ملخص
أصبحت الوحدة اليوم هدفاً يصبو إليه المرء، في ظل اعتبار العيش منفرداً أملاً لا يتسنى للجميع تحقيقه. فكيف وصلنا إلى هنا؟
كنت مراهقة في العقد الأول من القرن الحالي، لذلك فإن الرمز الثقافي لوحدة النساء بالنسبة إلي كان بريدجت جونز وهي تحتسي النبيذ في ثياب النوم المزرّرة على مطلع أغنية All By Myself. تتفقّد السيدة بريدها- "لم تصلك أي رسائل"- وتحتسي كأسها مرة واحدة، ويتبدّد كل شك في ذهننا أنّ هذا المشهد الكوميدي المأساوي الشهير ينبعث منه شعور الوحدة والعزلة وليس البريق الذي يصبو إليه الجميع (على رغم كونها في موقع تُحسد عليه، إذ تسكن وحدها في شقة وسط لندن بعمر الثانية والثلاثين). لكن بعد مرور عقدين على ذلك، اختلف الوضع جذرياً. هذا الصيف، أعلن تقرير رئيسي نشرته مجلة فوغ في قسم السفر أن الوحدة "سلعة مرغوبة". وأحد الكتب الأكثر قراءة هذا الصيف يحمل عنوان "الناسكة" (Hermit)، وهو سيرة ذاتية جديدة مستوحاة من الوحدة بقلم جايد أنجليس فيتون، وهي صحافية في منتصف الثلاثينيات من عمرها، في الوقت الذي أعلنت فيه لايدي غاغا عن رغبتها بقضاء "حياة من الوحدة". وعلى "تيك توك"، حصد "هاشتاغ" #موعد-مع-نفسي أكثر من 282 مشاهدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يكفي أن نقول إن الوحدة تحوّلت من وضع مخجل تعيشه من تسمّي نفسها "عانساً" مثل بريدجت جونز إلى رمز عن المكانة يستدعي التفاخر. وهذا ما أدى إلى طفرة في سفر النساء وحدهن أيضاً: تشكّل النساء 84 في المئة من المسافرين وحدهم، وفقاً لبيانات موقع Booking.com، وهو رقم لا شك سببه الجزئي فيلم العام 2010 المقتبس من رواية اكتشاف الذات التي كتبتها إليزابيث جيلبرت بعنوان "طعام، صلاة، حب" (Eat Pray Love). وفي عام 2019، أفاد موقع OpenTable عن زيادة في حجوزات المطاعم لشخص واحد (بزيادة 160 في المئة على فترة أربع سنوات)- أي بما لا يُقارن مع الشخصية المنبوذة اجتماعياً التي لعبتها ليندزي لوهان في فيلم Mean Girls، والتي كانت تُدخل وجبة الغداء معها إلى المرحاض كي تتفادى تناول الطعام وحدها في الكافتيريا. من خلال عملي الخاص، من موقعي كمؤلفة كتب وصاحبة مدونة صوتية اسمها Alonement، شهدت تفاعل جمهوري المؤلف إجمالاً من مستمعات من جيل الألفية مع هذا الموضوع- إذ عملن على استخدام وسم #alonement بانتظام (وهي عبارة اخترعتها لوصف قضاء المرء بعض الوقت وحده بشكل إيجابي) وإلصاقه بتجاربهن الشخصية المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي.
إجمالاً، تُعرّف "الانفرادية" (تبعاً للتسمية التي أطلقها موقع "كوارتز" على هذا الاتجاه في عام 2019) على أنها "اتخاذ الأشخاص خيارات واعية في العيش والعمل والتسلية والتربية وحدهم". قد يعني أن يخرج الشخص لتناول طعام العشاء وحده أو أن يسافر وحده. وفيما يمكن للرجال والنساء على حد سواء أن يقوموا بهذه النشاطات (وهو ما يفعلونه)، يقول عالم الاجتماع جاك فونغ إن الوحدة فيها "جانب جندري". "إن الرجال الذين يكتبون عنها مثل نيتشه، عادة ما يخرجون إلى الغابة أو الصحراء بحثاً عن الأساس الفلسفي لأزمتهم الوجودية. وفي المقابل، توظّف النساء وحدتهنّ للتواصل مع عواطفهن والتعبير عن هويتهن بالكامل. وهي تحرّر من الحكم الثقافي الذي كان يملي على المرأة تاريخياً كيف عليها أن تتصرف في كنف المجتمع الأبوي، وتبني عشاً للأجيال القادمة". تشغل بيلا براون، التي تبلغ من العمر 34 سنة، منصباً إدارياً رفيعاً في مجال التكنولوجيا وتسكن مع شريك سكن في كلابهام، وتقول لي "إن الوحدة تخلق فرصة جميلة للوعي بالذات- وهو أعظم أهدافي في الحياة. أسافر وحدي مرة في السنة على الأقل؛ وأخرج وحدي بعض الأمسيات وأرتاد مطعمي المفضل؛ وأجول في المتاحف عندما أريد أن أغوص داخل ذاتي من دون تدخل من أي أحد. يصبح الوقت الذي أقضيه مع أصدقائي ثميناً أكثر لأنه خيار متعمّد".
وتعتبر رادا فياس، وهي شريكة مؤسسة في شركة "فلاش باك" للمسافرين المنفردين في الثلاثينيات والأربعينيات من عمرهم، الوحدة "رمزاً لمكانة نسائية". وتقول إنها تمكّن النساء من "إدارة الحياة كما نريد بدل أن نتّبع نموذج 'الزواج والأطفال' الجاهز الذي فرض علينا المجتمع أن نرغب به". نحو 70 في المئة من عملاء "فلاش باك" من النساء. وتغوص مجلة "سولو" التي تديرها "فلاش باك" بشكل جميل، في مسارات "حب الوحدة" التي تصبو إليها قاعدتها من العملاء، بدءاً من العناية بالذات ووصولاً إلى النصائح المهنية- فترسّخ مكانتها باعتبارها منصة تتناول نمط حياة جيل الألفية وليس السفر فحسب.
إنما خلافاً للاعتقاد الشائع، لا علاقة بين الانفرادية والحالة الاجتماعية. فنحو 60 في المئة من المسافرين وحدهم أشخاص مرتبطون بعلاقات عاطفية، وفقاً لبيانات "ترافلزو" Travelzoo. وليست المجتمعات الشبيهة بـ"فلاش باك" منصات منمّقة للتعرف إلى شريك بهدف الدخول في علاقة غرامية. "هذا دور بامبل"، كما تقول فياس ممازحة. صحيح أن طرق تطبيق الانفرادية قد تختلف بين شخص وآخر، لكنها تظل خياراً قائماً كأسلوب عيش، كما تقول. "يزداد تعاملنا مع أشخاص مرتبطين بعلاقات (كما) أمهات في رحلة بحث عن ذاتهن مجدداً بعد الإنجاب".
بالنسبة إلى فيبي دودز ذات الـ27 سنة، التي تعمل خبيرة تخطيط لتطوير الشركات الناشئة وتتنقل بين لندن وأمستردام، فنّ الإغلاق هو ما جعلها تدرك "جمال الوحدة وقيمتها"- إذ قضت خلاله كل وقتها مع خطيبها الذي كان قبل الجائحة يعمل بعيداً نصف أيام الأسبوع. "لم أقض أي لحظة وحدي أبداً، ووجدت نفسي أتوق إليها... فور حرماني من الوحدة، أدركت قيمتها وقررت أن أسعى إليها بانتظام أكثر". أخذت تخرج في نزهات يومية، تبعاً لترند انتشر على "تيك توك" خلال فترات الإغلاق اسمه "نزهة فتاة مثيرة" Hot Girl Walk حيث تسير السيدة وحدها عادة لمسافة أربعة أميال، وهي تستمع إلى مدونات صوتية. وتقول "هذا الوقت مخصص للتعلّم والتطور والاستماع إلى ما يعجبك"- وهذا الأمر يصحّ بغضّ النظر عن الحالة الاجتماعية. يسود اعتقاد أيضاً بأنّ الوحدة بدرجة معتدلة قد تؤدي إلى تشكيل علاقات مرضية أكثر، وهذا مفهوم تؤمن به جايد أنجليس فيتون، كاتبة Hermit، التي تعرّفت إلى زوجها بعد فترة من الوحدة "لم أكن لأستعدّ للدخول بعلاقة مجدداً لو لم أقضِ كل هذا الوقت وحدي".
كيف وصلنا إذاً إلى هذا التحوّل النوعي في النظرة إلى وحدة النساء؟ في أي مرحلة تحولّت من مرادف لـ"العنوسة" إلى وضع يوحي بالتمكين ومَطمح يتوافق حتى مع المعايير التقليدية للعلاقات والأمومة والأبوة؟ عملياً، سهّلت بيئتنا الاجتماعية والاقتصادية هذا التحول. وتقول الدكتورة توي في نغويين، الأستاذة المساعدة في تخصص علم النفس في جامعة دورهام "إن سكن النساء وحدهن أكثر أماناً وأقل كلفة مقارنة بقرون بل حتى بعقود خلت". لكن ذلك "أيسر كلفة إلى حدّ معيّن" كما تحذّر. أشير إلى أن الأسعار المرتفعة جداً للمساكن في لندن أو طوكيو يجعل الكثيرين غير قادرين على تحمّل تكلفة العيش بمفردهم. "لكن على الأقل، لدى نساء اليوم فرص أكبر لشقّ مسارهن المهني وجني مكاسب أكبر". ثم تضيف نغويين إلى ما تقدّم وجود عامل آخر يسهّل العيش المنفرد وهو توسيع البنى التحتية "بشكل يساعد في عدم الاعتماد على العائلة"، مثل خدمات توصيل الحاجيات من البقالة.
نظراً إلى أنّ نساء المملكة المتحدة انتظرن حتى عام 1974 قبل أن يُمنحن الحق في فتح حساب بنكي باسمهنّ من دون الحاجة إلى توقيع رجل (بموجب قانون تكافؤ فرص الائتمان)، وإلى استمرار وجود الفجوة في الأجور بين الجنسين، وبقوّة، من المذهل أنّ النساء يشكّلن النسبة الأكبر ممّن يسكنون وحدهم (53 في المئة) وفقاً لبيانات مكتب الإحصاءات الوطني. (على رغم هذا، ما زلنا ننتظر دخول مرادف نسائي لمفهوم "شقة الرجل العازب" في اللغة الشعبية). ويكتب الدكتور استيبان أورتيز-أوسبينا في تقريره لموقع Our World in Data "الأشخاص القادرون على تحمّل هذه التكلفة يختارون في أغلب الأحيان أن يسكنوا وحدهم"، مشيراً إلى وجود علاقة وطيدة بين الدول الغنية وانتشار الأسر المعيشية ذات الشخص الواحد. يبدو أن هذا الوضع يشكّل رفاهية مرغوبة وغير مسبوقة تاريخياً، تشعر النساء أنهن أكثر ميلاً للإنفاق بسخاء عليها من الرجال. ننتظر اجابات كثيرة من كاري برادشو. ومن اللافت كذلك أن شركة مثل "فلاش باك"- توفر برامج مغامرات حصرية مع إقامة في أماكن أربع نجوم وأكثر- تجذب النساء إجمالاً.
من الواضح سبب رغبة النساء في اتباع أسلوب الحياة البرّاق نفسه الذي تمتع به الرجال في "شقة العزوبية" منذ عقود، على ضوء التحسن في المساواة بين الجنسين (حتى وإن كان الواقع في الوقت الراهن هو العيش في مسكن مشترك في بيكهام). لكن ماذا عن ترند الوحدة والانفراد الذي يجتاح "إنستغرام" أو "تيك توك" أو حشود النساء الساعيات إلى مرحلة Eat Pray Love الخاصة بهن؟ أهي في الواقع موضة موقتة؟ تأمل فيتون- التي اكتشفت الوحدة بعد معاناة، بعد أن تخلّى عنها شريكها السابق في حظيرة حيوانات بعيدة في ديفون- عكس ذلك. "أرتاب من كل ما يوحي بروح العصر وطابع زمن معيّن. لا أريد (لكتاب) Hermit girl summer أن يصبح صيحة الموسم". وعلى رغم الأثر الإيجابي المفترض على مبيعات الكتب، تخشى فيتون أن يؤدي هذا التفكير إلى "تحجيم تجربة (الوحدة) ككل، ولا سيما في حال تدخّل إنستغرام بالموضوع"، وتضيف "عليك الابتعاد عن التواصل ليوم أو اثنين- والأفضل أن تفعل ذلك كما يجب". يتبنّى فونغ موقفاً ناقداً مماثلاً "إن إذاعة أخبار وحدتك للعالم لا يعدّ وحدة. بل وحدة كاذبة".
لكن فيتون توافق على أنّ الوقود الذي يؤجج الوضع، هو نفسه، أيّما كان- وما يُعتبر اليوم صيحة عابرة قد يغيّر النظرة تجاه النساء الوحيدات اللواتي تلاحقهن "وصمة" "الجنون" أو "العدوانية" (مقارنة باعتبار وحدة الرجال "حكمة"). "يتقبّل الناس الآن أكثر بكثير عندما تقول لهم إنك تريد القيام بأمر وحدك. ومن شأن هذا الموقف أن يجعل الوحدة أمراً طبيعياً للبعض- ويحوّلها إلى قيمة تلازمهم لبقية حياتهم. هذا أمر قادر على تغيير مسار الحياة. وهذا كان وقعه على حياتي على الأقل". وتضيف نغويين "أعتقد أنه من الجيد تشجيع الناس على احتمال كون الوحدة أمراً إيجابياً- حتى لو أتى ذلك من صيحة على وسائل التواصل الاجتماعي".
إلى أين يؤدي هذا الوضع إذاً؟ قد يخمّن منتقدو الاتجاه "الانفرادي" الذي تقوده النساء بأن هذا التفكير الانفرادي قد يفضي إلى زيادة الشعور بالوحدة- ولا سيما فيما تُعتبر النساء العازبات من جيل الألفية وجيل زد أكثر الشرائح الاجتماعية وحدة، وفقاً لأحدث بيانات يوغوف. تقول نغويين "يحمل هذا الموضوع في طياته خطراً وعلينا الانتباه له. لكننا، كمجتمع، نتعلم اكتشاف الفارق بين الوحدة والانكفاء الاجتماعي". ولا شكّ في أنّ نغويين تبذل جهداً كبيراً من أجل ترسيخ هذا التعريف- سواء في المجال الأكاديمي أو عبر الأبحاث المنشورة التي تدخل إلى مجال التصورات السائدة.
في المقابل، شهدت فياس شخصياً على زيادة تثمين الوحدة ومنافعها-ولا تعتقد بأنّ هذا الأمر سيتغير. "عندما أطلقنا فلاش باك في عام 2014، كان أمامنا عمل كثير في تثقيف السوق عن أنّ السفر المنفرد يمكن أن يشكّل تجربة حماسية وإيجابية. لكن الجميع يفهم هذا الآن". وفي ما يتعلق بالتعامل مع الشعور بالوحدة، ترى فياس أنّ دور "فلاش باك" هو خلق مجتمع داعم في مجال السفر المنفرد، ولا سيما بالنسبة إلى عملائها الاعتياديين من سيدات عازبات من جيل الألفية. قد يشمل ذلك النساء اللواتي يخترن الإنجاب في وقت متأخر من حياتهن أو عدم الإنجاب إطلاقاً (العام الفائت، تخطى مستوى عمر إنجاب المرأة لطفلها الأول عتبة الثلاثين للمرة الأولى في التاريخ المسجّل). وفي هذه المراحل العمرية، قد يصبح من الأصعب الحصول على مرافقين في السفر لقضاء العطلات (وهي تجربة تخبرها فياس نفسها، وألهمتها تأسيس "فلاش باك" في مطلع الثلاثينيات من عمرها): "يبدأ شعور الوحدة ينتابك لأنها ليست وحدة اختيارية، أليس كذلك؟".
ضمن هذا السياق، ليست الوحدة فحسب التي تظهر أهم من أي وقت مضى، بل الصداقة كذلك. تقول فياس "إن إقامة التوازن بين (الصداقة) والوحدة يمدّك حقاً بالقوة". عندما تقترن الوحدة بعلاقات حقيقية وشعور بالاستقلالية، يمكن التمتع بثمارها إلى أقصى درجة ممكنة- من دون الحاجة إلى وسم رائج.
© The Independent