Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل حقا تجعلنا الروايات بشرا أفضل؟

ينتمي كتاب جوزيف إبستين الجديد إلى تراث طويل من الكتابات الرامية إلى الدفاع عن "شرف" فن السرد

ليست الرواية وحدها التي يكثر الحديث عن وفاتها فالشعر سبقها والمسرح أقدم من كليهما (أ ف ب)

ملخص

ينتظر أشهر مؤلفي الروايات العالمية منقذاً جديداً للرواية مع تزايد الحديث عن موتها على مدى السنين الماضية حتى بات الأمر بشكل دوري

قبل سنوات قليلة كتب الكاتب الإنجليزي ويل سيلف مقالة ينعى فيها فن الرواية، فحواها ـ مع إخلال لا مفر منه ـ أن الخيال الأدبي في العصر الرقمي فقد مركزيته في الثقافة، ولم يعد الكتاب كشيء مادي هو المهدد وحده بالانحدار، وإنما فكرة القراءة "الصعبة" ذاتها باتت تواجه تحديات جساماً جعلت سيلف يرى أن مستقبل الرواية الجادة كله مهدد.

كان ذلك في عام 2014، وقبل ذلك بقرابة عقدين كان الروائي الأميركي جوناثان فرانزن صاحب رواية "التصحيحات" الشهيرة وروايات أخرى مهمة قد كتب ما عرف بمقالة هاربر، نسبة إلى المجلة المرموقة، معرباً فيها ـ بإخلال مماثل ـ عن قلق كبير على استمرار القراءة في ظل تنامي الإلهاء التكنولوجي، مركزاً على تجربته الخاصة كروائي، ومتأملاً في مصير الرواية وقدرتها على البقاء في ظل هذه المزاحمة والمنافسة على انتباه القارئ، وإن لم يذهب فرانزن إلى حد إعلان وفاة الرواية مثلما فعل سيلف.

وليست الرواية وحدها هي التي يكثر الحديث عن وفاتها، فالشعر سبقها، والمسرح أقدم من كليهما، ولعل أحداً نعى ـ أو سينعى إلينا عما قريب ـ السينما في مقالة لا بد أن يحتوي على عنوانه كلمة "نتفليكس". 

موت الرواية

جوزيف إبستين (1937) كاتب أميركي ناقد في المقام الأكبر عمل لأكثر من عقدين محرراً لمجلة "ذي أميركان سكولار"، وله أكثر من 30 كتاباً تضم مئات المقالات النقدية في الرواية الأميركية، وهو أيضاً كاتب قصة قصيرة، فضلاً عن كتابات أخرى لها طابع فلسفي أو تأملي. وقد صدر له أخيراً في أكثر قليلاً من 150 صفحة عن دار "إنكونتر" كتاب عنوانه "الرواية: من ذا الذي يحتاج إليها؟".

كتب جوناثان راسل كلارك بـ"لوس أنجليس تايمز" في 21 يوليو (تموز) 2023، أن كتاب إبستين ينتمي إلى تراث طويل من الكتابات الرامية إلى الدفاع عن "شرف الرواية"، فقد سبقه في هذا أمثال صمويل جونسن وإدغار آلن بو، غير أن مشكلة حجج أولئك وبياناتهم وفرضياتهم الشخصية تكمن في أن المتحفزين ضد الرواية يتغيرون، ويبقى الأنصار يدافعون بالحجج نفسها، ويوردون الفوائد نفسها، بل ويستعملون اللغة نفسها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويأتي إبستين فيكتب أن "إعلان موت الرواية بات على مدى السنين أقرب إلى الحدث الدوري، ولكن الحديث عن موتها الآن له صدقية لم تكن له من قبل". ويتساءل كلارك، بل يسخر، قائلاً "إن أحداً على مدى قرنين لم يستطع أن ينقذ الرواية، فهل يفعلها إبستين؟".

في عدد يوليو/ أغسطس (آب) 2023 من مجلة "كومنتاري" دون أستاذ الأدب السلافي في جامعة نورثوسترن، غاري سول مورسون، مستهلاً عرضه لكتاب (من ذا الذي يحتاج إلى الرواية؟)، فيقول إن إبستين أحد كتاب المقال العظماء في تاريخ الأدب الإنجليزي، تستمد مقالاته سحرها من براعته في قالبي الندرة والمقولة الوجيزة، فبفضلهما "يتألق نثره، حتى كنت أقول لنفسي إنني لأنزل عن إصبعين من أصابعي في مقابل أن أكتب بمثل براعته. ومع أن إبستين يؤثر الإيجاز، فإنه عظيم التقدير لأطول الأجناس الأدبية".

وفي عرضه للكتاب نفسه بصحيفة "واشنطن بوست" في 18 يوليو الماضي، يقول جاكوب بروغان إنه "لا يكاد يوجد في نظر الناقد المرموق من منجز أجدى من إنتاج نظرية مكتملة للرواية، فهذه هي التي تلهمنا أن نعرف كيف نقرأ ولماذا، وتفسر ما يقدمه لنا الأدب وطرقه في ذلك. وهذه الأعمال، على إيجازها، تنزع صوب الجلال، وتدين لمؤلفيها، من أمثال جورج لوكاس وميخائيل باختين، وغيرهما، فروع معرفية كاملة من البحث الأكاديمي بوجودها. غير أنه ما من سبب يجعل نظرية الرواية مسألة أكاديمية بحتة. فغالبنا قراء روايات، وجدير بنا جميعاً في نهاية المطاف أن نفكر في ما نفعله حينما نقرأها. وهذا ما يحاوله جوزيف إبستين".

ليست إذاً نظرية للرواية التي يسعى إبستين إلى طرحها في كتابه، وإنما هناك أيضاً تحريض لنا نحن عوام قراء الرواية ومحبيها على التفلسف والتأمل في هذا الجنس الأدبي الذين ندين له جميعاً بليالٍ وأيام كانت لتغلبنا فيها الوحشة والكآبة وافتقاد الصحبة والأنس، لولا روايات رافقتنا وأغنتنا بالحبر والخيال عن اللحم والدم.

 

يرى إبستين أن "قراءة الروايات الرفيعة تثير العقل إثارة لا يقدر عليها غيرها"، ويبدو أنه يرجع هذه المقدرة إلى "بوليفونية الرواية، وقدرتها على السماح لأصوات مختلفة بالاشتباك مع بعضها بعضاً". فهو يرى أن الرواية "أكثر من أي قالب أدبي آخر هي الأقدر على استيعاب فوضى التفاصيل التي تقدمها الحياة".

ثم يكتب بروغان أن هذا يعني لدى إبستين في المقام الأكبر أن "الروايات بارعة في حملنا على تمثل عقول أخرى، وذلك غالباً عبر شخصياتها، فما تفعله الرواية وتبرز فيه عن غيرها من القوالب الأدبية هو أنها تسمح لقرائها بالتدقيق في الحياة الداخلية أو السرية لشخصياتها، فتجعلها هذه الخصلة أدوات قوية لتحسين البشر، وفتح شهية المرء إلى ثراء التجربة الإنسانية. والرواية هي الضامن لاطلاعنا على رؤية معقدة للحياة بغموضها ومعناها ومغزاها".

ويفصل غاري سول مورسون ذلك بقوله إن "الروايات الجيدة تغير طريقة التفاتنا إلى ما يحيط بنا، وطريقة تعبيرنا عن أنفسنا، وتجعلنا ننعم بأفكار مناقضة للقناعات الراسخة لدينا، وتدخلنا عقول آخرين غيرنا".

يحكي إبستين أن "الرواية هي فن الحميمية فالمرء يقرأ (آنا كارنينا) فيتماهى مع بطلة ذات شخصية مختلفة وقيم مختلفة تنتمي إلى مجتمع وقرن ودين وطبقة اجتماعية غير التي ينتمي إليها، ولكن القارئ يعيش في ذهنها عبر مئات الصفحات، فقد ابتدع جنس الرواية طرقاً تتيح لنا تتبع سلسلة أفكار ومشاعر شخصية من داخلها على نحو لا يتسنى للمرء في الحياة الحقيقية. وبالاطلاع على هذه الأفكار، وعلى الخيارات الخاطئة لبطل الرواية أو بطلتها، ينال القارئ فرصة لاختبار العالم على نحو جديد. وبذلك يمارس القارئ نوعاً من التقمص الشعوري والفكري، وربما يكتسب القدرة على أن يجعل التقمص نهجاً له في الحياة الواقعية".

يقول مورسون أيضاً إن إبستين يرى أن "هنري جيمس وجوزيف كونراد وجين أوستن وجورج إليوت وبروست وتورجينيف ودوستويفسكي وتولستوي يقدمون حقيقة من نوع لا يتاح في أي مجال آخر من مجالات الأدب، فخلافاً للأيديولوجيات والعلوم الاجتماعية أو الكتابات الأخلاقية السياسية الاختزالية التي لا نفتأ نصادفها، تبين لنا (الروايات الجادة) أن الحياة أشد تعقيداً، وأكثر تنوعاً وثراءً وإدهاشاً وغرابة مما كنا نتصور، وتبين لنا ما وصفه ألكسندر سولجنتسين بحقيقة الحياة الأساسية التي تعلمها في الغولاغ (شيئاً فشيئاً تكشف لي أن الخط الذي يفصل بين الخير والشر لا يمر عبر دول أو بين طبقات أو بين فرق سياسية، وإنما عبر كل قلب بشري)".

رواية الأفكار

يرى بروغان أن ناقداً غير إبستين كان لينطلق من هذه المقدمات النظرية، بل الإنشائية إن شئتم، إلى التطبيق على روايات معينة ليرى كيف تظهر فيها هذه الأفكار، "لكن إبستين ـ على النقيض ـ أشد اهتماماً بالروايات التي لا تثبت ذلك"، أو هو بالأحرى أحرص على فضح اتجاهات ونزعات في الثقافة الحالية تعوق الرواية عن أن تكون ذلك الفن الجليل الذي عهدته فيها البشرية منذ قرون.

يعدد بروغان من هذه النزعات التي يرصدها إبستين "رواية الأفكار"، وذلك "لأنها تعلي الأفكار على الأفعال، وهذا ما قد يمثل في ذاته فكرة سيئة"، وكذلك الرواية الأسلوبية، فيتوقف عند أمثال فلاديمير نابوكوف وجون أبدايك ممن يلهيهم الأسلوب، فيقرأهم إبستين دونما حماس.

ومع تقدم الكتاب، يزداد إبستين ابتعاداً عن مناقشة مؤلفين محددين وقضايا شكلية بعينها ليتناول بدلاً من ذلك حالة الثقافة بصفة أكثر عمومية"، فمن ذلك قوله ـ بحسب بروغان ـ إن "الصوابية السياسية تدمر النشر، وإن الروايات المصورة تدمر تذوقنا للتعقيد، وإن الإنترنت تدمر قدرتنا على التركيز". وما يجمله بروغان هنا يفصله غيره بعض الشيء.

يتوسع غاري سول مورسون في عرض مآخذ إبستين على رواية الأفكار، فيقول إن "بعض النقاد يرون أن الأفكار المجردة تلوث الرواية. ويؤكدون ضرورة أن يتجنب الروائيون الأفكار المجردة، وإلا فإنهم لن ينتجوا أكثر من بحوث مختزلة متنكرة في هيئة أعمال أدبية. غير أن أعظم الروايات ـ من قبيل (الإخوة كرامازوف) و(الحرب والسلام) و(الجريمة والعقاب) و(ميدلمارش) و(آباء وأبناء) لتورجينيف ـ روايات فلسفية بلا خجل ولا تخسر من جراء ذلك أي شيء". إذاً ما العيب في "رواية الأفكار" حتى تكون سبباً من أسباب التهديد بزوال الرواية؟

يتساءل غاري سول عن الفارق بين روايات الأفكار الناجحة والفاشلة، وينقل الإجابة عن إبستين "ابتداءً، في الروايات العظيمة، تكون الشخصية وليس المؤلف، هي التي تتبنى في العادة الإيمان بأيديولوجية، أيديولوجية يتبين أنها تفشل بسبب عدم ملاءمتها لما في الحياة من تعقيد. فإيفان كرامازوف يبدأ بالاعتقاد أنه لا يوجد ما يعرف بالخير والشر، وحتى إن كان لهما وجود فهو لا يرى لهما قيمة أخلاقية، ثم إنه ينتهي إلى الشعور بالذنب إلى حد الجنون بسبب جريمة لم يرتكبها إلا على سبيل الأمنية. وهنا تلتقي النظرية المجردة بالتجربة المعيشة، وهذا ما يحدث في الروايات الفلسفية العظيمة".

يضرب غاري سول مورسون أمثلة على نفور إبستين من الكتاب الذين يغالون في الاعتماد على براعة الأسلوب، فينقل عنه قوله في "مدام بوفاري" إنها تعاني "تحجر الشعور"، وقوله إنه يجد في نابوكوف "بروداً"، وحكمه على (لوليتا)، أشهر أعماله، بأنها "أكثر عمل مُغالٍ في تقديره في القرن العشرين"، فعلى رغم الموهبة التي جعلت من نابوكوف كاتباً جيداً، فإن "افتقاره إلى قلب كبير هو الذي حال بينه وبين أن يكون كاتباً عظيماً".

ثمة أيضاً خطر الصوابية السياسية، وهذا خطر جديد على الأخطار التي دأب أنصار الرواية على التنبيه إليها في معرض تنبئهم بزوال الرواية. لقد تحدث كازو إيشيغورو، الحائز جائزة نوبل في الأدب، عن "مناخ الخوف" المدمر الناجم عن الصوابية السياسية وحشود الغوغاء على الإنترنت. "والحق أن المؤدلجين الشبان محقون في كراهية الروايات"، كما يقول غاري سول "فهي تفضح خطأ رؤاهم الاختزالية للعالم وتوجههم إلى البحث في أنفسهم عن الشر وتدفعهم دفعاً إلى الشك الذاتي، فضلاً عن أنهم يطلبون ما تأباه الرواية بطبيعتها... أي الرسالة البسيطة".

نزعة التخصيص

ولعل من أخطر النزعات الحالية على الرواية نزعة التخصيص (appropriation)، وهي فكرة أن الكاتب يجب ألا يمثل إلا الجماعة التي ينتمي إليها، سواء الجماعة العرقية أو الجندرية أو الدينية، أو غير ذلك، في حين أن مغزى فن الرواية كله هو أن يتجاوز المرء تجربته ويدخل عقلاً وقلباً مغايرين لعقله وقلبه، فيوسع بذلك من فهمه لمعنى أن يكون المرء إنساناً، ويسائل افتراضاته التي يسلم بها تسليماً، ويكتسب تشككاً صحياً في طرائق نظره إلى العالم... وهذا بالضبط ما يرفضه الأيديولوجيون.

ينقل جوناثان راسل كلارك عن إبستين قوله إنه "لم يعد مسموحاً للكاتب بأن يستولي على المادة الخاصة بمن يفترض أن هذه المادة تخصهم وتنتمي إليهم". ويمضي إبستين فيدافع عن الروائية ليونيل شريفر التي "أثارت ضجة حينما قالت وهي محقة إن الأيديولوجيات الكامنة وراء (التخصيص) ستجهز على الأدب كله".

وفي ظل تلك النزعات المعادية للرواية، من ذا الذي يحتاج إلى الرواية حقاً؟ يجيب إبستين، "كلنا... كلنا، بمن فينا أولئك الذين لن يفكروا في قراءة الروايات، كلنا في حاجة إليها، وفي عصر التشتيت الذي نعيشه قد نكون جميعاً في حاجة إليها مثلما لم يكن أحد في حاجة إليها من قبل".

ويقول غاري سول مورسون "من واقع تجربتي كأستاذ جامعي للروايات الروسية العظيمة فإنني أعلم أنه عند تقديم هذه الأعمال لا بوصفها منجزات تقنية أو وثائق من عصر مظلم، وإنما بوصفها استكشافات لأهم أسئلة الحياة التي نواجهها جميعاً، فإن الطلبة يستجيبون بحماس ويفهمون لماذا كل هذه الجلبة في شأنها. فلو توافرت قراءة سليمة لـ(الإخوة كرامازوف) أو لـ(آنا كارنينا)، ففي اعتقادي لن يجادل أحد حجج إبستين ودفعه بأن الروايات تقدم حكمة لا وجود لها اليوم في غير الروايات".

المزيد من كتب