Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما هذا الفردوس المخيف؟

على مدار آلاف السنين ظهرت الطرق الجديدة في تنظيم العلاقات الاجتماعية بتخيل الفلاسفة والمصلحين لعالم مثالي

عندما تكون اليوتوبيا هي اللامكان (لوحة بريشة رينيه ماغريت ـ مركز الفنون الحديثة في نيويورك)

ملخص

اليوتوبيا هي عالم مثالي يصلح مرآة تفضح نقائص الوضع المقبول لكل شيء

اليوتوبيا Utopia  في اليونانية كلمة تعني "لا مكان". وذلك التعريف وحده كفيل بأن يكون عرضاً وافياً لأي كتاب موضوعه اليوتوبيا، وبأن يكون أيضاً رأياً منصفاً فيه، أعني أن يكون تهيئة لقراءته فلا ينتهي القارئ منه غارقاً في أحلام يقظة وردية، أو تعقيباً على قراءته يرد قارئه إلى أرض الواقع.

ومع ذلك، لم تقاوم دومينيك غرين مثلما لم نقاوم أن تجعل من هذا التعريف مستهلاً لعرضها لكتاب صدر حديثاً عن (دار سيمون آند شوستر) بعنوان "يوتوبيا الحياة اليومية: ما الذي يمكن أن نتعلمه عن الحياة الطيبة من التجارب الجامحة في ألفي عام". لمؤلفته كرستين غودسي أستاذة الدراسات الروسية والأوروبية الشرقية في جامعة بنسلفانيا الأميركية.

تمضي دومينيك غرين فتكتب في استعراضها عبر "وول ستريت جورنال" في 14 يوليو (تموز) 2023، أنه "لا مكان اليوم مثل أميركا. فكل فرد لديه الكثير، إلا الذين ليس لديهم أي شيء. وكل شخص حر، لكن كل شيء مقيد بسعر. والمستقبل غير مضمون. معدل المواليد ينخفض. متوسط العمر المتوقع يتناقص. تكلفة الرعاية الصحية والتعليم باهظة. والنموذج المثالي للأسرة في ما بعد الحرب ـ أي الأسرة التي يقوم عليها أب وأم، وتدفع الرهن العقاري من راتب واحد ـ أصبح من سلع الرفاهية".

هذه حال الولايات المتحدة. وضع إصبعك مغمضاً على خريطة العالم وأضمن لك ألا يقع إلا على بلد يمكن أن تخرج بفقرة كهذه عنه. فأي بلد هذا الذي يشعر مواطنوه أنهم يعيشون في يوتوبيا، بمعناها الاصطلاحي لا القاموسي؟ ما من بلد في العالم إلا ويستحق فقرة كهذه، ليس فقط لأن العالم مضطرب أشد الاضطراب، ولكن لأن البشر بطبيعتهم يعرفون أن الوضع الراهن مهما بلغ من الرداءة أو الجودة، قابل لأن يكون أفضل.

التجارب الطوباوية

تكتب إيميلي رابوتيو في "ذي نيشن" خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أن كرستين غودسي تستعرض في كتابها الحديث ما يزيد على ألفي سنة من التجارب الطوباوية، ثم تشير إلى أنه "على مدار التاريخ، كانت عصور الاضطراب، أي العصور الشبيهة بالعصر الذي نعيشه الآن، هي التي تحفز الحلم الطوباوي".

تكتب غودسي أنه "على مدار آلاف السنين، كانت الطرق الجديدة في تنظيم العلاقات الاجتماعية تظهر حينما يتخيل الفلاسفة وعلماء اللاهوت والمصلحون والكتاب وغيرهم من الحالمين أنفسهم في مكان آخر، في عالم مثالي يصلح مرآة تفضح نقائص الوضع المقبول لكل شيء".

"في كتابها المتفائل الباعث على التفاؤل تنظر كرستين غودسي إلى الماضي، بحثاً عن رؤى المستقبل الطوباوية. وتطرح على وجه التحديد طرقاً بديلة لبناء بيوتنا، وتربية أطفالنا، وتعليم نشئنا، ومشاركة أملاكنا، وتحديد ما يمكن اعتباره أسرنا".

وللتدليل على أنه في الليلة الظلماء يفتقد البدر، أو على أن الاضطرابات والحروب كانت دائماً صاحبة فضل في نشأة الفكر الطوباوي وتطوره، تضرب غودسي المثال بـ"الجمهورية" لأفلاطون وهو كتاب عظيم الأثر على الفكر الطوباوي كله، وقد ظهر في غداة الحرب البيلوبونيسية التي زعزعت رسوخ العالم اليوناني القديم وأطلقت شرارة النهاية لما يعرف بعصره الذهبي، ثم تضرب مثالاً بعد قرون من أفلاطون بكتاب "اليوتوبيا" لتوماس مور الذي ظهر في أعقاب رحلة كولمبوس، وما أدت إليه اكتشافها من جدل حول هيمنة المؤسسات القديمة من قبيل الكنيسة الكاثوليكية، وما أثارت من أحلام بإقامة مؤسسات جديدة بديلة. وبالمثل، كما تقول إيميلي رابوتيو، تكشف لحظتنا الراهنة احتياجاً إلى الفكر الطوباوي، إذ ترغم "البشر على الانقطاع مع الماضي وتخيل العالم على نحو جديد".

"في فترات الاضطراب والتغيرات العنيفة هذه، يبدو الإصلاح السياسي، بل الثورة السياسية، منذوراً بالفشل ما لم تجر إعادة النظر في مجالاتنا الخاصة وليس في حياتنا العامة فقط. ونظراً لأن الكثير في المجتمع يقوم على وحدة الأسرة النووية، حسبما ترى غودسي، فإن إعادة النظر في الحياة الخاصة لا بد أن تبدأ بإعادة هيكلة أسرنا وتنظيمها.

انعطاف النظام الاجتماعي

تشير غودسي إلى أن وباء "كوفيد 19" بالذات كان نقطة انعطاف في نظام اجتماعي متوتر أصلاً ينزع إلى تخفيف عبء العمل عن دولة الرفاه وإلقائه على كاهل الأبوين، خصوصاً النساء اللاتي يتولين القدر الأكبر من أعمال الرعاية والعمل العاطفي في المجتمع الرأسمالي المعاصر".

 

 

تأملوا اللغة، "أعمال الرعاية والعمل العاطفي". قد يكون النصف الأول من هذه العبارة مقبولاً، ففي الرعاية جهد، لكن ماذا عن النصف الثاني: العمل العاطفي، ما المقصود حقاً بهذا؟ وأي عبء تحتمله المرأة حصرياً في أن تكون حنوناً؟ وأي عاطفة هذه التي لا تكون جزاء نفسها؟ ولماذا تستعمل قضية نبيلة ـ هي اليوتوبيا ـ هذا الاستعمال المغرض؟ ولماذا اختلاق براهين كاذبة لإثبات واقع واضح؟ فمن المؤكد أن المرأة تحتمل عبئاً ثقيلاً، وقد يكون في أحيان كثيرة ظالماً، وقد يستوجب تخفيفه تغييراً حقيقياً في ذهنيات المجتمعات الحالية، لكن هل يستوجب هذا التغيير انقطاعاً عن الماضي، وهل يستوجب إعادة هيكلة الأسرة على نحو راديكالي، وهل يعني إعفاء المرأة من واجباتها العاطفية ـ إن صح أصلاً وصفها بالواجبات أو الأعمال؟

رعاية غير مأجورة

تكتب إيميلي رابوتيو أن غودسي بوصفها باحثة في الحركات النسائية العالمية حققت مكانتها العلمية من بحثها في سبل "تحرير النساء من أدوارهن التقليدية بوصفهن مقدمات الرعاية غير المأجورات، وتحرير الرجال من أدوارهم المتوقعة بوصفهم موفري التمويل". ويقوم أحد كتبها السابقة وهو "لماذا تحظى النساء بعلاقات جنسية أفضل في ظل الاشتراكية؟" على فرضية أن السياسات الاشتراكية تحسن من حياة النساء بتوسعها في تكليف مؤسسات الدولة بالرعاية والتعليم ورعاية المسنين والرعاية الصحية وغيرها من البرامج الاجتماعية. "وتذهب غودسي إلى أن ترسيخ شبكات الأمن الاجتماعي هذه كفيل بـ(تحسين الحياة للجميع)".

وهذا خلط واضح. فلا شك أن الاشتراكية، في هذا الجانب على الأقل، أرحم بالمجتمع من غيرها، ولا شك أن دعم المجتمع للأسرة يمكن أن يتخذ كل هذه الأشكال وأكثر منها، على أن يكون الهدف منه هو دعم الأسرة كلها لا المرأة وحدها. وهذا الفارق في النية مهم للغاية في تقديري. فلو أن الهدف هو المرأة وحدها، أو حتى توفير حياة جنسية أفضل للمرأة [وهو بالمناسبة أمر سينتفع به الرجل معها لا محالة، وربما الأسرة كلها]، فلن يكون من بأس في التضحية بالسلامة النفسية للمجتمع كله، أطفاله وشيوخه، بغض النظر عن جنسهم. أما لو أن الهدف هو الأسرة والمجتمع برمته، فسيكون دور الدولة هذا داعماً لا بديلاً، لأن رعاية الصغار والشيوخ لا يجب أن تتحول إلى وظيفة أجرها المال، بعد أن ظلت على مدار تاريخ الإنسانية مرتبطة بأطوار مختلفة تمر بكل إنسان فينتقل من تلقي الرعاية إلى منحها إلى تلقيها، مشفوعة دائماً بالحب والدفء.

التخفف من عبء الرعاية

تتوسع غودسي في فرضيتها هذه في كتابها الحديث، فلا تكتفي بقولها إن الدولة والمؤسسات العامة قد تخفف عبء الرعاية، ولكنها تذهب إلى أنه "آن الأوان للنظر في هياكل منزلية بديلة أيضا، فقيام عمل المنزل على فرضية أن شخصاً، لعله امرأة ـ سوف يؤدي قدراً غير متناسب من الطبخ والتنظيف والرعاية، إنما هو نموذج عفا عليه الزمن وتجاوز فترة صلاحيته وتعفن".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتستشهد غودسي برؤى طوباوية تخلت عن البطريركية ذات المركزية الأبوية أو حتى الذكورية، "ففي القرن السادس قبل الميلاد أسس الفيلسوف الإغريقي فيثاغورث كوميونة (توصف أحياناً بالطائفة) تشارك فيها الرجال والنساء في الممتلكات، وعاشوا أنداداً متساوين، وخصصوا أوقاتهم للمساعي الفكرية. واليوم ثمة جماعة من النساء والأطفال في كولومبيا هم ناجون من العنف المنزلي أو مشردون بسبب حرب أهلية، وتعيش هذه الجماعة في قرية صديقة للبيئة، أمومية عابرة للأجيال اسمها قرية ناشيرا. وهم يقيمون بيوتهم من خامات قابلة للتدوير ويتعاونون في زرع ما يأكلونه".

وتمضي غودسي فتستعرض نماذج لتجارب طوباوية في مجتمعات جربت العيش المشترك سواء في الأديرة البوذية القديمة أو الأديرة المسيحية في العصور الوسطى، أو مجتمعات السكن المشترك المعاصرة في ولاية ماين والدنمارك، أو الكيبوتزات في إسرائيل، وهذا الجانب التأريخي في كتابها هو أثمن ما فيه، لكن "يود المرء في بعض الأحيان"، حسبما تكتب إيميلي رابوتيو، "لو أنها نظرت أيضاً إلى العيوب والنقائص في تلك التجارب" أو لو أنها ناقشت المآخذ على أطروحات متطرفة من قبيل رفض الملكية والزعم بأن المنزل الشخصي يؤدي إلى الغربة والعزلة ويغرز في الناس الأنانية، وهو افتراض قام عليه كثير من التجارب الطوباوية القديمة والحديثة على السواء.

قضية نبيلة ومعركة مصطنعة

تكتب رابوتيو أن غودسي "وهي تسير بنا عبر أمثلة الفكر الطوباوي وتطبيقاته، تثير أسئلة كثيرة مستفزة: هل الأسرة النووية خطأ؟ لماذا يجب أن تقتصر الرعاية على الأقارب البيولوجيين؟" والحق أنها لا تبدو لي أسئلة مستفزة بقدر ما هي أطروحات ملتوية تستغل نبل بعض القضايا في معركة مصطنعة، فضلاً عن أنها صغيرة.

تكتب ليزا فيذرستون في "جاكوبين" خلال يونيو (حزيران) 2023، أنها لاحظت في طفولتها أن قوائم الكتب المرشحة للقراءة تقود الأطفال واليافعين إلى روايات ديستوبيا من قبيل (1984) لجورج أورويل و"عالم جديد شجاع" لألدوس هكسلي و(المانح) للويس لاوري، وهو ما فسرته وقتها بأن الكبار المسؤولين يكرهون الصغار ويريدون أن يصيبوهم بالاكتئاب. لكن غودسي لديها تفسير آخر، فهي ترى أن هذه الكتب "تخوف من استعمال العقل" فـ"فيها يؤخذ الأطفال من أمهاتهم عند ولادتهم. وتجري تربيتهم جماعياً في عنابر" فضلاً عن أن "الروايات الثلاث تصور مجتمعات أعادت تخيل الأسرة النووية فأدى ذلك إلى نتائج مروعة" وكأن في ذلك تحذيراً ضمنياً من إعادة النظر في الأسرة النووية.

 تشير غودسي إلى أن "الشباب الأميركيين غالباً ما يدرسون الروايات الثلاث بتتابع سريع كأنها مضادات لليوتوبيا. والرسالة الكامنة في الروايات الثلاث صاخبة وسافرة: قد تكونون تعساء في ظل الوضع الراهن، لكن حذار من محاولة تغييره".

 

"لقد خرجت هذه الروايات الثلاث في وقت الحرب الباردة ومكافحة الشيوعية حين كان الناس بحاجة إلى أن يقال لهم مراراً وتكراراً، إنه ما من بديل للرأسمالية البطريركية، وكان الإعلام يذكر الأميركيين طوال الوقت بأن محاولات خلق بدائل قد تفضي إلى معتقلات ستالينية، فإن لم يفلح ذلك في إقناعهم، فهناك منهج لليافعين حافل بمخاوف وهمية من مجتمعات تقتل الأطفال وتمنع الحب، وعلى رغم ذلك لا يموت الفكر الطوباوي بسهولة".

تكتب ليزا فيذرستون، أن اليسار تبنى في السنوات الأخيرة مفهوم "إلغاء الأسرة"، وغوديس بكتابها الحديث تشارك في هذا الجدال زاعمة أن عجزنا عن تجاوز الأسرة النووية يعزلنا ويدفعنا إلى العمل منفردين في مهام يحسن مشاركتها مع الآخرين، ويشغلنا بتعليم أبنائنا عن تعليم الملايين من الأطفال الذين يحتاجون إلى التعليم في أرجاء العالم، وهذا مرة أخرى مثال لقضية نبيلة تستغل في معركة صغيرة.

محاربة العبودية

غير أن فيذرستون تستدرك قائلة، إن "الأسرة النووية أيضاً هي مكان الرعاية والحب، وهذا ما لن يود أغلب الناس إلغاءه".

وتلتفت فيذرستون إلى أن كلمة "الإلغاء"abolition المستعملة في المصطلح الرائج هي الكلمة نفسها التي استعملت في محاربة العبودية من قبل، فتقول "إنني أفضل مصطلح غودسي وهو (توسعية الأسرة) على (إلغائية الأسرة). فنحن لا نريد أن نحرم أحداً من الحب والرعاية والتغذية والأبناء والرفقة والروابط التي ينعم بها الآن. وإنما نريد مجتمعا لديه إحساس أكبر بالطرق التي يعيش بها الناس ويتحابون وينظمون مهامهم المنزلية وينشئون عليها أبناءهم، مجتمعاً ينعم فيه الجميع بمزيد من الرعاية، والتواصل الاجتماعي، مجتمعاً يقل فيه العمل، ومع ذلك يزداد الأمن الاقتصادي".

تبدو أفكار فيذرستون هذه في مقابل أفكار غودسي كأنها مشهد ما بعد نهاية العالم في السينما الأميركية، إذ تنبعث الإضاءة من شمس صباحية حنون لا من انفجار نووي شيطاني. ومع ذلك، لا يمكن وصف هذه الأفكار بالسذاجة، فالكاتبة تسارع إلى تنبيهنا إلى أن "الطبقة الحاكمة لا تريدنا أن نحلم بحياة أفضل، أو ندرك أن للوضع القائم بدائل". لكنها لا تقول إن هذا الهدف اللعين لا يقتصر على الطبقة الحاكمة وحدها.

يبدو أن الرسالة الأساسية لـ"يوتوبيا الحياة اليومية"، أو هماً أساسياً من همومها على الأقل، هو النيل من الأسرة كما نعرفها، حتى لو أدى الأمر إلى تعريف جديد لليوتوبيا بأنها: الجحيم الذي نعيشه الآن مع حذف الأسرة النووية، ولا أكثر، فكل شيء سيصبح أفضل.

في حوار مطول، أكثر مما ينبغي، مع غودسي أجرته نعومي كلاين في "نيويورك تايمز" في يونيو (حزيران) 2023، دعتنا الكاتبة إلى تأمل العمارة، "والطريقة التي نحبس بها أنفسنا بحيث تكون كل أسرة في صندوق، ولا تتاح لنا خيارات معمارية لنعيش في شبكات أوسع من الرعاية والدعم". وهذه ملاحظة صائبة، ودعوة جديرة بالاتباع. لكن أي منطق، إلا المنطق الفاسد أو المغرض، هو الذي يجعلنا ننتهي من هذا التأمل إلى الرغبة في إلغاء الأسرة لا إلى تعديل العمارة؟   

عنوان الكتاب: Everyday Utopia: What 2,000 Years of Wild Experiments Can Teach Us About the Good Life 

تأليف: Kristen Ghodsee

الناشر: Simon & Schuster

اقرأ المزيد

المزيد من كتب