Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"السيد" لبيار كورناي: حين ينتصر منطق العاطفة على العقل

أي سر يكمن خلف توقف سيد التراجيديا الفرنسية عن الكتابة المسرحية زمن ريشيليو؟

بيار كورناي: متن مسرحي كبير وتراجع فكري أكبر (الموسوعة البريطانية)

ملخص

أي سر يكمن خلف توقف سيد التراجيديا الفرنسية عن الكتابة المسرحية زمن ريشيليو؟

كان الكاتب المسرحي الفرنسي بيار كورناي الذي عاش في زمن راسين وموليير والملك لويس الرابع عشر، معروفاً بغزارة إنتاجه. لكن هذه الغزارة لم تكن السبب الوحيد الذي جعل أهل الأدب يطلقون عليه، وهو حي بعد، لقب "شكسبير فرنسا". فالواقع أن تشبيه كورناي بالكاتب الإنجليزي الكبير، الذي كان باكراً قد بدأ اعتباره واحداً من أعظم الكتاب الذين أنتجتهم البشرية في تاريخها، يأتي من تنوع مواضيعه وخوضه الكتابة المسرحية التاريخية إلى جانب الكتابة المعاصرة في ذلك الحين، ومن قدرته على رسم ملامح شخصياته. ولكن يأتي التشبيه كذلك، من قدرة أفكار مسرحياته من أن تكون مع العصر ومتقـدمة عنه في الوقت نفسه. ولنعد هنا إلى مسألة غزارة الإنتاج على أية حال، ولنرصد تواريخ نشاط كورناي في كتابة المسرحية، لنلاحظ أن الرجل كان، منذ بلغ الـ24 من عمره بدأ الكتابة فعلاً، قد حرص على أن يكتب مسرحية أو مسرحيتين في كل عام، وسيظل هذا دأبه وصولاً إلى مسرحيته الأخيرة "سورينا" التراجيديا التي نشرت في عام 1675، بعد سنة من تقديمها على خشبة أوتيل بورغوني، في باريس.

4 سنوات من الفراغ

ولكن خلال مسار كورناي الإبداعي الطويل، يمكننا أن نلاحظ وجود فترة خاوية تمتد إلى ما يقرب من أربع سنوات، يبدو أن الكاتب قد توقف خلالها عن الكتابة تماماً، من دون أن يكون ذلك ناتجا من مرض أو من أزمة إبداع. وتزداد الغرابة إن نحن أدركنا أن التوقـف جرى بعد عـرض واحدة سوف تكون لاحقاً واحدة من أشهر مسرحياته وهي "السيد" في العام 1636، ونعرف بالطبع أن تلك "التراجيكوميديا" الرومانطيقية نجحت تماماً حين عرضت، وظلت ولا تزال تعد حتى اليوم، واحدة من أهم نتاجات المسرح الفرنسي المأسوي. فكيف حدث أن كورناي جمد بعدها وتوقف عن الكتابة لفترة طويلة؟

للإجابة عن هذا السؤال قد يكون من المهم استنطاق الوقائع التاريخية المتعلقة بحياة كورناي ونشاطه، ولكن قد يكون من الضروري، أيضاً، استنطاق ما تقوله المسرحية نفسها وما تشير إليه ظروفها. والمسرحية، كما نعرف جميعاً لأنها قرئت من قبل طلاب المدارس كافة، إلى كونها مثلت كثيراً واقتبست في أفلام وأوبرات وما شابه، تحكي فصلاً من الأحداث العاصفة التي عرفتها إسبانيا، أيام الفتح الإسلامي. ولكن من الواضح أن تلك الأحداث لم تكن هم الكاتب الأساسي، حتى وإن كان هو - كورناي - اقتبسها من عمل معروف في الأدب التاريخي الإسباني هو كتاب غيان دي كاسترو "مغامرات السيد في أيام شبابه"، المبني على شخصية واقعية اتسمت في الغرب بآيات البطولة بسبب مقارعة صاحبها للمسلمين في معارك مظفرة. ولقد اختار كورناي لمسرحيته أن تجعل من المعارك البطولية مجرد خلفية للوحة، لأن المطلوب بالنسبة إليه كان أمراً آخر تماماً، كان يريد أن يحكي عن علاقة (ربما يكون لها أساس تاريخي) بين بطله، واسمه الحقيقي رودريغو، لأن "السيد" (سيد في العربية) هو لقب أطلقه عليه الملك، وبين شيمين، المرأة التي تحبه ويحبها، ولكن الموت والقتل والشرف تأتي معاً، لتقف عقبة في وجه ذلك الحب. إذ إن الذي يحدث هو أنه في الوقت الذي يغرم فيه رودريغو بشيمين، تقوم منافسة بين والديهما، حول مسـألة تعليم ابن الملك، ويهين والد شيمين والد رودريغو، فلا يكون من هذا إلا أن يبارز المهين ويقتله. ويصبح هم شيمين الأساسي، الانتقام من حبيبها لقتله أباها، ولكن هل تراها حقاً راغبة في موت رودريغو؟ هنا تكمن عقدة المسرحية. ولئن كان النص الأصلي لمغامرات الأمير الشاب يتضمن حكاية سنوات عدة من حياته، فإن كورناي قلص الزمن، ليجعل الأحداث تدور في فترة زمنية ومكانية محدودة، ما يمكنه من أن يقفز إلى الواجهة بموضوعه، لا بحكاية الحب ولا بسيرة البطل.

التعارض بين الحب والواجب

وموضوع كورناي، في تلك المسرحية كان ذلك التعارض بين الحب والواجب، وفي هذا الإطار تصبح شيمين هي محور المسرحية، لا رودريغو (السيد). وشيمين تبدو هنا شخصية شكسبيرية/ هاملتية بامتياز. إنها تعيش الصراع في داخلها بين حبها لرودريغو، وواجبها تجاه أبيها. لذلك إذ تدفع الملك والآخرين إلى الانتقام من حبيبها القاتل، نجدها سرعان ما تتراجع. ولسنا في حاجة إلى التذكير بأن حبها هو الذي ينتصر في نهاية الأمر. ولكننا نشير إلى هذا حتى ندنو تماماً من لب المعضلة ونجيب عن السؤال الذي طرحناه، حول سبب توقف كورناي سنوات عن الكتابة بعد "السيد". فالواقع أن كورناي كان يعيش في ظل حماية الكاردينال، ريشيليو له، وكان هذا الأخير محباً للفنون وللمسرح بشكل خاص على رغم مشاغله السياسية المتعلقة بشؤون الحكم والدولة هو الذي كان كبير السياسيين الفرنسيين في زمن "الملك الشمس" (لويس الرابع عشر)، إلى درجة أنه دعم "الكوميدي فرانسيز". لكنه في الوقت نفسه بنى ما هو أكبر من ذلك: بنى الدولة الفرنسية العصرية والحقيقية، وهو بناها على خلفية إذابة المواطنين جميعاً في الدولة، لا شيء يعلو على الدولة والواجب تجاهها، حتى ولا الحب نفسه. أما كورناي فإنه في "السيد" أتى - وربما من دون أن يدرك أنه في هذا إنما يعارض سيده وحاميه جذرياً - أتى ليرجح كفة الحب، على كفة أي شعور آخر بما في ذلك الواجب.

فكر لعصر النبالة والفرسان

إذاً على عكس ما يحدث في "هاملت" حين يضحى بالحب على مذبح مشاعر - واجبة - مثل الانتقام، تضحي شيمين بالواجب وبالشرف هنا، على مذبح الحب. كانت هذه فكرة تنتمي حقاً إلى عصور الفرسان والنبالة، لكنها - أمام رغبة ريشيليو في بناء دولة تقوم على العقل لا على العاطفة - كانت تتبدى فكرة هرطوقية تشكل خطراً على عقل الدولة وعقلانيتها. ومن هنا ما إن عرضت المسرحية حتى ثارت العواصف في وجهها: عـواصف أدبية، دخلت فيها الأكاديمية (وهي مؤسسة أخرى تدين لريشيليو)، وتدخل فيها النقاد من رجال ريشيليو، للتأكيد أن كورناي سرق موضوع مسرحيته. ووصل الأمر بالناقـد جان شابلين إلى وضع كتاب حول الموضوع عنوانه "مشاعر الأكاديمية حول السيد" وفيه عرض وقائع معركة "السيد" بشيء من الموضوعية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جوهر الموضوع في عهدة كاتبه

غير أن شابلين لم يكن مدركاً تماماً جوهر الموضوع: المعركة التي فتحها كورناي بين العاطفة والواجب، وتعارض هذا مع مرامي ريشيليو وسياساته. وحده كورناي أدرك هذا. لذلك نراه، بعد سنوات وبعد صمت وألم وتفكير، يعود إلى الكتابة ويبدع هذه المرة مسرحيته التالية "هوراس" التي تناقض "السيد" تماماً: فهنا ينصر كورناي العقل ومنطق الدولة على لامنطق العاطفة. ولم يفت هذا الأمر ريشيليو بالطبع، إذ، حتى ولو بقيت المسرحية ومثلت كثيراً، حتى في عهده، فإن ملف "هوراس" الإيجابي تمكن من أن يطوي ملفها - الأيديولوجي – السلبي... وانتصر منطق العقل على منطق العاطفة.

رسائل مزورة لبدايات إبداعية

ونعرف بالطبع، أن بيار كورناي ولد عام 1606، في مدينة روان الفرنسية، لعائلة كان معظم أفرادها من رجال القانون. وكان هو سيصبح رجل قانون مثلهم لولا أن تمكن حب المسرح منه باكراً، وهكذا في الوقت نفسه الذي درس فيه القانون، راح يبرع في كتابة الشعر والمسرح باللاتينية، التي درسها لدى اليسوعيين. وفي عام 1629، أنتجت أول مسرحية له وعنوانها "ميليت أو الرسائل المزورة" وهو واصل الكتابة بعدها وسط تقلبات حياته حتى بلغ ما بقي لنا من أعماله 34 مسرحية كتبها خلال أقل من 50 سنة، أشهرها "السيد" و"هوراس". ولكن هناك أيضاً "ميديا" و"حلم أغسطس" و"موت بومبايي" و"هراقليوس" و"نيقوميد" و"أديب" و"أتيلا".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة