتر العملاق الجديد الضوء على الطريقة التي يعالج بها الدماغ البشري الكميات الهائلة من المعلومات باستهلاك طاقة قليلة نسبياً، وهو ما يظل لغزاً للعلماء.

فك ألغاز المخ البشري عبر الذكاء الاصطناعي يشغل بال قطاع من خبراء وعلماء العصر الرقمي. الأسابيع الأخيرة من عام 2023 شهدت حصول شركة "نيورالينك" الناشئة في مجال التكنولوجيا الحيوية التي أسسها الملياردير الأميركي إيلون ماسك على الموافقات المطلوبة لبدء تجارب سريرية على أدمغة متطوعين مرضى مصابين بالشلل.

يقوم روبوت بعملية غرس الشريحة جراحياً، ويفترض أن تقوم بتسجيل الإشارات التي تصدرها الدماغ، ثم ترسلها إلى تطبيق رقمي قادر على قراءتها وترجمة ما يود المريض عمله على جهاز الكمبيوتر إلى فعل.

ويأمل العلماء أن تقهر هذه التطورات العملية الجارية لفهم المخ البشري والتعامل مع ما قد يصيبه من علل أساطير "المخ التخين" وخيالات تفاهة عقل المرأة مقارنة بعقل الرجل وضلالات العلاقة بين حجم المخ ومقدار الذكاء.

المزيد من تحقيقات ومطولات