Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التراشق العنكبوتي في حرب القطاع

فنانون عرب ومؤثرون إسرائيليون دخلوا في صدامات واستفزازات على الـ "سوشيال ميديا"

الحرب الدائرة في غزة انتقلت إلى مواقع التواصل الاجتماعي بالتراشق والشتائم (أ ف ب)

ملخص

 مع تصاعد الأحداث في غزة وتعقد التفاصيل وتشابك الحقائق وتعثر الحلول، تزداد حدة التراشق على منصات التواصل الاجتماعي.

لا صوت يعلو على صوت التراشقات الزاعقة الدائرة، ففي حرب القطاع لا مجال للحديث عن طرف يرشق آخر باتهامات، أو آخر يتلقى الهجمات مكتفياً بعلاج ما ينجم من كدمات.

في حرب القطاع الجميع يتراشق والجميع يتلقى حجارة الكلمات ولكمات الاتهامات وصفعات متواترة من الشتائم والأحكام الشعبية الصادرة عن ملايين المغردين والمدونين والمستخدمين العاديين لمنصات "التراشق الاجتماعي".

ومنذ تفجر الطوفان في قطاع غزة والـ "سوشيال ميديا" تفرض نفسها أو تجد نفسها طرفاً رئيساً ولاعباً محورياً وفاعلاً كلامياً في الكارثة الدائرة رحاها، ومن دون مبالغة فإن الغالبية العظمى من مستخدمي هذه المنصات، لا سيما سكان الشرق الأوسط والمهتمين بالصراع العربي - الإسرائيلي، وانضم إليهم المدافعون عن إسرائيل ووجودها وما يسمونه "حقها" في العيش بأمان، يضخون كماً غير مسبوق من المحتوى الذي يهيمن عليه طابع التراشق.

ملوك التراشق

ملوك التراشق الكلاسيكيين في ملف القضية الفلسطينية لا يزالون يهيمنون على الساحة لتصاعد وتفاقم قدراتهم على التراشق وتوحدت ملكاتهم في استفزاز الطرف الآخر، وذلك بدافع فداحة "حرب القطاع" مقارنة بما سبقها من حروب داخله، وأيضاً لتغير كثير من التوازنات والتحالفات وسابق ميول التأييد وكذلك المعارضة، فصارت جهود التراشق لديهم أعتى والحروب النفسية الكلامية الافتراضية التي يجري شنها على الطرف الآخر أكثر حدة واستفزازاً.

الاستفزازات في زمن الكوارث والمصائب تتحول حرباً حامية الوطيس، وشخصيات إسرائيلية عرفت على مدار السنوات الماضية بتغريداتها وتدويناتها وصورها وفيديوهاتها الموجهة إلى المستخدمين العرب، لا سيما الداعمين للقضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين المهدورة، صعدوا من حدة رسائلهم على وقع حرب القطاع.

المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي أفيخاي أدرعي من أشهر هؤلاء، فتغريداته وتدويناته المتواترة في الأيام العادية ظاهرها مودة وصداقة ومعايدات للعرب في أعياد غالبيتهم المسلمة ومجاملات في المناسبات، وباطنها ملغم ومحمل ومعبأ بالرسائل غير المباشرة التي لا تخلو من سموم تباهي بالقوة وتتماهى بالمودة الغارقة في الادعاء، وتتعامى عن قدر الردود والتعليقات العربية التي تنعته بالكذب وتصفه بالعدو، أما المحتوى الإلكتروني الذي يبثه منذ بدء حرب القطاع فخليط من الكيد المخلوط بالمودة والإغاظة المشوبة بالبراءة والانزعاج الذي لا يخلو من اتهام الآخرين بما يوجه له شخصياً ولدولته من اتهامات ومخططات يجري العمل على تنفيذها مع الإصرار على إنكارها.

حلبة الـ "سوشيال ميديا"

إنكار المخططات وادعاء القيام بدور الجار اللطيف والصديق الودود ليسا المنهج المتبع من قبل آخرين في حلبة الـ "سوشيال ميديا" في الأيام العادية، فما بالك بالأيام غير العادية، ويظن بعضهم أن الدعوة الإسرائيلية وغيرها من الدول الداعمة لها، تمليحاً أو تصريحاً، بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء كملجأ موقت أو إقامة شبه دائمة أو وطن بديل هي نتاج "هجوم حماس"، لكن المتابع لحلبة الـ "سوشيال ميديا" يعرف أن أشخاصاً مؤثرين من حيث عدد المتابعين والدور المنوط بهم لعبه في الصراع، يطرحون هذا الحل بصورة اعتيادية.

 

 

وقد اعتاد كثيرون الاطلاع على تغريدات وتدوينات الكاتب الإسرائيلي أيدي كوهين التي تعتنق مبدأ السخرية من العرب والتقليل من أهمية وقيمة ومكانة فلسطين وأهلها، واقتراح حلول للصراع ينعتها كثيرون بـ "السخيفة" أو "الخيالية" أو "المستفزة" أو كل ما سبق، لكن لم يحدث أن وصلت تغريداته وتدويناته وبعدها تصريحاته في الإعلام التقليدي إلى هذا المستوى من الجرأة والتصعيد وإثارة السخط لدى الفريق الآخر.

"توطين الفلسطينيين في سيناء مقابل حذف ديون مصر الخارجية، فكروا فيها".

كلمات مدروسة ومكتوبة بعناية فائقة وموجهة من كوهين إلى الفريق الآخر قبل أيام، وهو الفريق الذي لم يدخر جهداً في الرد والتغريد والتدوين المضاد، إذ بدا التراشق المعتاد في ظل حرب القطاع وكأنه لا يكفي.

ماكينات المعلومات

كفاية ماكينات المعلومات المضللة والمفبركة والتزييف العميق والسطحي التي تعتري منصات التواصل الاجتماعي في الأيام العادية وتتفاقم خلال أوقات الحروب والأزمات، لزوم الاستقطاب وصناعة وتوجيه الرأي العام، لم تعد كافية أو منفردة، وأثير الـ "سوشيال ميديا" ينتفض على مدار الساعة برشقات حقيقية بين مستخدمين حقيقيين، الرشقات العاتية بين الفريقين الرئيسين الداعم لفلسطين وحق الفلسطينيين، والداعم لإسرائيل وحق الإسرائيليين.

هذه الانتفاضة العاتية طغت على هموم الأخبار المفبركة وأخطار التزييف وجسامة الكذب على الأثير، وينتفض الأثير معارك وحروباً واتهامات في كل الاتجاهات من قبل أشخاص حقيقيين هذه المرة، فصحيح أن أخباراً غير دقيقة وصوراً ومقاطع فيديو غير موثقة تظهر لديهم بين حين وآخر، لكن تظل الحرب العنكبوتية الحالية قائمة على تراشق الجبهتين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والجبهتان عامرتان بالاتهامات المتبادلة، فالجانب الفلسطيني بادر بالاعتداء على إسرائيل والمدنيين الإسرائيليين، ورد الصاع صاعين هو المبدأ الوحيد المقبول مع الدق على أوتار الجماعات الدينية الإرهابية والتهليل والتكبير للقتل والاعتداء، وفي الوقت نفسه فالجانب الإسرائيلي لم يكتف باحتلال أرض فلسطين وتشريد أهلها، بل رفض كل الحلول مع استمرار العنجهية وسلب الحقوق، لذا فإن الغاية تبرر الوسيلة.

وهذه المرة لم يتفق الطرفان المتناحران المتراشقان على الأثير إلا على نعت كل من لا يتخذ موقفاً مطابقاً له بأن يديه ستكونان مخضبتين بالدماء.

ودماء الـ "سوشيال ميديا" تختلف عن الدماء التي تراق على أرض الواقع، لكنها تتولى مهمات كبرى في توجيه دفة الحروب عبر تشكيل وتهييج وتغيير وتوعية وتعمية وإيقاظ وتنويم الرأي العام، سواء كان ذلك بحسن نية أو بسوئها، لكن الملاحظ هذه المرة أن السمة الغالبة على التراشق العنكبوتي أن جزءاً كبيراً منه نابع عن قناعات حقيقية ومشاعر واقعية يحملها المتراشقون بين ضلوعهم.

مناشير أنغام

التراشق الأشهر حتى اللحظة، نظراً لأن المتراشقين من الشخصيات العامة، هو ذلك الذي دار على أثير منصة "إكس" بين المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي أفيخاي أدرعي والمطربة المصرية أنغام، وكعادة هذه التراشقات فقد بدأ الأمر بتغريدة غارقة في التسييس والتعبير عن المظلومية والدعوة إلى التضامن، فقد حملت تغريدة أدرعي دعوة إلى سكان حي الزيتون (شمال قطاع غزة) للتوجه جنوباً "حفاظاً على سلامتهم"، فما كان من أنغام إلا أن ردت "ربنا ياخدك ويريحنا من وشك (وجهك)"، فهرع أدرعي الذي كثيراً ما يستخدم أسماء فنانين عرب أو عبر "منشن" أو "تاغ" أو مجرد كتابة الاسم في تغريداته للرد على أنغام وكتب، "حضرة الفنانة أنغام والتي من المفترض أن تكون على قدر من الرقي في مناشيرها، إن الله سيفتكر عباده جميعاً وليس هناك من معمر على هذه الأرض، لكن الفرق أن هناك من سيلقى في الآخرة العذاب الأليم وهناك من سيتفقده، عز وجل، برحمته على أفعاله الإنسانية"، مضيفاً، "أرجو ألا تكوني من مصير الفئة الأولى لدعمك مخطط دواعش حماس الذين قتلوا واغتصبوا وحرقوا المدنيين الإسرائيليين وهم نائمين".

 

 

وردت أنغام، "انت يا اسمك إيه! من دون رقي ولا أدب لأنك ما تستحقش (لا تستحق) الأدب في الكلام ولا التعامل، أنا اسمي أنغام مطربة مصرية عربية، عارف يعني إيه مصرية؟ يعني مصر الرقي والأدب مع الراقيين، فقط مش مع اللي زيك يا صهيوني"، مضيفة "شوف أنت كام فعل عملتوه من يوم ما احتليتوا أرض فلسطين يا اسمك إيه إنت! وفلسطين وشعبها بيقاوموا محتل غاشم مجنون مغتصب يا قتلة الأطفال" إلى آخر الرد على رد على التغريدة.

تغريدات وتدوينات ومقاطع مصورة تتراشق بها الملايين، وكل يدعم بها قضيته ويناهض بها قضية الفريق الآخر، وملايين الفلسطينيين في الداخل وفي الخارج والعرب وغير العرب من المتضامنين مع المدنيين العزل المعرضين للقصف والتهجير وفي أقوال أخرى الإبادة، وكذلك مع القضية الفلسطينية، إذ إن غياب الحل العادل وحق الفلسطينيين في دولة وتعرضهم الدائم للظلم والتضييق والحصار يوجه سهام الكتابة والصور والمقاطع المصورة عبر الأثير نحو الفريق الداعم لإسرائيل، والعكس صحيح.

سلاح الأثير في حرب القطاع

ومع تصاعد الأحداث وتعقد التفاصيل وتشابك الحقائق وتعثر الحلول تزداد حدة التراشق الذي باتت جموع المستخدمين تعتبره سلاحها في حرب القطاع تارة، وملجأها شبه الوحيد تارة أخرى لتعبر فيه عن رأيها وتنفس عبره من قلقها.

قلق عارم لا يمكن إخفاء ملامحه وأماراته عبر آلاف الكتابات والصور والفيديوهات التي ظاهرها دفاع عن القضية وباطنها غضب وقلق وكراهية للطرف الآخر المتسبب في المعاناة.

معاناة إضافية تتكبدها الملايين الداعمة لفلسطين، وهي التضييقات التي تفرضها شركات التواصل الاجتماعي منذ بدء حرب القطاع وتفاقمت مع استمرارها وتشابكها، فعلى سبيل المثال لا الحصر فوجئ مستخدمو "فيسبوك" و"إنستغرام" من الفريق الداعم للقضية الفلسطينية بصورة عامة والمنددون بما يتعرض له أهل غزة حالياً، بحذف متكرر لكلمات بعينها وصور من دون أسباب واضحة، ووصل الأمر لدرجة مثيرة للغضب حين تم حذف صور لمحيط مستشفى الأهلي المعمداني الذي تم قصفه موقعاً مئات القتلى والمصابين، والغريب أن السبب المذكور من قبل شركة "ميتا" للحذف هو أن الصور "تنتهك المبادئ التوجيهية للمحتوى الجنسي"، وهو ما فسرته الشركة في ما بعد بـ "خلل فني".

حرب القطاع تفجرت بسبب خلل واضح ومزمن في الحقوق والوعود، وليس مستغرباً أن يتمدد هذا الخلل إلى الحراك العنكبوتي ليحوله إلى عراك ويتهم من ينأى بنفسه عن المشاركة بالخنوع والخيانة، وإن شارك فهو حتماً "عدو الإنسانية" و"عاشق قتل الأطفال" و"مدافع عن الباغي" في نظر الفريق الآخر.

ضغط من أجل التراشق

تحت عنوان "ليس من الضرورة أن أكتب عن غضبي ولا أنت" تطرقت الكاتبة الأميركية إليزابيث سبيرز في مقالة نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية إلى الضغط الهائل الذي يتعرض له مستخدمو الـ "سوشيال ميديا" ليتخذوا موقفاً في حرب القطاع، وقالت إنها ليست يهودية أو فلسطينية، وإن السياسة الخارجية ليست ضمن اهتماماتها، لكنها فوجئت لدى فتح صفحتها على "إكس" أن كثيرين يطالبونها باتخاذ موقف تجاه الحرب الدائرة.

 

 

تقول، "يبدو أن معظم الأشخاص على وسائل الـ ’سوشيال ميديا‘ قد أدلوا ببيانات تعبر عن مواقفهم، بمن في ذلك شركات وعلامات تجارية ومؤثرون وأشخاص عاديون"، مضيفة أنه بدا أن الجميع من اليمين واليسار يعزون صمتها إلى اللامبالاة الخسيسة التي تدفعها إلى هدم الاهتمام بالإنسانية. ولخصت سبيرز ما يجري على أثير الـ "سوشيال ميديا" من حراك متأجج بقولها إن الجميع ينعتها بذلك على رغم أن هذا الجميع يختلفون في ما بينهم حول هوية "الطيب" و"الشرير"، مشيرة إلى أن الاندفاع نحو الكلمات والتدوينات الصاخبة يعكس خوفاً حقيقياً وصادقاً من الأهوال التي تحدث والتي لا يمكن وصفها بالكلمات، وأنه من المريح والممتع أن يقنع كل مستخدم نفسه بأنه يقف إلى جانب الخير ضد الشر، بدلاً من السؤال إذا ما كانت الخطوط الفاصلة بينهما قد رسمت بصورة صحيحة.

في انتظار الخطوط الفاصلة

لكن في ظل التراشق الرهيب الدائر على مدار الساعة يبدو انتظار رسم الخطوط الفاصلة بالصورة الصحيحة أمراً خيالياً، فجزء من حرب القطاع يدور على أثير الـ "سوشيال ميديا"، وجزء من رد الفعل على هذا الحراك والتراشق العنكبوتي يرتد مجدداً إلى أرض الواقع، وقبل أيام اعتقلت الشرطة الإسرائيلية الفنانة الفلسطينية دلال أبو آمنة بسبب تدويناتها على "إكس" والتي عبرت فيها عن دعمها لفلسطين وغزة، وهو ما اعتبرته الشرطة الإسرائيلية تحريضاً على ممارسة العنف والإرهاب.

موازين حرب القطاع آخذة في التغير والتحول وإن كان يصعب التنبؤ بها، شأنها شأن مجريات الأمور على الـ "سوشيال ميديا"، والحراك المشحون على منصات التواصل الاجتماعي أسهم بدرجة كبيرة في دفع الآلاف في دول غربية للنزول إلى الشارع والمطالبة بتحرير فلسطين.

ويقول خبراء علم النفس إن من ينخرطون في تراشقات كلامية عنيفة أو جدالات مفرطة على منصات الـ "سوشيال ميديا" غالباً ما يعانون خللاً عاطفياً يدفعهم إلى الاستجابات العاطفية المفرطة لأشخاص لا يعرفونهم وأحداث لا تؤثر فيهم مباشرة، لكن في حرب القطاع فإن التراشق العنكبوتي المحموم ناجم عن تأثر إنساني يصعب تجاهله أو اعتباره شأن الآخرين، واللافت أن مواقع علمية عدة متخصصة في شؤون الصحة الجسدية والنفسية تنشر منذ اندلاع الحرب نصائح للتعامل مع القلق والهلع الناجمين عن الأحداث وصور القتل والدمار، وأبرز النصائح تقليل عدد ساعات التعرض للأخبار والانخراط في متابعة ما يتم نشره على الـ "سوشيال ميديا" عما يجري في غزة وكذلك في إسرائيل، وهو ما يؤجج غضب المتراشقين العنكبوتيين الذين يتهمون الناصحين بالبلادة واللامبالاة وتجاهل مآسي البشر، وإن بقيت جنسية البشر محل خلاف.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات