Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السعودية بين "التحوط" واغتنام الفرص في ظل توتر المنطقة

التهديدات الجيوسياسية تزيد من تحديات مقاربة الرياض الإقليمية لكن حراك البلاد السياسي وتوقعاتها التنموية للعام الجديد تظهران إصراراً على مستهدفات 2030

الرياض مستمرة في المضي بخطتها التنموية، ويبدو مشهد من احتفالاتها باليوم الوطني  (واس)

سألت دبلوماسياً غربياً بعد أسابيع من اندلاع الصراع في الشرق الأوسط، عن كيف سيؤثر على السعودية وهي تبدو منخرطة في الأزمة بكل ثقلها الدبلوماسي والسياسي؟ فقال "لا يظهر أنها ستوقف أياً من خططها التنموية، إنما بعض الصفقات السياسية قد تتأجل أو تصبح بأثمان أكبر".

عندما فاجأت الحرب العالم، كانت المؤشرات جميعها واعدة في السعودية، لكن لوهلة بدا أن نظرية "خفض التصعيد" والتهدئة التي روجت لها الرياض وبنت عليها كثيراً من وعودها التنموية للإقليم وبلادها، تصاب بانتكاسة بالغة. "إنه الشرق الأوسط، تنام قريراً وتصبح في جهنم"، كما قال الكاتب الأميركي المخضرم توماس فريدمان، وهو يحاول، أخيراً، إيقاظ صديقته إسرائيل من سكرة الانتقام، مع تزايد تكلفته المدنية إثر مخاوف ارتداد آثار ذلك على تل أبيب، على المدى القريب والأبعد.

لكن بالنسبة إلى السعوديين، فإنهم وطنوا أنفسهم على تلك النيران، إذ كانت خطتهم التنموية 2030 كتبت فصولها، على وقع شظايا الصواريخ والمسيرات الإيرانية التي أمطر الحوثيون مدن المملكة بنحو 1300 منها، في حرب لم تزل هدنتها هشة، على الرغم من صفقة بكين مع الرياض وطهران، مارس (آذار) الماضي.

وعود سياسة "التحوط" وتحدياتها

ويرى الباحث في مجلة "غلوبال بوليسي" بول إسبر أن السعودية إذ تعمل جاهدة على تجنيب اقتصادها وحراكها التنموي آثار الصراعات في المنطقة، وتوظيف ثقلها في إطفاء حرائقها إن كان في اليمن وأوكرانيا والسودان وسوريا، والآن في فلسطين؛ تقوم بمهمة سمتها "التحوط"، لا سيما في ظل الاستقطاب الدولي المتصاعد.

ويقول "عندما يتعلق الأمر بهندسة الجغرافيا السياسية الإقليمية بطريقة مفيدة لتحقيق رؤية 2030، فإن السعودية تقوم بالتحوط في كلا الاتجاهين، فهي تسعى إلى تنفيذ مبادرات استراتيجية متناقضة من أجل تقليل المخاطر. المؤشرات الرئيسة هي: التعزيز العسكري في غياب عدو معلن، وزيادة المشاركة في التعاونات الثنائية والمتعددة الأطراف، وتكتيك تحسين العلاقة مع القوى الإقليمية أو الدولية"، مؤكداً من وجهة نظره أن تعاملها مع الصراع في غزة، يوضح ذلك.

ويعتبر أن السعودية "إذا استطاعت الخروج من الحرب الحالية في غزة كصانعة للسلام ومدافعة عن فلسطين، فإن مكانتها الإقليمية سوف تتعزز بشكل أكبر على حساب منافسيها، لكن هل ستكون هذه المكاسب المحتملة أكثر قيمة مما يمكن أن تكسبه من الولايات المتحدة (الاتفاقيات الأمنية والتنمية) وإسرائيل (التكنولوجيا)؟"، فيما يعتقد أنها "في الوقت الحالي، تواصل التحوط في رهاناتها".

وكان إصرار الرياض على تنظيم مناسباتها الرئيسة حتى بعد اندلاع التوتر في المنطقة، مثل "مبادرة مستقبل الاستثمار"، التي أقيمت نسختها السابعة في موعدها في 24 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أحد المؤشرات إلى نهج البلاد، في المضي قدماً في برامجها التنموية والإقليمية، من دون السماح للحرائق الإقليمية والدولية بإجهاضها أو حتى كبح جماح خطوها نحو مستهدفات 2030م.

التأثير في الأحداث أم انتظارها كي تمر؟

وحينها قال المدير التنفيذي للمبادرة ريتشارد آتياس، "الأحداث المروعة في المنطقة توضح سبب أهمية اجتماع القادة وصانعي السياسات معاً لمعالجة القضايا العالمية التي تواجه الإنسانية"، فهو يرى عكس دعوات الانتظار والتأجيل، بل "استخدام قدرتنا على جمع القادة والمستثمرين والمبتكرين والمفكرين من العالم لتحديد حلول فعالة لهذه القضايا".

وهكذا كانت المناسبة الدولية الضخمة التي يطلق عليها الإعلام الأجنبي "دافوس الصحراء"، بدلاً من إلغائها، تحولت إلى منصة تضفي مزيداً من الزخم على جهود العرب وأصدقائهم، المحذرة من مخاطر العدوان الإسرائيلي على غزة، وآثاره الاقتصادية والجيوسياسية على عالم، لم يتعاف بعد من آثار كورونا، ولا يزال يكافح تأثيرات حرب أوكرانيا الطاحنة على سلاسل الإمداد والغذاء.

القمة العربية– الأفريقية، التي أجلت باتفاق الطرفين، لم تدفع هي الأخرى الرياض إلى الاستسلام لظروف تفجر الصراع، بل أقامت بدلاً منها قمة سعودية- أفريقية، حشدت موقفاً دولياً ضاغطاً على إسرائيل وحلفائها، فكانت هي والإسلامية الاستثنائية التي تبعتها مباشرة، صوتاً دولياً مسموعاً، حتى وإن لم تستجب إسرائيل لنداءاتها، فضلاً عن بقية أهدافها السياسية والاستراتيجية، لمجموعة الاتحاد الأفريقي الواعدة والمملكة، التي أعلنت ما يشبه "مارشال سعودي" لتنمية القارة السمراء والاستثمار في فرصها المثيرة لاهتمام العالم.

ووفقاً للمفكر اللبناني رضوان السيد، فإن "أكثر من نصف دول العالم اجتمعت في المملكة خلال يومين. وعندما مضت الدول العربية إلى الهيئة العامة للأمم المتحدة، صوت ثلثا الأعضاء وأكثر لصالح وقف النار، وإدانة العدوان على المدنيين. وزار غربيون وأميركيون بعضهم من أشد الداعمين لإسرائيل المملكة للتشاور في إمكان دعم مبادرتها وتأثير مواقفها على علاقات الرياض بها"، في موقف يراه رضوان، يشكل "تحدياً لسياسات العدوان والاحتلال، وفرصة لبلوغ السلام من طريق حل الدولتين، الذي صارت عشرات الدول الأوروبية وغير الأوروبية تدعمه".

"إكسبو" استفتاء على المقاربة

وشكل اختيار 119 دولة في العالم العاصمة السعودية الرياض لإقامة "إكسبو 2030" بعد منافسة ضارية مع روما الإيطالية وبوزان الكورية، خطوة لافتة في الظرف الدولي والإقليمي الحرج، رأتها صحف أجنبية، تعكس تنامي نفوذ الرياض الدولي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 فيما اعتبرها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان "فرصة رائعة نشارك العالم خلالها الدروس المستفادة من رحلة التحول غير المسبوقة، إذ تتزامن استضافة المعرض مع عام تتويج مستهدفات وخطط رؤية السعودية 2030".

وجاء التصويت بعد إنجاز آخر لا يقل أهمية، فازت فيه البلاد بتنظيم كأس العالم 2034 بعد إقرار منافستها الأشد على الاستضافة أستراليا بأنها لا تستطيع مجاراة عرضها، قائلة على لسان رئيسها التنفيذي لاتحاد كرة القدم جيمس جونسون "علينا أن نتحلى بالواقعية، هذا أمر يصعب التنافس معه".

الرهانات المضادة

إلا أن هذا النوع من المقاربة، ليس خالياً من المخاطرة، فإضافة إلى القدر الهائل من النفقات، الذي يفرض على البلاد الاستعداد له، هو كذلك سيزيد من شراسة المنافسين أو المخربين الذين يزعجهم تزايد فرص نجاح النموذج الذي تسوق له الرياض، في مقابل الآخر الإيراني الذي يعدون به المنطقة، عبر توسيع نطاق الصراع.

وتشير وكالة "بلومبيرغ" في هذا الصدد، إلى أن السعوديين وحلفاءهم العرب "لا يزالون يخشون احتمال حدوث هذا الأمر في حال مضت إسرائيل قدماً في حملتها العسكرية الرامية للقضاء على حماس"، بينما تركز دول الخليج على التوصل إلى وقف إطلاق النار، ثم المضي مباشرة نحو مفاوضات أوسع لحل الصراع بشكل نهائي في إطار "حل الدولتين".

ويقول الزميل في مركز "تشاتام هاوس للأبحاث" ريناد منصور، إن ما "يعقد مهمة السعودية هو حقيقة أن القضية الفلسطينية أصبحت أداة أيديولوجية أكثر أهمية لإيران وحلفائها على خلفية إخفاقاتهم الاقتصادية وتصاعد الغضب الشعبي في المنطقة" تجاه الحرب في غزة.

ما يخسر المنافسون من التصعيد

غير أن المصالح الإيرانية من التهدئة في المنطقة والوفاق مع الرياض بعد بضع سنين من الصراع وآثاره الاقتصادية والاستراتيجية المرتقبة، أمور قد تدفع بطهران إلى تفضيل إبقاء التوتر في حد يمكن السيطرة عليه، خصوصاً بعد المحادثات اللافتة بين ولي العهد السعودي والرئيس الإيراني على هامش القمة الإسلامية في الرياض، والحديث عن عزم أميركي هذه المرة على أن أي تصعيد كبير، سيكون ثمنه رداً موجعاً في داخل إيران وليس فقط ضد أذرعها في المنطقة.

في غضون ذلك يرجح منصور أن "وكلاء إيران يتعين عليهم شن هجمات لإظهار التضامن مع حماس، لكنهم ربما لن يصلوا إلى حد تجاوز الخط الذي قد يؤدي إلى حرب شاملة"، مضيفاً أن "إيران مترددة في المخاطرة بتوريط حزب الله أو إثارة رد فعل عسكري أميركي عنيف".

في هذه الظروف بالغة التعقيد، تجد السعودية نفسها في موقف صعب، في نهاية عام واعد، سجل فيه اقتصادها النمو الأعلى بين مجموعة الـ20 بواقع 8.7، لكن في الوقت نفسه، يلاحظ المحللون الدوليون أن المملكة المحورية في الإقليم، اجترحت لنفسها خطاً سياسياً جديداً أقل محافظة، يتسم باقتناص الفرص وسط الأزمات الدولية وتناقضات العالم متعدد الأقطاب، ومد جسور التقارب مع الفرقاء في وقت واحد، مثل الصين وروسيا وأميركا والهند والاتحاد الأوروبي، ومجموعة الـ20، وبريكس، وشنغهاي، وآسيان.

وكانت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السعودية أخيراً، بعد أيام من إجراء ولي العهد اتصالاً هاتفياً بالرئيس الأوكراني، خطوة أخرى في سياق المقاربة التي تعتمدها الرياض، في البحث عن مواطن التأثير الممكنة في الخريطة الدولية المتصدعة، وسط حديث الطرفين السعودي والروسي بأن علاقتهما مهمة، نظير "الفرص الحاضرة والمستقبلية الكبيرة التي توفرها وتحتم علينا العمل معاً لمصالح شعوبنا والمنطقة والعالم".

البحث عن أفضل ما في العالمين

ويعتبر ثلاثة من خبراء "كارنيغي للأبحاث" أن المعادلة التي يريد السعوديون إرساءها، في النظام العالمي الجديد الناشئ، تتلخص في أنها "مثل عديد من القوى الناشئة، تأمل أن تتمكن من الحصول على أفضل ما في العالمين: فوائد الشراكة الأمنية الأميركية مع تعزيز العلاقات مع خصوم الولايات المتحدة".

ويتوقعون أن تسعى القيادة في البلاد إلى "تقسيم الشراكات، بأن تعمل مع الولايات المتحدة كشريك أمني استراتيجي أساسي للمملكة، وتظل الصين شريكاً مهماً للغاية للتجارة والتعاون التكنولوجي وإدارة العلاقات مع إيران"، مشيرين إلى أن صعوبة الجمع بين الطرفين المتناقضين، بالنظر إلى التحفظات الأميركية على التوسع في الشراكة مع الجانب الصيني، تجعلنا "يتعين علينا أن نرى ما إذا كان هذا الإطار الجديد للشراكة ممكناً"، بين واشنطن والرياض.

أما الباحثة أليس جاور من مركز "تنك للبحوث والاستشارات"، فتؤكد أن المنافسة المتزايدة بين واشنطن وبكين، تزيد من فرص القوى المتوسطة إلى السعي، نحو "إيجاد أرضية وسطى ليس عليهم أن يقفوا حصرياً فيها إلى جانب أي من القوتين، فهم يميلون نحو عالم متعدد الأقطاب، يمكنهم من الحفاظ على استقلالهم الاستراتيجي، ويبحثون عن أساليب بديلة للتعاون خارج الإطار المتعدد الأطراف" مثل المنظمات الدولية الكبرى، التي لاحظت الباحثة أن قوى عدة صارت، تفضل تعزيز التعاون الثنائي والإقليمي لتجاوز تعقيداته، وتراجع كفاءته.

لم ينته 2023 كما بدأ، ولذلك من يدري، قد يكون تفاعل الرياض المتزايد مع التطورات الإقليمية والدولية الراهنة، قد يجعلها تفضي إلى نتائج إيجابية في 2024، تمكن البلاد من المحافظة على صعود نجمها السياسي والاقتصادي، وسط إقليمي مضطرب، لا تنتهي مفاجآته.

 ولا أدل على توقع المملكة الفتية ذلك من إقرارها موازنة تريليونية طموحة، قال وزير المالية في البلاد محمد الجدعان، إنها تعود إلى إشارة "التقديـرات الأولية إلى نمـو الناتـج المحلـي الإجمالي الحقيقـي بنسـبة 4.4 في المئة عام 2024م، مدعوماً بنمـو الناتـج المحلـي للأنشطة غيـر النفطيـة فـي ظـل توقـع استمرار القطـاع الخـاص فـي قيـادة النمـو، والمسـاهمة فـي زيـادة الوظائـف فـي سـوق العمـل، وتحســن الميــزان التجــاري للمملكــة".

 وبلغت نفقات الموازنة المتوقعة 1.25 تريليون ريال، بما يعادل 333.5 مليار دولار، شكل العجز المقدر فيها، نحو اثنين في المئة فقط.

المزيد من تقارير