Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حسونة المصباحي يفتح درب الرحلة على أفق الثقافة

نصوص تنطلق من المغرب لتسرد تجارب الروائي في بلدان العالم

السفر بريشة ميتيفيه (صفحة الراسم - فيسبوك)

ملخص

نصوص تنطلق من المغرب لتسرد تجارب الروائي في بلدان العالم

اختار الكاتب التونسي حسونة المصباحي الرحلة ذريعة لتصريف الأفكار والمشاعر، ولتصفية الحساب مع الحياة. وهو في ذلك يتجاوز ما اعتدناه في الكتب المندرجة ضمن أدب الرحلة، التي تقوم عادة على الوصف وعقد المقارنات وقراءة الأمكنة.

كتابه الجديد "الرحلة المغربية"، الصادر ضمن منشورات باب الحكمة في تطوان (المغرب)، يعد مرجعاً في أدب المكاشفة والاعتراف والسرد الذاتي التلقائي، فضلاً عما يميزه من طابع نقدي للحياة الثقافية والسياسية، وقدرة على تعقب الأحداث عبر تحولاتها التاريخية.

في الفصل الأول من الكتاب ينتقل المصباحي بسرعة لافتة من لحظة الوصول إلى مطار طنجة إلى السفر بنا في حياته الخاصة وفي تفاصيل متعلقة بالحياة العامة في تونس. ويبدو هذا الفصل في جزء كبير منه بمثابة قراءة في التاريخ التونسي الراهن، توازيها قراءة أخرى في تاريخ الكاتب. لقد انطلق من حالة عابرة أفضت به إلى طرح كثير من الأفكار وتصريف كثير من المشاعر، كأنما كان يحمل بشكل مسبق نية أن تكون رحلته أعمق وأوسع مما ينتظره القارئ.

عاد الكاتب إلى التوترات السياسية التي عرفتها تونس خلال مرحلة السبعينيات، حين شهدت البلاد محاكمات سياسية عديدة لمعارضي النظام، ومواجهات دامية بين الدولة واتحاد النقابات، فضلاً عن الحرب التي شنها النظام على المتمردين المسلحين مطلع الثمانينيات، مما أدخل تونس في حالة من الخوف والتوجس. غير أن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة سيعيد مراجعة سياسته المتشددة.

ينتقل المصباحي بخفة بين السياسي والذاتي، ويملك تلك المرونة في الانتقال من القضايا الشائكة إلى أخرى طريفة، كما يمكنه أن يتحدث في نصه المخصص لرحلة طنجة عن رحلات أخرى إلى السويد والدنمارك وفرنسا، وأن يدخل بالقارئ إلى فندق حسان بالرباط، ليحكي عن طفولته القروية بجنوب تونس، وأن يخلق في نص واحد تداخلاً ثرياً في الشخصيات والأمكنة والأزمنة، في سياق من الاستدعاء والاستطراد، كأنما يريد أن يحكي كل شيء للقارئ، وأن يضعه معه في التماس الزمني الذي يجمع لحظة التفكير في الكتابة بلحظة تحريرها.

طنجة ومحمد شكري

لا يأبه حسونة المصباحي بالمسح الطوبوغرافي للمكان، وبإحداثياته الجغرافية، أو قيمته التاريخية، بل يجعل القارئ يقف عند حالات الارتباط الروحي والوجداني بالأمكنة التي تشكل فضاء التجربة الرحلية. كان الشاعر محمود درويش يقول: "ليس المكان مساحة فحسب، إنه حالة نفسية". ويمكن أن نلمس حالة الانجذاب إلى المكان والنفور منه في حديث حسونة عن الكاتب المغربي الراحل محمد شكري أحد علامات طنجة: "بعد وفاة محمد شكري في الـ15 من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2003، لم أعد أرغب في زيارة طنجة. وحين أفعل ذلك، أشعر كما لو أنها فقدت برحيله خفتها وظرافة روحها، وروعة أجوائها الليلية بالخصوص. لذا أسارع بمغادرتها موجع القلب".

في طنجة المدينة التي وصل إليها المصباحي مراراً عبر الطائرة أو عبر سفن قادمة من إسبانيا، تحافظ المدينة على عالميتها، ولو من باب الذكرى، ويحضر طيف شكري، كما لو أنه البوابة الأولى لمن يرغب في الدخول إلى هذه المدينة من أهل الثقافة والفن. لقد كانت لشكري سطوة كبيرة في طنجة، عززتها صداقاته العالمية مع كتاب وصلوا إليها من أميركا وأوروبا مثل بول بولز وجان جينيه وخوان غويتسولو وتينيسي ويليامز، ودعمتها أيضاً صداقاته مع مهمشي المدينة، وقدرته على الانخراط في حياتها الشعبية بكامل تفاصيلها الليلية والنهارية.

يستعيد المصباحي طنجة القديمة، حين كانت مدينة كوزموبوليتية، يفد إليها مشاهير العالم من أهل الكتابة والموسيقى والتشكيل والسينما، خصوصاً أولئك المنتمين إلى حركات الهيبيزم في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.

رحلة نقدية

يتحسر المصباحي على الأماكن التي اختفت من طنجة، أو تحولت من مراكز للاحتفاء بالحياة إلى أمكنة باردة خالية من كل المباهج ومن أثر الثقافة والفن. يقف الكاتب عند مظاهر التطرف والتشدد الديني الذي استبد بشباب اليوم، وشكل لدى عدد منهم عداوة مع الآخر المقيم في القارة المجاورة. في الآن ذاته ينتقد المصباحي تقديس العرب للماضي، واستمرارهم في التباهي بالأمجاد الغابرة، كما يسائل استيعابهم لمفهوم المقاومة في عصرنا الراهن.

لا يفوت الكاتب أن يمارس مهمته النقدية، وهو يتابع تفاصيل هذا العالم الذي تختلف إيقاعاته باختلاف الأمكنة التي نصل إليها. غير أن إيقاع الحياة الثقافية يبدو متشابهاً في مختلف البلدان، فالثقافة تقع على هامش الحياة العامة، حتى في البلدان المتقدمة، وإن كان الهامش الثقافي هناك أكثر شساعة وجدوى من هوامش الحياة العربية.

في هذا السياق وصف الكاتب التونسي جلسات أحد المؤتمرات الثقافية في السويد بالرتابة والملل، على رغم حضور عضو الأكاديمية السويدية أوستن سوستراند وحامل نوبل في الآداب توماس ترانسترومر. وهي الرتابة التي رأى أنها صارت صفة ملازمة لمعظم المؤتمرات الثقافية. يقول في هذا الصدد: "ساد الملل والكآبة جلسات المؤتمر حتى إن كثراً كانوا يتثاءبون من فرط الضجر تماماً، مثلما يحدث في غالب الندوات الثقافية والأدبية العربية التي تكثر فيها المجاملات، وعليها تهيمن الأجواء الرسمية الثقيلة الخانقة".

استحضر الكاتب حدثاً طريفاً ودالاً هو الذي كسر هذه الرتابة، فقد قام شاب من بين الحاضرين وأفرغ كيساً من أوراق الشجر الصفراء وخاطب المؤتمرين: "ما يحدث في هذه القاعة منذ يوم ونصف اليوم شبيه بهذه الأوراق الميتة. فهل نحن هنا لنحتفي بالشعر أم لحضور حفل جنائزي؟".

بورتريهات لمثقفي المغرب

رسم المصباحي عدداً من البورتريهات لأصدقاء وأسماء تقاسم معها تجارب مختلفة في الحياة، أو شدته إليها على رغم ضيق المساحة الزمنية التي جمعته بها. ويبدو نموذج الشاعر المغربي عبدالكريم الطبال واضحاً في هذا السياق، فقد راعى المصباحي بعد الطبال عن المراكز وزهده في الأضواء وإقامته في مدينته الجبلية الصغيرة والبعيدة، التي شبهها حسونة بـ"عش النسر".

يتحدث الكاتب التونسي عن القاص المغربي إدريس الخوري المفتون بالموسيقى والسينما، والذي كان معروفاً أيضاً بصراحته الصادمة، وقدرته على انتقاد الأسماء والظواهر من دون مهادنة. يصغي المصباحي لإدريس الخوري وهو يتحسر على زمن الستينيات والسبعينيات، حين كان هم المثقفين المغاربة هو التأسيس لثقافة وطنية، قبل أن ينقلبوا في زمن لاحق إلى الصراع حول المكاسب الشخصية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يحضر الروائي المغربي عبدالقادر الشاوي في رحلة المصباحي نموذجاً لتجارب الكتاب العرب الذين قادتهم أفكارهم في زمن سابق إلى الاعتقال السياسي، وينطلق من تجربة الشاوي ليقدم قراءة موسعة في تاريخ اليسار، وليقلب أيضاً صفحات الفكر الشيوعي عبر العالم، محاولاً اختبار المسافة بين الأدب والأيديولوجيا.

يستحضر المصباحي زيارته لعبداللطيف اللعبي في شقته بالرباط، عقب خروجه من السجن، وكيف أجرى معه حواراً في ظروف معقدة. بل نشر مقتطفات من هذا الحوار في كتابه "الرحلة المغربية". كما توقف عند نموذج عبدالله العروي المفكر الذي يؤثر عدم الظهور، إذ يصعب أن تجده في الأماكن العامة، أو في وسائل الإعلام. فهو يشبهه بكانط وهايدغر وهامسن و"بفلاسفة وشعراء يكتفون بعالمهم الداخلي للكتابة والتأمل والتفكير، بعيداً من ضجيج وصخب العالم الخارجي".

كتب المصباحي عن زيارته لخوان غويتسولو في مراكش، خلال مكوثه الإجباري في البيت بعد تعرضه لإصابة بليغة بسبب سقطة على مدارج البيت. ونقل إلى القارئ الأحاسيس التي استبدت بالكاتب من عزلة ومرض وانحباس الكتابة. وكعادته انطلق المصباحي من هاته الزيارة إلى حديث موسع عن تاريخ المدينة وما عرفته من تحولات كبرى منذ زمن يوسف بن تاشفين والمعتمد بن عباد إلى أيامنا الراهنة.

في كتابه "الرحلة المغربية" لم يتوقف حسونة المصباحي عند المدن التي زارها: طنجة والرباط ومراكش والداخلة وأغادير، بل كان يقوم بجولة مزدوجة، في الجغرافيا وفي التاريخ، عبر عدد من مدن العالم التي أتيحت له زيارتها أو العيش فيها. كما أن هذه الرحلة كانت أيضاً جولة في حياة المصباحي، وتعقباً ممتعاً لثقافته وآرائه ومواقفه من الأفكار والوجوه والأمكنة.

 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة