Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يسقط جيرار دوبارديو "وحش" الشاشة الفرنسية؟

قضية الممثل الكبير في تفاصيلها... "تصرفتُ كطفل يريد لفت النظر لكني لستُ مغتصباً ولا مفترساً"

جيرار دوبارديو سجيناً في فيلم "دانتون" أحد أبطال الثورة الفرنسية (ملف الفيلم)

منذ أكثر من شهر، تشرق الشمس في فرنسا وتغيب على ما بات يُعرف بـ"قضية" جيرار دوبارديو التي تهز الوسط السينمائي وتثير الكثير من الجدال، وينقسم حولها الرأي العام. ولا بد من استعادة تفاصيل هذا الملف القضائي والأخلاقي لفهم ماهية هذه القضية التي تطاول جيرار دوبارديو (75 سنة)، أكبر ممثّل فرنسي حيّ والأشهر خارج حدود بلاده، الحاضر في المشهد السينمائي منذ 50 سنة، جسّد خلالها شخصيات بارزة مثل سيرانو دو برجوراك ودانتون وجان دو فلوريت وأوغوست رودان وكريستوف كولومبوس ومونتي كريستو وغيرها، وله في سجلّه 20 فيلماً (من أصل نحو 200) حقّق كل منها أكثر من 3 ملايين مشاهد في شباك التذاكر الفرنسي. ولا يمكن الحديث عن أسطورة دوبارديو من دون التذكير بصداقته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونيله الجنسية الروسية، وذلك بعدما لعب دور "راسبوتين" في فيلم تلفزيوني لجوزيه دايان، إضافة إلى تغيير مكان إقامته من فرنسا إلى بلجيكا في عام 2012، الأمر الذي أحدث جدالاً سياسياً واسعاً وضجة إعلامية، إذ إنه اعتُبِر حيلة للهروب من الضرائب، مما جعل دوبارديو يهدد بالتخلي عن جوازه الفرنسي.

بدأت "قضية دوبارديو" الحالية في أغسطس (آب) عام 2018، عندما ادّعت ممثّلة شابة باسم شارلوت أرنو (22 سنة حينذاك) على دوبارديو، متهمةً إياه بالتحرش بها جنسياً واغتصابها مرتين (في 7 و13 أغسطس) داخل منزله الباريسي في الدائرة السادسة من باريس، علماً أنها ابنة صديق له. بعد مرور عشرة أشهر على الشكوى، لم تجد النيابة العامة أدلة كافية فحفظت الشكوى ولم تقم بالادعاء. ولكن بعد تسعة أشهر أخرى ادّعت أرنو مجدداً، مما أدى إلى فتح تحقيق نتجت منه "دلائل خطرة" وفق ما جاء في التقرير. التحقيق مستمر إلى يومنا هذا، أي بعد أكثر من ثلاث سنوات على انطلاقه، لكن دوبارديو ينكر كل الادعاءات، قائلاً إن العلاقة بينهما كانت رضائية. شهدت القضية مواجهة بين المدعية والمدعى عليه في يونيو (حزيران) العام الماضي.

13 امراة

لكن القضية تفاقمت عندما نشر موقع جريدة "مديابارت" المستقل في أبريل ( نيسان) من العام الماضي، تحقيقاً أجراه على مدار أشهر عدة وفيه شهادات لـ13 سيدة يتهمن الممثّل بأشكال مختلفة من التحرش الجنسي، حدثت في مواقع تصوير 11 فيلماً عُرضت بين 2004 و2022. ويظهر التحقيق تواطؤ أو تسامح كثيرين وكثيرات مع أساليب الممثّل في التعاطي مع النساء، إضافة إلى لامبالاتهم تجاه سلوكياته ومفرداته التي كانت تُعتبر "مقبولة" في السبعينيات والثمانينيات الماضية، الفترة التي ذاع فيها صيته، ولكن ما عاد ممكناً التسامح معها وصرف النظر عنها اليوم، في زمن حركة "مي تو".

أعقب هذا التحقيق تحقيق آخر من ست حلقات نُشر في جريدة فرنسا الأولى، "لو موند"، أجراه رافايل باكيه وصامويل بلومنفلد، لكن على شكل سيرة فيها الطالح والصالح ويحمل أسلوباً سردياً مشوقاً مع اطّلاع على أدق التفاصيل. وجاء في مقدمة التحقيق: "أجرت "لو موند" تحقيقاً عن مسيرة الممثّل وشخصيته. سلوكياته مع النساء، التي تسامح معها الوسط السينمائي لفترة طويلة، وباتت اليوم محل اتهامات خطرة وعزل شامل أكثر فأكثر. أفلامه الجديدة باتت نادرة، وبعض العروض يتعرض للإلغاء".

هذا كله دفع دوبارديو، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى نشر رسالة مفتوحة في جريدة "لو فيغارو" عنوانها "أخيراً، سأكشف لكم حقيقتي، لستُ مغتصباً ولا مفترساً"، وكان هذا آخر تصريح له حتى اليوم في هذه القضية.

كتب في الرسالة: "هذا كله يمسّني في الصميم، لا بل يقضي عليّ. ما عدتُ قادراً على غناء أغاني باربارا (مغنية فرنسية راحلة كانت مقربة منه واستعاد أغانيها)، لأن امرأة كانت تريد أن تغني أغانيها اتهمتني باغتصابها. لم أستغل امرأة في حياتي. الإساءة لامرأة أشبه بضرب أمي على بطنها. جاءتني امرأة وصعدت إلى غرفتي بملء إرادتها، ثم عادت مرة ثانية، وهي تقول اليوم بأنها اغتُصِبت. كانت تريد أن تغنّي أغاني باربارا برفقتي، لكني رفضتُ، فتقدّمت بشكوى. لم يكن بيننا لا إكراه ولا عنف ولا اعتراض. وإذا كانت تحت تأثير ما، فكانت بالأحرى تحت تأثير نفسها، لم تكن تحت تأثيري أنا. طوال حياتي، كنت مستفزاً، مفعماً بالحياة، أحياناً سوقياً. إذا جرحت أياً كان، وأنا أعيش الحاضر إلى أقصى حد، فأنا لم أفكّر البتة في الإساءة لأحد، وأطلب إليكم أن تسامحوني لأنني تصرفتُ كطفل يريد لفت النظر. لكني لستُ مغتصباً ولا مفترساً. أن نرى متطرفين يرفعون لافتات في حفلاتي الموسيقية وهم يغنون أغاني باربارا، هذه المرأة النسوية بجد، فهذا أشبه بدفنها من جديد. ما عدتُ قادراً على إيصال صوتها. لا أملك إلا صوتي لمواجهة المحاكمات الإعلامية والقتل المتعمد الذي أتعرض له".

"سقوط الغول"

لم يكن دوبارديو يعلم أن هذه المواد المصوّرة الخام التي بلغ طولها 18 ساعة سيتم تسريبها لتظهر في برنامج تلفزيوني، فهي عادةً تبقى في أدراج شركة الإنتاج. لكنّ المتربصين به كثر ولا يمانعون في اصطياد أي كلمة لإدانته عبرها وربطها مع الاتهامات الموجهة له. أما الفيلم نفسه الذي صُوِّر في كوريا الشمالية ومرت عليه خمس سنوات، فيقول مخرجه يان مواكس إنه قرر ألا يعرضه لأنه "لم يكن صائباً سياسياً وكل جملة فيه تحمل في داخلها دعوى قضائية، وهكذا تسير الأمور على مدار ساعتين ونصف الساعة"، خصوصاً أن العديد من النكات التي يطلقها دوبارديو في الفيلم والتي ما عادت تتناسب مع "أخلاقيات" العصر، تداخلت مع الاتهامات التي طاولته، ممّا جعل عرض الفيلم إهانة في حق الضحايا، كما صرّح مواكس.

لكن مواكس دان أيضاً الطريقة غير الأخلاقية التي تم فيها استخدام هذه المواد المصورة، مصرحاً لأحد المواقع: "دوبارديو يواجه معركة. إنه مصدوم من سرقة هذه اللقطات كي تخدم سياقات غير تلك التي كانت تهدف إليها. لم أكن لأتخيل يوماً أنهم سيبحثون في سلّة مهملات غرفة المونتاج لجمع كل ما رميته. الأمر أشبه أن تسرق مخطوطة كتاب كي تنتزع منها الجمل المحذوفة وتنشرها في كتاب يحمل توقيع كاتب آخر".

مواكس أكّد أيضاً أن هذه المشاهد لا تمثّل سلوك دوبارديو في كوريا الشمالية، فهو "كان متعاطفاً مع مصير النساء الكوريات في الكثير من الأحيان". أما عائلة دوبارديو فلم تخفِ امتعاضها من "فبركة وتلاعب من خلال المونتاج"، معتبرةً أن ثمة تفاوتاً بين الصوت والصورة.

ثروة وطنية

بثُّ البرنامج أحدث عاصفة من الردود وضجّة غير مسبوقة في وسائل الإعلام وعلى وسائط التواصل الاجتماعي. فدوبارديو، صاحب الـ200 دور وأكثر، ثروة وطنية في فرنسا يصعب التفكير في الإفراط بها. لكن، في المقابل، يصعب أيضاً صرف النظر كلياً عن سلوكياته. وسط هذه الأجواء، دعا كثر إلى عدم تعليق المشانق في الساحات الافتراضية، فعلى القضاء أن يقوم بمهامه، والمتهم بريء حتى إثبات العكس. وبناءً على هذا، وقّع نحو 60 فناناً، من بينهم مقربون من دوبارديو، على عريضة تدين الإعدام بلا محاكمة، الذي يتعرض له النجم. ومن الموقعين على العريضة التي نشرتها صحيفة "لو فيغارو"، نجد المخرج برتران بلييه الذي أطلق فعلياً دوبارديو في عام 1974 مع فيلمه الشهير "الخصيتان"، والممثّلات ناتالي باي وكارول بوكيه وشارلوت رامبلينغ وفيكتوريا أبريل، والممثّلين جاك فيبير وبيار ريشار وجيرار دارمون والمغنّون روبرتو ألانيا وكارلا بروني وأرييل دومبال وجاك دوترون.

أما العريضة، فهذا بعض ممّا جاء فيها: "دوبارديو هو على الأرجح أكبر الممثّلين. ما عاد جائزاً السكوت في مواجهة القتل المتعمّد الذي يتعرض له وفي مواجهة الكراهية التي تنهال عليه (…). عندما نهاجم دوبارديو إنما نهاجم الفنّ، فهو بعبقريته شارك في التألّق الفنّي لبلادنا. مهما حدث، لا أحد يستطيع أن يلغي أثر عمله الذي لا يُلغى، أما ما عدا ذلك، فلا يخص سوى القضاء والعدالة".

ولكن بعد تعرض العريضة إلى استهزاء وهجوم عنيف حتى من جانب بعض السياسيين، أخذ بعض الموقعين عليها مسافتهم منها. وتحت الضغط الشعبي والغضب العارم، تبرأ كثر من العريضة وسحبوا أسماءهم منها، خصوصاً بعدما اكتشفوا أن المبادر لها (يانيس الزيادي) شخص يعتنق أفكاراً يمينية متطرفة. في حرب العرائض هذه، نُشرت عرائض عدة مضادة، إحداها جمعت تواقيع نحو 8000 شخصية، جلّهم فنانون وفنانات لم تطلهم الشهرة بعد، تطالب بـ"عدم التعامل باستخفاف مع كلام جيرار دوبارديو وأفعاله".

