Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كريم مروة المفكر الإصلاحي توقع باكرا أزمة اليسار العالمي

 دعا إلى الحوار والنقد الذاتي والثورة الثقافية ولم ينفصل عن الهم الجماعي

المفكر اللبناني كريم مروة (صفحة الكاتب - فيسبوك)

قليلة هي الشخصيات الحزبية العربية المنتمية إلى الفكر اليساري التي تركت أثراً أبعد من الوسط الذي تنتمي إليه، بسبب نشاطها الفكري ومزجها بين الممارسة السياسية والفكر.

كريم مروة، المفكر الشيوعي اللبناني العتيق، وابن رجل الدين الشيعي والعائلة المتدينة، الذي بدأ علومه في النجف، هو واحد من تلك الشخصيات. عاد من النجف شيوعياً ليتيح له عمله الحزبي اللاحق، في عز انتشار الأنظمة والأحزاب الشيوعية احتكاكاً أوسع ببيئات متنوعة وتجارب كبرى. من مؤتمر إدانة ستالين في موسكو، إلى انتفاضة المجر ضد السوفيات، فإلى الانتفاضة المماثلة في تشيكوسلوفاكيا، فإلى بدايات ثورة النقابات في بولندا التي مهدت لتغيير طاول المعسكر الاشتراكي ورأسه الاتحاد السوفياتي وانهيارهما معاً.

أذكر جيداً أن بدايات الحراك البولندي في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي هزت قناعات كثر في قيادات الأحزاب الشيوعية، في لبنان ودول أخرى، لكن ذلك الاهتزاز لم يجر التعبير عنه. بقي مضبوطاً تحت سقف مصلحة "المعسكر" الاشتراكي والاتحاد السوفياتي، وكان الحديث عنه "خارج المؤامرة الأميركية" مؤامرة بذاتها. في تلك المرحلة كان مروة بين المسؤولين الحزبيين القلة الذين شجعوا الكتابة النقدية عن المتغيرات الجديدة، ويمكن ببعض الثقة أن أعيد تاريخ تطور شخصية المفكر المتنوع والمنفتح والديمقراطي فيه إلى تلك المرحلة.

قاد كريم مروة ومجموعة من رفاقه أبرزهم جورج حاوي ونديم عبدالصمد وجورج بطل وخليل الدبس وغسان الرفاعي، عملية "لبننة" الحزب الشيوعي الذي استمر منذ تأسيسه وحتى ستينيات القرن الماضي جزءاً من الحزب الشيوعي السوري اللبناني. ومع "اللبننة" تحققت ثورة ثقافية في الحياة اللبنانية، في بلد تمتع دائماً بميزات فريدة، كالحرية والتعددية التي فقدتها سوريا وبقاع عربية أخرى. تطورت الحركة اليسارية اللبنانية مع هؤلاء، وتطوروا معها في تفاعلهم مع الجديد في العالم، ومع انفتاح بلادهم وتنوع ثقافاتها. تحولت بيروت عاصمة للإبداع والعلم والحرية والثقافة، وفيها كان للأفكار الجديدة موقع متقدم، ولولا اندلاع الحرب الأهلية على خلفية الصراع العربي - الإسرائيلي، لأمكننا التنبؤ بمصائر أخرى، للسادة المذكورين، بل ولأجيال من اللبنانيين الذين عاشوا في لبنان، ومن العرب الذين استودعوه حياتهم وآمالهم .

الإنهيار الكارثي

كانت الحرب التي تزامن انتهاؤها رسمياً مع الانهيار الكارثي للاتحاد السوفياتي اختباراً دموياً لأفكار سابقة، ومختبراً تنضج فيه أفكار وتصورات جديدة.

بكر كريم مروة في الحديث عن أزمة حركة التحرر الوطني العربية. فعل ذلك في خضم الحروب اللبنانية المتناسلة، وكان لبنان لديه نموذجاً ونتيجة. وفي السنوات اللاحقة منذ مطلع التسعينيات انقض على التفكير والكتابة. أصدر أكثر من 40 كتاباً في سلسلة متصلة، قال فيها الناقد فيصل دراج: "كل كتاب قائم على غيره وغيره يستضاء به، ما دام أن كريم قصد، ويقصد دائماً، ذاكرة موثقة، ويسائل قضايا لا يكف عن مساءلتها: الحرية والمجتمع المدني والديمقراطية والعقلانية والدين والطائفة، وحركة تحرر عربية غريبة الأقدار، كانت مأزومة ذات مرة ونسيت أزمتها، وائتلفت مع الهزيمة، وصولاً إلى زمن من قش يجاهر العربي والقومي والفلسطيني فيه بسخرية فادحة".

يمكن القول إن الانفصال بين كريم المثقف الحزبي المسؤول وكريم المثقف خارج الإطار التنظيمي المثقل، تم نهائياً وبالتدريج بعد المؤتمر السادس للحزب عام ١٩٩٢. حاول في ذلك المؤتمر، بصفته نائباً لأمينه العام، التوصل إلى صيغ توفيقية تمنع التمزق الحاصل، لكن القناعة بأن التطوير لا يمكن أن يتم استناداً إلى المرجعية الفكرية السائدة، ولا إلى الصيغ التنظيمية المنبثقة عنها، دفعته نهائياً نحو التعمق في البحث عن احتمالات أخرى. بدأت سيرة كريم مروة المفكر المستقل تتبلور بقوة مع اقتراب الألفية الثانية. كان التاريخ بالنسبة إليه مسألة شخصية. في ذلك الوقت بدأ يردد أنه سيكتب وسيعمم تجربته وأفكاره، وكلما سمع بكلمة شيخوخة كان يقول: "ما دمت أعيش فأنا شاب، لا فرق إن كنت في العشرين أو في التسعين".

إنتاج فكري متدفق

ترجم كريم أقواله بـ"إنتاج فكري متدفق". وكما يقول دراج "أوجز مساره، حياة إنسان يتصرف بحياته. لا يدع العمر يتصرف به، محولاً سنواته التسعين (اللاحقة) إلى مجال للتأمل الفكري، تعيد الذاكرة تركيبه بأشكال مختلفة". والذاكرة مليئة إلى أقصى طاقتها. الرجل الذي انتقل من بلدة حاريص الجنوبية إلى النجف، إلى بيروت عاصمة الشرق الأوسط، فإلى موسكو وبكين وواشنطن، مروراً بالقاهرة ودمشق والمغرب وجنوب أفريقيا مانديلا، كان مليئاً إلى حد التخمة، مليئاً بالتجارب والاستنتاجات والأفكار، ثم عاد إلى بيئته ووطنه وعالمه العربي، وبدأ يضخ ما يراه في صيغة أفكار وذكريات، للأحزاب والحركات السياسية، والشباب الباحث عن حلول وحياة أفضل. ولم يقبع في صومعة، ذهب إلى الجميع، أشخاصاً وأمكنة، محاوراً متدفقاً ومستمعاً بحب. قال كريم في نصيحته للأحزاب الشيوعية العربية بضرورة "تعدد المصادر المعرفية إلى جانب الماركسية"، وأبلغ الشباب اللبناني والعربي بضرورة عمل فكري جماعي. غالباً ما كان يحرض عليه ويقوده، أو يسعى إلى أن يكون جزءاً منه. نجح قليلاً، لكنه أثار ويثير، من دون شك، فضولاً طبيعياً لدى من سيتعرفون اليوم وغداً إلى نتاجه وتجربته.

حتى اللحظة الأخيرة من حياته، وكان يحدثني عن خمسة إصدارات جديدة يعد لها، ويناقش ما إذا كان نشرها إلكترونياً أفضل من طباعتها ورقياً، كان مروة يتابع إيمانه بالحوار. والحوار الذي يقصده ما هو إلا "ترهين" لأفكار تقادمت، اشتراكية كانت أم قومية أو إسلامية، معتبراً دوماً أن ما لا يتجدد يهلك. في كتبه امتزجت الذاكرة بالعبرة والاستنتاج. وفي العالم العربي لم تكن ذاكرة كريم واستنتاجاته شأناً خاصاً. اليسار العربي، بل شخصيات من عوالم مختلفة كانت تريد سماعه. ترافقنا في المغرب إلى لقاءات مع قادة الأحزاب كافة، الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والتقدم والاشتراكية وكان كريم "ملكاً" فكرياً في دعوته للحوار والتوافق، ضمانة لبناء الأوطان. في السودان كانت أفكاره حول تعدد المصادر الفكرية للحزب الشيوعي مدار نقاش في المؤتمر الخامس للحزب (٢٠٠٩)، وفي بغداد كان محاوروه يتنوعون بين عزيز محمد وجلال طالباني وجماعة النجف .

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في القاهرة، لدى وصولنا يوماً إليها، استل كريم دفتراً صغيراً من جيبه، كانت فيه أرقام هواتف أبرز الشخصيات الثقافية والسياسية في مصر، وبعد دقائق كان لقاء جامع ينعقد في النادي اليوناني، تلاه عبور إلى مكتبة مدبولي لمعرفة سير القراءة في القطر المصري .

اهتم كريم الفخور بتجربته الطويلة في الحركة الشيوعية بمتابعة ما يجري في العالم العربي والعالم. قال رأيه بتجربة الإسلام السياسي، وراقب بحماسة، التغيير الحاصل في السعودية، وحرص على إعادة تقديم الرواد في الإصلاح العربي. وفي كل مسيرته كان همه الأساس خلاص لبنان. في نهاية عمره كان يرى هذا الخلاص حتمياً، بعد رفضه القاطع تجربة الهيمنة السورية والإيرانية، وقبلهما نضاله ضد الاحتلال الإسرائيلي. هكذا مثلاً كتب عن "الشخصية اللبنانية"، فقد رأى كريم بعد تجاربه "بين قرنين"، أن هناك أساساً للبنان في شخصية أبنائه، في وقت تكاثرت فيه النظريات العدمية التي تلغي وطناً وكياناً. وقد أعاد إحياء تلك الشخصية في رموزها وترك للأجيال القراءة واستخلاص العبر.

من "حوارات" (١٩٩٠) إلى "الوطن الصعب والدولة المستحيلة" (١٩٩٥) إلى "حوار الأيديولوجيات" (١٩٩٧)... إلى الذكريات وفصول الحياة الخاصة، مزج كريم بين حياته اليومية الغنية واستنتاجات في النظرية والفكر، وغاب واقفاً يقول انتظروا إصداراتي وصوتي.

هو كان يقول ولا ينتظر، كثير من رفاقه وأصدقائه أشركهم في نصوصه شهوداً وآراء، أما الجمهور الأوسط من المعارف والأصدقاء فكانوا في مرماه دائماً. يتصل لحثهم على القراءة وقول رأيهم، أو أقله للاطمئنان إلى يوميات حياتهم .

كريم الكريم في حياته الغنية سيولد في غيابه فراغاً، يصعب ملأه إلا بالعودة إلى نتاجاته... وذكره الطيب.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة