Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في ضرورة القصة وإن خلت من حكاية

"غرباؤنا" كتاب جديد للقاصة الأميركية ليديا ديفيس يطرح رؤية لكيفية نظرتنا إلى أنفسنا في من حولنا

القاصة الأميركية ليديا ديفيس تكتب القصة القصيرة في قالب أشبه بقصيدة نثر (أ ف ب)

ملخص

ربما أرادت القاصة الأميركية أن تقول من وراء قصصها إن هذا ما يفعله الإعلام في مآسينا: يحيلها إلى فرجة ومادة للتسلية، ويحيلنا جميعاً إلى واقفين في الشبابيك شهوداً على جريمة قتل بوسعنا أن نمنعها لولا انشغالنا بمتابعتها وحسب.

ربما لا تكون القاصة الأميركية ليديا ديفيس (1947) معروفة بالقدر الواجب للقارئ العربي، فليس مترجماً لها غير كتاب واحد صدر عن سلسلة الجوائز بالهيئة العامة للكتاب في مصر قبل سنوات قليلة بعنوان "تنويعات الانزعاج" من ترجمة آية نبيه، لكنها في الولايات المتحدة مترجمة أدب راسخة، ترجمت عناوين وأسماء بالغة الأهمية، ولا أحسب أن إسهامها الكبير في الترجمة هو الذي ينال منها بوصفها كاتبة قصة راسخة أيضاً، وما يحرمها من مكانتها المستحقة في مشهد الأدب الأميركي هو الطبيعة التجريبية للقصة التي تكتبها. وإن تكن هذه الطبيعة بالذات هي التي تجعل صدور كتاب جديد لها فرصة للاحتفاء بالفن بوصفه مسعى جمالياً في المقام الأساسي. وقد صدر أخيراً لديفيس كتابها القصصي "غرباؤنا" عن دار نشر بوكشوب إديشنز في 304 صفحات.

لا أعتقد أن المرء بحاجة حقاً إلى براهين للقول بأن الرواية اليوم باتت أقرب إلى صناعة يشارك فيها، عدا الروائيين، محررون وناشرون وصحافيون وتجار كتب. ولا أعتقد أن قارئ الأدب المتمرس يغفل عن أن تسليع الرواية أفقدها كثيراً أن تكون ساحة لتوليد طروحات جمالية وفكرية مثلما كانت حتى عهد غير بعيد. ولذلك، فبعيداً من جداول أكثر الكتب رواجاً، وقوائم الجوائز القصيرة والطويلة، وفرص التحول إلى أعمال سينمائية، تبقى القصة القصيرة أقرب إلى الفن وأقدر على استيعاب طاقات الإبداع لدى كتاب السرد.

لكن حتى في نطاق القصة القصيرة لا تكتب ليديا ديفيس القصة النمطية التي قد تحتفي بها مجلة مثل "ذي نيويوركر"، أو التي قد تفوز بنوبل في الأدب مثلما حدث في حالة أليس مونرو قبل سنوات قليلة، أو التي قد تجد طريقها إلى السينما ما حدث في حالات كثيرة. فالقصة القصيرة التي تكتبها ليديا ديفيس منذ عقود قصة قصيرة للغاية، قوامها في كثير من الحالات كلمات قليلات، وتطول فلا تجاوز الصفحة المنقوصة إلا لماما. وهي قصة قصيرة تدين لقصيدة النثر أكثر مما تدين لقالب القصة المعروف منذ نشأة هذا الفن.

في استعراضها للكتاب، تكتب تشيلسي ليو (نيويورك تايمز – 4 أكتوبر/ تشرين الأول 2023) أن "قصة ليديا ديفيس، مثلما بتنا نعرفها على مدار خمسة عقود وسبع مجاميع، هي نموذج للحذف. لا تزيد في الغالب على صفحة، وفي بعض الأحيان تظهر بهيئة الشعر، تقتنص مشهداً يومياً عادياً، مجردة إياه من سياقه بصورة شبه تامة، فإذا به في انفصاله عن أي زمان أو مكان محددين، يكتسب هالة من الغرابة الآسرة".

تكتب ليو أنه "على رغم سمة البعد النافذة في كل أعمال ديفيس (وتعني البعد عن الواقع بعزل المشهد البسيط عن سياقه) فإن ما نعانيه من مخاوف راهنة ينسرب إلى قصص "غرباؤنا"، ومن ذلك أن قصة "عزيزي المكترث..."، وهي مكتوبة على هيئة رسالة موجهة إلى شركة لبيع مناديل المرحاض معادة التدوير، تشير إلى "اللامبالاة الفظة المستشرية بالفعل في زمننا". ومن ذلك أيضاً قصة تدور حول مكالمة هاتفية مؤجلة مع امرأة هي في نهاية المطاف لا تبدو امرأة حقيقية، أو حتى إنساناً حقيقياً. وقصة عنوانها "كيف تغيرنا بمرور الوقت" تصور تدهور شخص مثقف مثير للإعجاب يتطابق مع [الأب المؤسس والرئيس الأميركي] توماس جيفرسن، إلى شخص نرجسي منطو على ذاته. وتتركز أكثر من قصة على أفكار اجتماعية متكلسة تسهل قراءتها بوصفها انتقادات صغيرة للثقافة المعاصرة. فينتاب المرء إحساس مدهش بأنه حتى ليديا ديفيس نفسها ليست بمأمن تماماً من دائرة توقع الأسوأ".

تكتب تشيلسي ليو أن "كتاب (غرباؤنا) ليس بكتاب قضية، بل وليس بكتاب واضح الطرح، فما يشغل ديفيس بالدرجة الأساسية هو الهوس برصد الناس: ركاب القطار، متناولي العشاء في مطاعم سالزبرغ، المرأة التي تحاول إعادة تدوير زجاجات غسول الشعر في متجر. حتى ليبدو الكتاب وكأنه في بعض المواضع حكايات شعبية غير نمطية".

وتتابع، "لكن مع تنامي المجموعة، يبدأ إحساس معين في التكون: إذ يبدو أن ديفيس تطرح رؤية لكيفية نظرتنا إلى أنفسنا في من حولنا من الناس، وفي ما قد يبدو عليه مجتمع حقيقي. فالقصة التي تحمل المجموعة عنوانها تصور جيران الراوية السابقين والحاليين، وجيران أصدقاء الراوية، وكذلك فحوى كل من هذه العلاقات: من ضغينة أو مودة أو توتر أو لا مبالاة. وتكتب ديفيس أن الجيران، بفضل القرب لا أكثر (يصبحون كأنهم أسرة)".

لعل من قصص المجموعة قصة تحاور كثيراً من أفكار تشيلسي ليو عن الكتاب:

قصة خبرية وجيزة من زمان

سمعنا هذه القصة قبل سنين في أخبار المساء: أثقل عروس وعريس، عرسهما، في الشراب، مع أصدقائهما، ثم ركبا سيارة العروس وانطلقا مبتعدين. وفي طريق مسدود قريب من جسر، أوقفا السيارة، وأغلقا المحرك، وشرعا يتشاجران بصوت مرتفع. بلغ صخب شجارهما المنازل المجاورة، وطال الشجار كثيراً فبدأ بعض الجيران ينصتون. وبعد وهلة صاح العريس في العروس "حسن، ادهسيني". وفي ذلك الوقت كان الجيران قد بدأوا يشاهدون أيضاً من شبابيكهم. غادر السيارة، وصفق بابها وراءه، واستلقى أمام إطار السيارة الأمامي من ناحية كرسي الراكب. أدارت العروس السيارة وقادتها فوقه، بثقلها البالغ أربعة آلاف رطل. فمات من فوره. كان عمر الزيجة آنذاك سويعات قليلة. وفي وقت وفاته، كان لم يزل يرتدي سترة الزفاف.

ربما من قصص كهذه خلصت ليو إلى أن ديفيس مهووسة برصد الناس، ولكن السؤال الذي ربما قصدت ديفيس أن تثيره في قارئها من خلال "قصة" كهذه هو: ما الذي يجعل من هذا فناً أصلاً؟ هذا هو السؤال الذي قد يحمل قارئاً على إعادة قراءة هذه السطور مرة أو مرات ليعرف ما الذي رأته ديفيس ولم يره هو. تراها قصة عنا إذ نقف في الشبابيك متابعين معركة، إلى أن نرى الدم على الأسفلت الذي سنخطو عليه في الغد، وفي كل غد تال؟ أهي قصة عنا إذ نجلس أمام شاشات القنوات الإخبارية نتابع أخبار غزة؟ أهذا ما يرتقي بالخبر الصحافي إلى الفن؟ أم ترى أرادت ديفيس -وأتخيلها تقطع بالمقص خبراً من جريدة، ثم تلصقه كما هو بين قصتين في كتابها- أن تقول إن هذا ما يفعله الإعلام في مآسينا: يحيلها إلى فرجة، مادة للتسلية، يحيلنا جميعاً إلى واقفين في الشبابيك شهوداً على جريمة قتل بوسعنا بلا أدنى شك أن نمنعها لولا أننا مشغولون بأن نتابعها وحسب.

أتصور أن ما ينبغي أن يبحث عنه قارئ لديفيس _وللقصة القصيرة والشعر وكل ما ينتجه الإنسان بوصفه فناً- هو هذه الشراكة في إنتاج المعنى. أنت في تلقيك للفن الحقيقي لست شهريار المنعم في فراشه يتسلى بالحواديت، وإنما أنت مطالب بمحاورة ما تتلقاه، وتقريباً أنت المسؤول الوحيد عما يصل إليك منه. وهذا ما لم تعد تفعله الروايات المتوالية من خطوط إنتاجها في العالم كله من اليابان إلى أميركا: تعفينا من هذه المسؤولية.

تكتب هيلر مكالبين في موقع "إذاعة أميركا الوطنية" (3 أكتوبر 2023) أن قرار ليديا ديفيس بنشر مجموعتها القصصية الأولى بعد صمت عشر سنوات وبيعها حصرياً من خلال ناشر مستقل تصدر الأخبار واستلزم انفصالها عن ناشرها القديم، ونشر الكتاب عن "بوكشوب دوت أورغ" ليكون أول إصدارات هذه الدار، لكن "غرباؤنا لحسن الحظ يتميز بما هو أهم من موقف كاتبته ضد عمالقة الإنترنت".

الحق أن العنوان وحده، أي "غرباؤنا"، رسالة بالغة الإيجاز والإنسانية والشعرية، فبكلمة واحدة -أو اثنتين في الأصل الإنجليزي- ربطت ديفيس بين الغرباء وبيننا، بل دمجتنا جميعاً، أو بالأحرى كشفت عن اندماجنا الماثل أمام أعيننا لولا أننا ننظر إليه عبر عدسة الأنا والآخر. ولعل هذه ميزة ديفيس الكبيرة التي يعز العثور عليها لدى كتاب الصفوف الأولى من أصحاب أكثر الكتب رواجاً: الرؤية الشعرية للعالم.

 

تكتب هيلر مكالبين -وكأنها تنطق بلسان كاتب هذه السطور- فتقول "إنني أستمتع بقراءة قصص ديفيس الشبيهة بالنوادر منذ سنين لكنني لم أكتب عنها قط، وذلك جزئياً لأنني أجدها أكثر جاذبية عند تناولها في جرعات صغيرة... بدلاً من التهامها التهاماً بحسب ما تقتضي مواعيد النشر".

وتضيف، "وعلى رغم أنني أوثر أن أتلذذ بأعمالها في رشفات، فإنه يسعدني أن أقول إنني وإن قرأت بالكامل قصص الكتاب البالغ عددها مئة وخمسين، لم أزل أرى كيف تستجيب ديفيس للغرابة التي تراها أصيلة في الحياة"، وتمضي هيلين مكالبين فتقول إن المغزى العميق في أعمال ديفيس هو أنه "حتى حين لا تكون الحياة فاتنة، فافتقارها إلى الإثارة فاتن".

تكتب ديفيس قصة عنوانها "ثمة ما يريد الأب أن يقوله لي":

"يقف الأب في المطبخ محاولاً أن يفسر لي شيئاً عن المسيحية، لكنني، وقد قضيت يوماً آخر طويلاً، منهكة، ولا أنصت. ويرى أنني لا أنصت إليه. فيصعد إلى أعلى وينقر على الآلة الكاتبة نصاً من فقرتين يوضح لي فيه ما كان يحاول شرحه مسبقاً. وقبل أن يأتي به إلي، يعرضه على الأم لتعلق عليه. أتبين هذا لاحقاً، إذ أتذكر أني سمعت خطاه فوق رأسي وهو في طريقه إلى غرفة نومها، والصمت وهي تقرأ ما كتبه، ثم دمدمة صوتيهما. وينزل إلى حيث أنا الآن، في غرفة المعيشة، ويضع النص المكتوب في يدي. ويقول إنني بالطبع غير ملزمة بأن أقرأه على الفور".

هل هذه القصة نموذج للحياة حينما تفتقر إلى الفتنة؟ ربما، لكن ماذا لو أعدنا قراءتها موجهين تركيزنا على قليل من كلماتها القليلة أصلاً: "الأب" و"المسيحية" و"الأم" "والنص"؟ ألا ترون أنها تحولت فجأة إلى قصة أخرى عن الإله [الأب في المفهوم المسيحي] والإنسان، إنسان هذا الزمن المنهك بحيث لا يقبل من كلام جديد عن المسيحية أو الدين. في هذه الحالة ألا نجد فتنة في الحياة حتى وإن افتقرت إلى الإثارة؟

وماذا بعد قراءة ثالثة، حيث نرد إلى القصة ما استبعدناه من كلمات. أي وقع الآن لعبارات خالية من الإثارة من قبيل: "ينزل إلى حيث أنا الآن" و"في غرفة المعيشة"؟ كيف سيدخل أحدنا الآن غرفة المعيشة مثلما كان يدخلها من قبل وقد حولتها قصة فاترة في ظاهرها إلى الدنيا وما فيها؟ وماذا عن الكتاب المقدس في أغلب بيوتنا، قد يختلف في بيت فيكون الإنجيل أو يكون القرآن أو يكون غيرهما، لكن طبقة الغبار التي تعتليه في كل البيوت واحدة، كيف سيكون بوسعنا الآن أن نظل على إهمالنا له بعد أن نقرأ هذه العبارة الختامية:

"يضع النص المكتوب في يدي. ويقول إنني بالطبع غير ملزمة بأن أقرأه على الفور".

فجأة يتحول هذا الكتاب الذي يكلموننا طوال الوقت عن سلطته، وقد يشيطنه البعض، إلى رسالة حنان، رسالة نحن معذورون سلفاً إن لم نجد لقراءتها وقتاً، رسالة مغفور لنا أن نتركها على الرف للغبار، وتبقى على رغم ذلك طارحة نفسها لنا دائماً.

وليس جميع نصوص الكتاب قصصاً بأي معنى نعرفه للقصص، فثمة على سبيل المثال هذا النص:

"كل من كارل ماركس وأبي أنجب فتاة. كلتا الفتاتين كبرت فأصبحت مترجمة. كلتا المترجمتين ترجمت مدام بوفاري لجوستاف فلوبير".

وهذا:

"آغنس فاردا، المخرجة السينمائية الفرنسية،

قالت في حوار

إن القليل من الخياطة يروق لها

والقليل من الطبخ، والقليل من البستنة، والقليل من رعاية الأطفال،

القليل فقط".

وهذا نص ثالث:

"تقول، من فضلك يا "رون" كن طيباً

لا تشر إلى أي شيء

وقع أو لم يقع في مطعم هامبرغر ماري".

قد يبدو الأخير من هذه النصوص بالذات أقربها إلى القص، فلعلنا نرى فيه زوجة وزوجاً في طريقهما إلى عشاء في بيت أسرة صديقة، وهذه الكلمات توصية أخيرة من الزوجة عسى أن تنقضي الليلة بسلام. قد يكون ذلك مثالاً لقصص كثيرة نحتك بأمثالها كل يوم مع كل شذرة حوارية تبلغ أسماعنا في قطار أو مقهى ولا نعرف أن من ورائها بقية جبل جليدي، لكن ماذا عن النصين الأول والثاني؟ هذان يبدوان شبيهين بالسطور التي نصادفها في كتاب فنخط تحتها بأقلامنا عسى أن نرجع إليها، ولا نرجع، ما من قصة فيهما، أو بذور لقصص، هما محض ملاحظات تعبر أعيننا بأمثالها كل يوم في قراءاتنا المختلفة، لكن حتى هذه الملاحظات العابرة تريد ليديا ديفيس أن ننتبه إليها، ونحترمها أكثر ما نفعل. وربما لا تريد منها أكثر من أن توضع هكذا في الكتاب، بلا غرض نفعي، غير قابلة للاستعمال، كأنما لتنبهنا إلى أننا لا نقرأ القصص دائماً لنعرف "وماذا بعد؟"، لا نقرأ دائماً لنتسلى، ففي بعض الأحيان يكون مفيداً أن نعرف "ما هذا؟" و"من هذا؟"، أعني أنه من المفيد أحياناً أن نفكر.

العنوان: Our Strangers

تأليف: Lydia Davis 

الناشر: ‎ Bookshop Editions

المزيد من كتب