ملخص
بين سيزيف وبروميثيوس وأوديب وفيدر وفاوست وهاملت... تمرد ورغبة في المعرفة وعقاب
شكلت الميثولوجيا الإغريقية أساس العبادات والمعتقدات التي آمن بها اليونانيون القدماء، فكانت لديهم آلهتهم وكهنتهم ومعابدهم وأساطيرهم وطقوسهم. ورسخت هذه الميثولوجيا بقصصها وأخبارها وشعائرها جزءاً كبيراً أو الجزء الأكبر من الدين السائد آنذاك، هي التي قامت على صراعات في ما بين الآلهة القدامى، وكذلك بين الإنسان الفاني وهذه الآلهة الخالدة المستبدة. وقد خلقت الميثولوجيا للآلهة مشكلات وهموماً وأهواء ونزعات ومشاعر وغرائز تضارع بشكلها وتعقيدها وحدتها تلك، الموجودة في عالم الفانين. فوُجد الآله زوس الذي يخشاه الجميع، ووجد جبل أولمب ومجتمعه وقوانينه ليكون المكان الذي تعيش فيه الآلهة، ووجدت الغيرة والحسد والخوف والنميمة والحب والتزاوج والكبرياء وغيرها من المشاعر الإنسانية التي ألصِقَت بالآلهة، لتقربهم من المخيلة الشعبية ولتجعل الدين في متناول البشر.
عُني كثر بتفاصيل هذه الميثولوجيا الإغريقية وشخصياتها وأبطالها، وانبثق كذلك مسرح تراجيدي كامل تطرق إلى أخبار الميثولوجيا وجسد الآلهة والأبطال من البشر ووضعهم في مواقف معقدة ضمن حبكات درامية سردية صعبة.
ولم تكن هذه الميثولوجيا مجرد قصص خيالية وسرد غير واقعي، بل كانت ركيزة الدين القديم قبل أن يعرف الإنسان الأديان التوحيدية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام). وجسدت هذه الميثولوجيا بقصصها وتعقيداتها والنزاعات التي تقدمها، أبطالاً وآلهة وشبكة علاقات معقدة تربطهم بعضهم يبعضهم. جسدت هذه الميثولوجيا موضوعات حب المعرفة والتمرد والتحرر وسطوة الآلهة والهيراركية بين الفانين وغير الفانين، وغيرها من المعتقدات التي انتقل شيء منها إلى الأدب العالمي وإلى الأديان السماوية.
تتناول الباحثة اللبنانية جيهان ريمون فرحات في بحث لها بالفرنسية كان أساساً أطروحة الدكتوراه التي حصلت عليها في الأدب الفرنسي، المسرح التراجيدي وشبكة العلاقات التي تربط الإنسان بالآلهة والقدر، عبر دراسة أعمال مسرحية تراجيدية أوروبية عدة من بينها مسرحيات مثل: فيدر وأوديب الملك وبروميثيوس أو مسرحيات أجدد منها مثل فاوست ودون جوان وهاملت والأحدث منها بعد على غرار مسرحية "بانتظار غودو" لبيكيت.
وما لبثت أطروحة فرحات أن نالت أصداء إيجابية في العالم الفرنكوفوني فصدرت كتاباً عن الدار الفرنسية "لارماتان" وهو نادراً ما يحصل في حالة أطاريح الدكتوراه، لتضاف دراستها إلى قافلة المؤلفات العلمية التي عالجت مسائل التراجيديا والمثيولوجيا والمسرح الإغريقي والبطل الإغريقي وعلاقته بالآلهة وبالقدر. جاءت الدراسة بعنوان "الإنسان والآلهة والقدر، دراسة جدلية العلاقات بينهم من خلال المسرح التراجيدي الأوروبي". (Des hommes, des dieux et du destin, Poétiques des relations dans des pièces du théâtre tragique européen, L’Harmattan, 2022)
أبواب الدراسة ومنهجيتها
تختار جيهان أن تقسم دراستها إلى ثلاثة أبواب كبيرة، الأول يتناول الإنسان وعلاقته بالآلهة وبالتمرد وبالخطيئة وبالحرية وبالمسؤولية وبالشعور بالذنب، أما الثاني فيتناول الأمور من ناحية الآلهة وطباعها ووظائفها وصفاتها وتدخلها في حياة الفانين من البشر والعقاب الذي تنزله بالمتمردين منهم. وتكرس فرحات الباب الثالث من دراستها للقدر والمكتوب والمصير الذي لا مفر منه والذي يحول الإنسان إلى كائن ملعون مجبر على عيش ما كُتب له مهما حاول الهرب منه، وأبرز مثال على ذلك فيدر التي أغرمت بابن زوجها، أو الملك أوديب الذي لم يستطع الفرار من مصيره طيلة حياته فتزوج والدته وقتل والده.
تخرج فرحات من دراستها باستنتاجات أدبية فكرية فلسفية جميلة ومفيدة وشيقة، وتخرج أيضاً بنقاط التقاء بين المسرحيات التي اختارت العمل عليها. وبحديث أجريناه معها لمناسبة صدور كتابها تتحدث فرحات عن الأبطال في التراجيديا وكيف أنهم دوماً ما يعاقبون لتمردهم، فلا يمر تجاوز الإنسان لما خصص له بلا عقاب، ولا يمر انتهاكه لقوانين الآلهة من دون أن تبادر هذه الأخيرة بإنزال القصاصات به. إن خطيئة مخالفة إرادة الآلهة لا تغتفر وهي حال أبطال التراجيديا جميعهم، فجميعهم يعاقبون ويتألمون لتمردهم ولرغبتهم بالتحرر من قيود الآلهة. إن البحث عن المعرفة والرغبة في التساوي بالآلهة كانت هم الإنسان الأول وكانت السبب لخروجه الأول من الجنة حتى في الأديان السماوية، فآدم لم يطرد إلا لما خالف قوانين الله وحاول التشبه به. لا تتغاضى الآلهة عن الخطأ والتمرد كما أنها لا ترحم الإنسان الذي تنشأ لديه الرغبة في المعرفة والتحرر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما القدر فهو اليد من حديد، اليد الأزلية الأبدية، التي تتحكم بالمصائر وبالبشر. فلا مفر مما هو مكتوب مهما حاول البطل ومهما تمتع بميزات الشجاعة والقوة والحنكة والحكمة. والتمرد نتيجته العقاب دوماً. فاوست الذي أراد الخلود والمعرفة عوقب، أوديب الذي كان ملكاً جباراً لم يستطع الفرار مما هو مكتوب له، إيكار نفسه عندما أراد التحليق قرب الشمس (رمز الآلهة والمعرفة والقوة) احترق، كذلك بروميثيوس الذي سرق النار (رمز المعرفة والفنون) من الآلهة ليعطيها للإنسان، عاقبه زوس بأن علقه على صخرة. ولا ننسى طبعاً سيزيف الذي كان عقابه على تمرده على الآلهة أن يمضي حياته في دفع صخرة إلى أعلى جبل في عمل مستمر متكرر إلى ما لا نهاية.
تتناول فرحات كذلك مسألة الشعور بالذنب وكيف أن الإنسان السعيد يشعر بالذنب دوماً، كذلك هي حال المؤمن الحديث. فسواء في الدينين المسيحي أو اليهودي هناك حال من الذنب نابعة من الخطيئة الأولى التي اقترفها الإنسان الأول. وهناك كذلك مفهوم الصلاة التي خلقت من عجز الإنسان ورغبته في تغيير مصيره، فيروح يصلي ليتغير مسار الأمور. لتكون الأضاحي التي فيها دماء هي الأضاحي التي يقدمها الإنسان لطلب المغفرة والمؤازرة من الآلهة. قدم الفانون القدماء ذبائح للآلهة من الحيوانات ليحاولوا أن ينالوا رضاهم، وهذا النوع من الأضاحي انتقل إلى الأديان السماوية في مواضع عدة. فأضحية قايين كانت من نتاج أرضه بينما جلب هابيل أفضل أغنامه لذبحها، فسُر الله بهابيل وتقدمته، أي بالغنم وليس بالزرع. كذلك هي حال إبراهيم الذي أراد الله منه أن يضحي بابنه الأول إسماعيل ليمتحنه لكنه عاد وقال له أن يذبح كبشاً أبيض وهما كلاهما أضحيتان من الكائنات الحية. ليبقى المثال الأكبر على حب الآلهة لأضاحي الدماء والذي يتجسد في الديانة المسيحية، أن المسيح كان أضحية من لحم ودم لفداء البشر وحمل خطاياهم بدلاً منهم.
تعد التراجيديا من أهم فنون المسرح الإبداعي الدرامي وأكبرها، ولها مكانتها الهائلة في الأدب الأوروبي. فالمسرح إنما هو مكان تلقين وتحرير وتطهير (initiation, libération, purification) ودراسة المسرح التراجيدي لا يمكن إلا أن تكون مثرية ذهنياً وفكرياً وأدبياً وإنسانيا لكل قارئ، والعمل الذي قامت به جيهان ريمون فرحات هو دراسة مهمة منهجية مثرية ضرورية لكل قارئ وعاشق للأدب وللأساطير، فعسى أن تترجم هذه الدراسة إلى العربية ليفيد منها القراء العرب.