عديدات هن النساء اللواتي دافعن عن دوبارديو في أزمته هذه، من بينهن: فاني آردان، كاترين دونوف، ناتالي باي، وهن من اللواتي تشاركن معه بطولة أفلام عدة. أما الممثّلة كارول بوكيه التي عاشت علاقة غرامية مع دوبارديو طوال عقد من الزمن، فقالت إن لديها مشكلة كبيرة مع ما يحدث له حالياً، فهي تدعم حقّ المرأة في قول ما تتعرض له، لكن "هذه المحاكمة الإعلامية التي تستمر منذ أشهر ما هي إلا عملية إعدام رجل". في المقابل، هناك من اللواتي سبق أن عملن مع دوبارديو، مَن كان لهن رأيٌ آخر. صوفي مارسو التي تشاركت معه بطولة "بوليس" لموريس بيالا، قالت إن دوبارديو لم يتعرض يوماً للممثّلات الكبيرات بل للمساعدات. وأضافت: "السوقية والاستفزاز هما عدة شغله".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذه الاتهامات كلها أدّت إلى إزالة تمثال الشمع المخصص لشخصه في متحف غريفان الباريسي. وجاء قرار إزالته "بعد تسجيل ردود أفعال سلبية لعدد من الزوار خلال مرورهم أمامه"، بحسب إدارة المتحف. أما المدينة البلجيكية الواقعة على الحدود الفرنسية التي كان أقام فيها الممثّل بدءاً من 2012 احتجاجاً على زيادة نسبة الضرائب، فقررت سحب لقب "المواطن الفخري" منه، وقامت مقاطعة كيبيك الكندية بتجريده من أعلى وسام منح إياه. في حين أعلنت وزيرة الثقافة الفرنسية ريما عبد الملك، أن "إجراءً تأديبياً" سيتم اتخاذه في شأن وسام جوقة الشرف الممنوح له سابقاً، الأمر الذي عارضه بشدة الرئيس إيمانويل ماكرون في حوار تلفزيوني مبدياً "إعجاباً كبيراً بدوبارديو"، وواصفاً إياه بـ"الممثّل العظيم الذي أسهم في الشهرة العالمية لفرنسا وهو مصدر فخر لنا"، مؤكداً أنه يحق لدوبارديو أن يتمتّع بقرينة البراءة، ومشكّكاً بصدقية حلقة "سقوط الغول"، قبل أن يختم بأن وسام جوقة الشرف لا علاقة له بالأخلاق، ولا يمكن سحبه من فنّان بناءً على ريبورتاج تلفزيوني. أقل ما يُقال إن تصريحات ماكرون لم تحظَ بشعبية بل جوبهت برفض شديد، واستخدمها معارضوه لتسديد أهداف سياسية في مرماه.

اليوم، تحاول السينما الفرنسية أن تحذو حذو السينما الأميركية في مسألة مكافحة العنف الجنسي والانحياز الجندري والممارسات غير الأخلاقية لأصحاب السلطة والنفوذ. وهي وجدت في دوبارديو "الفريسة" المثالية، وليس مستبعداً أن يتم التضحية به على مذبح العالم الجديد الذي يولد من رحم القديم. وأقل ما يمكن القول إن "جسم دوبارديو لبيس"! لكن، شتّان بين محاسبة إنسان على أفعاله الجرمية وإلغاء أعماله الفنية، والإلغاء هو ما يطالب به البعض ويخشى منه البعض الآخر. فهناك في حظر أعماله، إذا تحقق، احتقار لحرية التعبير التي حارب الغرب لنيلها، ويبدو أن أحفاد الذين حاربوا من أجلها يتعاملون معها بخفّة. استبعاد أفلام دوبارديو من التلفزيونات الفرنسية قبل عدة أشهر (والتلفزيون السويسري أخيراً) بقرار إداري، يغرق بلد الأنوار في ظلمات الرقابة، خصوصاً أن هذه الأفلام شارك فيها وعمل عليها مئات، سواء أمام الكاميرا أو خلفها، وهي ليست مكتوبة باسم دوبارديو. ثم، ماذا عن مبدأ فصل الفنّان عن نتاجه الفنّي كما دعا إليه كثيرون؟ كم عدد الفنّانين الذين سيتوجب انتزاع لوحاتهم من جدران المتاحف وسحق كتبهم من المكتبات وحظر أغانيهم على الراديو، إذا تم اعتماد الوازع الأخلاقي لتقييمهم؟ أسئلة تثير الإجابة عليها ردوداً عنيفة من الجهتين، المؤيدة والمعارضة. قد يحاكَم دوبارديو الإنسان ويسقط أخلاقياً في نظر كثر، لكن تاريخ دوبارديو الفنّان يستحيل إسقاطه، فهو محصّن بذاكرة المشاهدين. هذا كله، في انتظار معرفة الحقيقة الكاملة في قضية يتداخل فيها الفن بالأخلاق، في زمن يفرض شروطه الجديدة للاستمرار.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما