Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بنات ألفة" التونسي المرشح لـ"أوسكار" بين الأكذوبة والحقيقة

كيف حوَّلت الراديكالية الدينية المرأة إلى قنبلة موقوتة خلال "الربيع العربي"

من جو فيلم "بنات ألفة" التونسي (ملف الفيلم)

عرفت كوثر بن هنية منذ بداياتها، كيف توظف قضايا بلادها الحساسة والسجالية في قوالب سينمائية تثير الإعجاب، خصوصاً من طرف الغرب الذي يهوى الاطلاع على أوضاع العالمين الإسلامي والعربي، من وجهة نظر امرأة. وكيف إذا كانت هذه المرأة تقدم نفسها باعتبارها ضحية منظومة سياسية وأبوية وعقائدية وتصور ضحايا مثلها.

في أحدث أعمالها، "بنات ألفة"، الذي عرض في مسابقة مهرجان "كان" الأخير وترشح أخيراً لـ"أوسكار" أفضل وثائقي، تتناول بن هنية مسألة خطرة شكلت مادة لعديد من الأفلام التونسية بدءاً من أواخر العقد الماضي: الراديكالية الدينية وكيف حولت التونسي (ة) إلى قنبلة موقوتة في يد الإرهاب الديني خلال "الربيع العربي". لا يقتصر الفيلم على هذا، لكنه ينبش، من خلال مزج العام بالخاص، في جذور هذه المسألة، موثقاً ومحاججاً، من خلال شخصية تدعى ألفة، تونسية مطلقة في منتصف الأربعينيات من عمرها، أم لأربع بنات، يافعات وجميلات، تولت تربيتهن بمفردها، اثنتان منهن انضمتا إلى تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا وهما مجرد مراهقتين، بعد فترة من الاعتناق لأفكار متطرفة، قبل أن يتم سجنهما. لا تفهم ألفة ماذا حل بها وببناتها، وأين أخطأت، والفيلم يساعدها على الفهم، محاولاً الشرح على طريقته، ليس من دون أن يضعنا في دوامة اجتماعية ودينية وسياسية. 

كان من الممكن اعتبار "بنات ألفة" حلقة إضافية في سلسلة الأعمال التي تطرقت إلى هذا الموضوع، لولا فكرة بن هنية في مقاربة مأساة الأم وبناتها على نحو غير تقليدي تماماً، متفلت من التصنفيات التي نعرفها. ألفة وابنتاها آية وتيسير، هن بطلات فيلم تصوره بن هنية مع الاستعانة بممثلتين (نور قروي وإشراق مطر) تلعبان دور ابنتي ألفة الغائبتين، غفران ورحمة. أما الأم، فتلعب دورها الممثلة التونسية المعروفة هند صبري. يأتي الفيلم حيناً في صيغته الوثائقية (مقابلات كلاسيكية قبالة الكاميرا)، وحيناً آخر يرينا كواليس تصوير الفيلم الذي تتظاهر بن هنية أنها تنجزه ولكنه ليس سوى حجة لسرد حكاية ألفة على نحو مغاير.

ففي كل مرة يعجز فيها الوثائقي عن التعبير يلجأ إلى الروائي، والعكس صحيح. نتيجة هذا الخيار السردي والجمالي، يصبح الفيلم ما هو عليه، لا هو وثائقي ولا هو روائي، بل مزيج من هذا وذاك. لا بل يستمد قوته من التداخل بين الصنفين، ومما يخرج من هذا التداخل من تأثيرات تمارس بقوة، سواء في المشاهد أو في الشخصيات، هذا لا يعني أن "بنات ألفة" خال من أي زيف أو افتعال، بل هما عنصران أساسيان في هذا الفيلم الذي لا يمكن إطلاق كلمة وثائقي عليه، ومع ذلك رشح لـ"أوسكار" عن فئة الوثائقي.

بعيداً من أي محاولة في تصوير الأم كشخصية تقليدية مثل تلك التي تثير الشفقة والتعاطف في وثائقيات عن العالم النامي، يرينا الفيلم الجانب المظلم لألفة. فهي، بقدر ما تبدو ضحية، جلادة أيضاً، ولطالما عاملت بناتها بعنف، مقيدة حريتهن. وهذا كله يأتي من تربيتها والتجربة القاسية التي عاشتها مذ خضعت لزواج مدبر، وصولاً إلى علاقة ربطتها برجل حقير بعد طلاقها من زوجها. صحيح أنها تصدت للرجال، لكن هذا لا يمنعها من اعتبار جسد المرأة ملكاً للرجل. تمردت على وضعها كامرأة، لكنها أعادت إنتاج التربية والإشكاليات نفسها التي كانت ضحيتها. وإذا أضفنا إلى هذا كله، حاجة البنات إلى أب وأم يمدانهن بالحب والحنان، إضافة إلى فقدان كل المرجعيات الأخلاقية في بيئة يسودها الجهل والأفكار المتوراثة، فنحصل على شخصيات تجد متنفسها في الدين، بل في نسخته الأكثر تطرفاً وجهلاً وعداءً للكرامة الإنسانية.

ما يفعله الفيلم من خلال اقتحامه حميمية العائلة، هو افتعال نوع من لعبة مرايا بين الشخصيات المتعددة، وداخل عالم تحكمه النساء وينطقن مشكلاتهن بلسانهن وأجسادهن، بإدراكهن ولا وعيهن. إنها تجربة علاجية نوعاً ما، فكل شخصية لديها تجربتها التي لا تتقاطع بالضرورة مع تجرية شخص آخر. فالممثلة هند صبري نقيض ألفة، أما بن هنية نفسها، فلا يمكن القول عنها إنها شبيهة أي من بنات ألفة من حيث خياراتها الحياتية. كل هذه الأضداد تخلق نقاشاً حيوياً وتحدث سجالاً، فتكشف كثيراً عن المجتمع التونسي التائه بين التقليد والحداثة، بين إرث الدين الثقيل ومفاهيمه وقيمه من جهة، وضرورة تجاوزه من جهة ثانية. غني عن القول إن بعض الأفكار المطروحة مفيدة وبعضها الآخر مكرر ومفتعل أو يحضر فقط لضرورات التصوير، ولكن في الختام، حضور ثلاث ممثلات لتصوير فيلم، يقلب حياة النساء الثلاث رأساً على عقب، إذ يشكل مناسبة لرؤية "ذاتهن" فيهن. أما بن هنية فتسعى إلى عكس صورتهن على المرآة التي تضعها أمامهن. ليس فقط ليعشن ما مضى، بل ليستعدن ما فقد في لحظة عابرة وقاسية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كان لا بد والحال هذه ان يتحول الفيلم إلى تأملات في شغل الممثل وحدوده وقدرته على نقل الواقع بأمانة، وهذا ما يحصل. فآية وتيسير وألفة يحاولن دائماً تصحيح ما قد يكون غير دقيق في طريقة تجسيد الممثلات لشخصيات هي الأقرب إليهن. في أحد المشاهد، يطلب الممثل مجد مستورة (الذي يضطلع بكل الأدوار الرجالية في الفيلم) إيقاف التصوير من المخرجة، بعد شعوره بعدم الارتياح عندما تقوم أي وتيسير بكشف بعض الأسرار العائلية أمام الكاميرا، هذا المشهد يرينا علاقة الممثل بالواقع، وبثنائية المسموح والمرفوض. ولكن، مرة جديدة، لا نعرف أين يبدأ التمثيل في الفيلم وأين ينتهي، وما الحد الفاصل بين الخيال والواقع، مما يزجنا في حيرة وارباك. وهذ النوع من رد الفعل، بقدر ما يعود إلى السينمائي بمردود عال، يدفع المشاهد الواعي إلى طرح تساؤلات حول التلاعب الذي يخضع له. لا تتوقف الأشياء عند هذا الحد، بل هناك أيضاً لعبة انصهار، سواء من جانب ألفة التي تعتقد للحظة أنها بطلة فيلم أو من جانب هند صبري التي تقتنع شيئاً فشيئاً أنها أصبحت ألفة على الرغم من "الجبال" التي بينهما، هذا كله يجعل من الفيلم ترجمة بصرية حادة ومتشعبة لما قاله جان كوكتو: "الفن أكذوبة تقول الحقيقة".

اقرأ المزيد

المزيد من سينما