ملخص
المرشح الليبرالي المتطرف والخبير الاقتصادي ذو الأفكار الراديكالية والجريئة كان قد فاز في الجولة الثالثة والأخيرة من جولات الاقتراع
تحولت "ساحة إسبانيا" Plaza España في مدينة قرطبة وسط الأرجنتين، إلى سيمفونية فوضوية اختلطت فيها أصوات أبواق السيارات مع مفرقعات قصاصات الورق الاحتفالية التي أمطرت آلاف القطع التي تحمل صورة الرئيس المنتخب خافيير ميلي. وبحلول التاسعة مساءً، تجمع آلاف الأشخاص بالقرب من "ساحة الدكتور دالماسيو فيليز سارسفيلد" Plaza Dr Dalmacio Velez Sarsfield ملوحين بالأعلام ومطلقين أصوات الأبواق الهوائية، وهم يرددون أغاني عن الحرية وعن نائبة الرئيس المدانة كريستينا فرنانديز دو كيرشنر، التي تواجه السجن.
المرشح الليبرالي المتطرف والخبير الاقتصادي ذو الأفكار الراديكالية والجريئة، البالغ من العمر 53 سنة، من حزب "لا ليبرتاد أفانزا" (تقدم الحرية) La Libertad Avanza – كان قد فاز في الجولة الثالثة والأخيرة من جولات الاقتراع. وغالباً ما يطلق عليه أنصاره المؤيدون تسميات مثل "إل لوكو" El Loco (المجنون)، و"ذو الشعر المستعار" بسبب سلوكه الشرس وشكل شعره الكثيف الأشبه بممسحةٍ جامحة (من الشعر الحقيقي)، في وقتٍ يشير فيه هو إلى نفسه باسم "الأسد". ويعتبر هذا الرجل أن التثقيف الجنسي هو مؤامرة ماركسية تهدف إلى تفكيك بنية الأسرة. إضافة إلى ذلك، ينظر بمودة إلى كلابه المستنسخة من فصيلة الدرواس (وهي نوع من الكلاب القوية تتميز ببنية عضلية)، ويعتبرها بمثابة "أطفال له بأربعة أقدام"، وطرح فكرة أنه يجب أن تتاح للأفراد حرية بيع أعضائهم الحيوية.
ومع انتهاء انتخابات الأحد وإغلاق صناديق الاقتراع، أظهرت الأصوات أن ميلي حصل على نسبة 55.69 في المئة منها، متفوقاً على منافسه وزير المالية سيرجيو ماسا - من يسار الوسط - الذي نال 44.3 في المئة. التأكيد الرسمي بخصوص النتائج كان قد صدر يوم أمس الثلاثاء.
فوز ميلي لقي ترحيباً واسعاً من زعماء الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا. سانتياغو أباسكال، زعيم حزب "فوكس" Vox الإسباني (اليميني المتطرف) قال: "اليوم يُشق طريق المستقبل والأمل للأرجنتينيين وأميركا اللاتينية بأكملها، وهو مناسبة نحتفل بها في إسبانيا ببهجة خاصة". وأعلن أندريه فنتورا مؤسس حزب "تشيغا" Chega اليميني المتطرف في البرتغال، أن "معركة الدفاع عن المجتمع تدور في مناطق عدة من العالم، وفي الأرجنتين، تم الفوز بالجولة الأولى منها!". وقدم نائب رئيس الوزراء الإيطالي وزعيم حزب "الرابطة" League اليميني المتشدد ماتيو سالفيني، تهانيه هو أيضاً لميلي.
أفكار خافيير ميلي التحررية، وهو الذي يصف نفسه بالـ "رأسمالي اللاسلطوي"، كانت أمراً جديداً بالنسبة للأرجنتين. فرؤيته تشمل مسألة تقليص حجم الحكومة بشكلٍ كبير بهدف تعزيز النمو الاقتصادي. وهذا ما يستلزم برأيه إلغاء نصف الوزارات الحكومية، بما فيها تلك المسؤولة عن الصحة والتعليم.
وتترافق دعوته إلى تحجيم نطاق الدولة، مع مطالباته بتطهير "الطبقة السياسية" من حكومة البلاد، في تشابهٍ مع الخطاب الشهير لدونالد ترمب في الولايات المتحدة حول "تجفيف المستنقع"، في إشارة إلى الحاجة للقضاء على ما اعتبره عناصر راسخة في المؤسسة السياسية. ولا يخفي ميلي إعجابه بالرئيس الأميركي السابق، وكثيراً ما أجرى مقارناتٍ بينه وبين ترمب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الرئيس الأميركي السابق قدم تهنئته لميلي على فوزه بفارق كبيرٍ في الأصوات، وهي النتيجة الأكثر حسماً في الانتخابات منذ عودة البلاد إلى الديمقراطية في عام 1983. وقال ترمب: "تهانينا لخافيير ميلي على السباق الكبير لمنصب رئيس الأرجنتين. فالعالم كله كان متشوقاً لمعرفة نتائج الرئاسة الأرجنتينية. العالم كله يتابعك، وأنا فخورٌ بك للغاية. أنت قادرٌ على تغيير بلادك، وستجعل الأرجنتين عظيمةً مرةً أخرى!".
وفي خطابٍ يذكرنا بأسلوب دونالد ترمب، توجه ميلي إلى أنصاره المبتهجين في مقر حملته في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، قائلاً: "اليوم، تبدأ عملية إعادة إعمار الأرجنتين. إنها ليلةٌ تاريخية لبلادنا". ووصف انتصاره بأنه "معجزة".
وفي شوارع مدينة قرطبة وسط الأرجنتين، أثار انتصار خافيير ميلي موجة من الاحتفالات بين المواطنين اليائسين الذين ينشدون التغيير وسط تدهوٍر اقتصادي متسارع.
فعملة البلاد الوطنية، البيزو، فقدت نحو 100 في المئة من قيمتها الأساسية منذ مطلع الألفية الثانية. وفي الأسبوع الذي سبق التصويت، شهدت البلاد ذروةً جديدة من التضخم، قارب عتبة الـ143 في المئة، وانعكست آثاره في الطوابير الطويلة الممتدة على طول شوارع بأكملها، أمام جمعيات الإقراض المالي، وفروع الحوالات المالية "ويسترن يونيون"، ومراكز صرف العملات، حيث سارع الأفراد الذين لديهم أموال متاحة، إلى تأمين أصولهم من خلال شراء الدولار الأميركي.
في "جادة سان خوان" Boulevard San Juan في قرطبة، تهافت أصحاب المطاعم على تنظيم حفلات شواء على جوانب الشوارع، فيما قام الباعة الجوالون ببيع علب البيرة ورذاذ الرغوة للمحتفلين. وكانت شرطة مكافحة الشغب حاضرةً طيلة الوقت، تراقب الاحتفالات. أحد المؤيدين التحرريين جال بين الحشود وهو يلوح بمنشار آلي - تيمناً بميلي الذي حمل منشاراً في لفتةٍ رمزية خلال حملته الانتخابية في تعبير مجازي عن نيته "تقليص حجم الحكومة" - ما أثار تصفيقاً حماسياً.
واستمرت الاحتفالات حتى الساعات الأولى من صباح يوم الإثنين، مع رفع الحظر المفروض على الكحول على مستوى البلاد لمدة 24 ساعةً في يوم الانتخابات. وكان من بين المحتفلين، ناهويل، وهو مدير في مستشفى انضم إلى الاحتفال مع زميل له بعد انتهاء نوبة عمله. وقال معبراً عن عدم تصديقه: "لقد مرت أعوام عدة من النضال ... وما حصل هو تغييرٌ مهم. أعتقد أن ميلي رجلٌ عظيم. إنه بمثابة نقطة تحول لنا وللعالم أجمع".
وفي الواقع تركت الحملة الانتخابية التي قام بها ميلي بصمةً راسخة، فالرجل الذي أطلق على نفسه لقب "ملك الغابة"، اشتُهر بشعاره: "لم آتِ لأرشد الحملان، بل جئت لإيقاظ الأسود". ومع ارتفاع شعبيته بسرعة، قدم وعوداً متطرفة، بما فيها اقتراحه الجريء لإغلاق البنك المركزي الأرجنتيني، واستبدال البيزو بالدولار الأميركي. ووصف على نحوٍ مثيرٍ للجدل البابا (فرانسيس رأس الكنيسة الكاثوليكية، وهو من أصول أرجنتينية) بأنه "معتوه". وضمّن أجندته للإصلاح الاجتماعي وعداً بإجراء استفتاءٍ مخطط له على قانون الإجهاض (الذي يُعد مشروعاً في الوقت الراهن في الأسابيع الأربعة عشر الأولى للحمل)، وتخفيف قوانين حيازة الأسلحة النارية لتمكين المواطنين من الحصول عليها.
قلما يتحدث خافيير ميلي عن طفولته، وهو ما قد يشير إلى وجود علاقةٍ متوترة مع والده. لكن في فترة شبابه، انغمس في الموسيقى وكان عضواً في فرقة موسيقية لأغاني فرقة "رولينغ ستونز"، ولعب حارس مرمى ضمن فئة الشباب لمصلحة نادي "تشاكاريتا جونيورز" Chacarita Juniors لكرة القدم. لكنه قرر لاحقاً التخلي عن اللعبة خلال فترة التضخم المفرط في أواخر الثمانينيات، والتركيز على دراسة الاقتصاد.
وفي الآونة الأخيرة، كانت أقرب الروابط العائلية لخافيير هي مع شقيقته كارينا ميلي التي أدارت حملته الانتخابية. ويشير إليها بـ "الرئيسة"، بعدما كان قد وصفها مراراً بأنها مهندسة مسار صعوده لتولي مقاليد السلطة.
وخلال ظهور تلفزيوني، لم يكتفِ ميلي بالحديث عن الاقتصاد والسياسة. فقد تعمق أيضاً في حياته الشخصية وصور نفسه ذات مرة على أنه خبير في طقوس جنس "التانترا" (مجموعة من الممارسات الروحية والجنسية التي نشأت من التقاليد الهندية القديمة). وفي جانبٍ غير تقليدي من حياته الشخصية، كان ميلي على علاقة وثيقة مع كلبه الإنجليزي من فصيلة الدرواس كونان الذي نفق. لكنه يمتلك الآن ما لا يقل عن أربعة كلاب من هذا النوع، ويُقال إنه تم استنساخهم باستخدام الحمض النووي لكونان، وجميعهم يحملون أسماء خبراء اقتصاديين.
فوز ميلي خلف حالةً من الصدمة لدى نحو 44 في المئة من الناخبين الآخرين، على رغم أنه لم يكن مفاجئاً تماماً.
وقالت ماريانا غوليانو، الفنانة المتخصصة في المنسوجات والتي تعيش في مدينة قرطبة الأرجنتينية مع إبنتها البالغة من العمر 5 سنوات: "كنت أعلم أن ذلك سيحدث، لكن عندما سمعت الأخبار، بكيت. نعم، نحن جميعاً قلقون بشأن الاقتصاد، ويبدو أن ميلي لديه الحل لأزمتنا، لكن بأي ثمن؟ إنه ضد الإجهاض، ويناهض المثلية الجنسية وحقوق الإنسان، التي كان علينا أن نناضل بجد لتحقيقها كلها، منذ فترةٍ ليست ببعيدة".
وأضافت: "ما معنى العيش في مكان يعمل فيه الاقتصاد ولا تُطبق فيه حقوق الإنسان؟ إذا كان لديك ألف دولار في جيبك ويمكنك شراء ما تريده لكنك لست حراً؟ إنها ليست حقاً بالحياة الجميلة. استخدم ميلي وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أيديولوجيته، مستهدفاً فئة المراهقين. إنني في الواقع أشعر بقلقٍ من أن تنشأ إبنتي في مثل هذا العالم، وتتشرب بعضاً من هذه الأفكار المناهضة للمساواة".
حتى مع فوز خافيير ميلي بالتصويت الشعبي، فمن المرجح أن يواجه تحدياتٍ في تنفيذ تعهداته من دون دعمٍ من "الكونغرس الوطني" الأرجنتيني (الهيئة التشريعية وتتألف من مجلسي نواب وشيوخ). ويشكك الناخبون من كلا الجانبين في قدرته على حشد مثل هذا الدعم.
سيباستيان، وهو مبرمج كمبيوتر من باهيا بلانكا فضل عدم ذكر اسمه عائلته، لا يرى أن "ميلي سيكون قادراً على الوفاء بكل ما وعد به، لأنه ببساطة لا يستطيع ذلك. قد لا يتمكن من الحكم، حتى لو فاز بالانتخابات. وفي رأيي أن هذه مشكلة مرتبطة بالديمقراطية في الأرجنتين". ووصف فوز ميلي بأنه "شعور غريب"، قائلاً: "لقد صوتنا على أمل أن تتحسن الأمور ككل بالنسبة إلى جميع المواطنين، فالاقتصاد هو مصدر معظم المشكلات في الأرجنتين".
وأضاف أن "خافيير ميلي هو رجل اقتصاد، وسنكون أقله في صدد تجربة أمرٍ مختلفٍ هذه المرة. إنه مشوش للغاية في مقترحاته، لكن كان لدينا نقيضه لفترةٍ طويلة. وكما نقول جميعنا هنا، ’ الخبز لليوم، والجوع للغد‘ (في إشارةٍ إلى سياسات الدعم الاجتماعي الليبرالية للرئيس المنتهية ولايته ألبيرتو فرنانديز).
سيباستيان شأنه شأن كثيرين من الأرجنتينيين، صوت لمصلحة ميلي، ليس لأنه يتفق مع سياساته كلها، بل لأنه بحسب قوله: "خسرنا أعواماً عدة لمصلحة حكومة ثبت أنها دون المستوى المطلوب. وبالتالي فأنا أرى أن المخاطرة بأربع سنواتٍ أخرى، أمرٌ يستحق العناء".
© The Independent