ملخص
أعاد اكتشاف مقام الأنا واستثمر طاقات الحياة المعيشة
يقوم مشروع الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (1859-1938) على القول بضرورة استعادة الصدقية العلمية التي كانت الفلسفة تتمتع بها في زمن الإغريق الأوائل. لكي يواجه المرء أزمة الثقافة وأزمة العلوم في الأزمنة المعاصرة، ينبغي له أن يستخرج أصول المعرفة وأسسها من ارتباط الذات أو الوعي بحركة العالم وحيوية ظواهره وكائناته وموجوداته وأشيائه. ومن ثم، لا بد من تحليل عمل الوعي في إقباله على العالم، واستنباط القواعد التي تخضع لها الذات في سعيها إلى استجلاء طبيعة هذه الظواهر. وحدها الفنومنولوجيا تستطيع أن تتدبر هذه الظواهر، فتمضي إليها لتستنطقها عن ماهيتها، بحيث يضحي علم الظواهر أو علم الفينومنات هذا وصفاً دقيقاً يتناول الظاهرة في ما تنطوي عليه من قابليات التجلي والظهور. فالحقيقة، خلافاً للمتافيزياء القديمة، تعتلن في الظاهرة، أو بالأحرى في ظهور الظاهرة، لا في الجوهر المتعالي المنحجب الذي يتجاوز الظاهرة إلى عالم المثل. تجدر الإشارة إلى اصطلاح الفيمياء عديلاً للفنومنولوجيا، وقد نحته الفيلسوف اللبناني موسى وهبه (1941-2017) على وزن فعلياء (كيمياء، فيزياء).
من الرياضيات إلى علم المنطق والفلسفة
ولد هوسرل في مقاطعة موراڤيا (الإمبراطورية النمسوية-الهنغارية) ودرس الرياضيات والفيزياء والفلسفة. في العام 1882 ناقش أطروحته في الرياضيات. غير أن محاضرات عالم النفس الفيلسوف الألماني-النمسوي فرانتس برنتانو (1838-1917) أثرت فيه فجعلته ينعطف إلى دراسة الفلسفة. فإذا به يعد عام 1887 أطروحة الأستاذية في مفهوم العدد. في العام نفسه وكلت إليه جامعة هاله تدريس بعض المواد، قبل أن يصبح العام 1901 أستاذاً في جامعة غوتينغن. في هذه الأثناء، نشر "المباحث المنطقية" untersuchungenLogische . ومن ثم، أنشأ كتابه الشهير "الفلسفة علماً دقيقاً" Philosophie als strenge Wissenschaft. في عام 1916 انتقل إلى التدريس في جامعة فرايبورغ.
هل تستطيع الفلسفة أن تتحول إلى علمٍ دقيقٍ صارمٍ؟
كان هوسرل حريصاً على إعادة تأسيس الفلسفة واستنقاذها من انتقادات الفلسفات الوضعية التي تقصي من دائرة المعرفة كل ما يخالف منطق المعطيات العلمية الموضوعية. لذلك اجتهد في ترميم المعرفة الحق التي تقوم على أساس العقل الكوني الذي تصوره الفلاسفة الإغريق الأوائل، وقد سحرتهم الفلسفة في تجردها المنفعي ونزاهتها البحثية. أما السبيل الأقوم فالمضي إلى الأشياء عينها zu den Sachen selbst أو المطالب عينها، ووصفها في ظهوريتها المجردة واستخراج الماهيات التي تزخر بها وتجعل التفكير مستحيلاً من دونها. هذا كله يستوجب إنشاء علمٍ جديدٍ استخدم له هوسرل الاصطلاح المعروف بالفنومنولوجيا.
لا عجب، والحال هذه، أن تنعقد فلسفة هوسرل على طلب الماهيات في كل شيء، إذ إن المعرفة الحق تعاين الصور المطلقة التي تتيح للظواهر أن تظهر على حقيقتها، وتتيح للفكر أن يفكر في الموجودات تفكيراً قصياً. ومن ثم، بدا لهوسرل أن هذه الماهيات يجب أن تظل مستقلةً عن الخصائص الفردية الطارئة. وهذا مطلب أفلاطوني قديم. لذلك تقتضي الطريقة الفنومنولوجية أن يستنبط الفيلسوف القوانين الأساسية التي تنتظم بها هذه الماهيات، حتى يستطيع كل إنسان أن يعاين معنى الأمور في كل ما يظهر له في اختبارات وعيه المنفتح على العالم. غالباً ما أستخدم، عديلاً لصفة الترانسندنتالي، اصطلاحات المجاوز والمتعالي والاقتضائي، وجميع هذه الأوضاع تشير إلى البنية القبْلية التي بها تنتظم عملية المعرفة في الوعي حتى قبل أن تمارس الذات فعل المعرفة.
من خصائص هذه الطريقة رد الظواهر إلى ماهياتها الأصلية بحيث يعرض الوعي عن عناصر الاختبار التي تلازم معطيات الاختبار المحسوس، ويمضي إلى الماهية الكونية العامة. إذا أردنا أن ندرك معنى الرغبة الإنسانية إدراكاً فلسفيا رصيناً يليق بالمعرفة العلمية الحق، كان علينا أن نجردها من الطوارئ الاختبارية التي علقت بها في الأوضاع الفردية المنعزلة، حتى نستطيع أن نستخرج من تحليل أحوال الرغبة الماهية الأساسية التي تحملها في صميم كينونتها. خلافاً للفلسفة الأفلاطونية، تصر الفنومنولوجيا على القول بأن الظاهرة (الفنومنون) هي بعينها اعتلان الماهية الأكمل.
استخراج الماهيات وتعليق الأحكام واستجلاء الأنا الخالصة
في سياق مشروع ديكارت وكانط، سعى هوسرل إذاً إلى بناء المعرفة على أساس ذاتية الأنا التي تعقل الأمور عقلاً خاضعاً لناموس الوعي. لذلك حارب المذهبين الوضعي والنفسانوي اللذين لا يعترفان بسلطان الذاتية هذه، إذ إن الوضعية تحصر المعرفة بتحليل الوقائع تحليلاً موضوعيا علميا يقصي الذاتية إقصاءً مبرماً، والنفسانوية تعطل هذه الوقائع وتحيلها على معطيات الاختبار النفسي، فتقيد الفكر وأحكامه بسلاسل الاعتمالات النفسانية الجوانية، أي بالقوانين الفيزيائية التي تحكم الحياة النفسية. ومن ثم، يهمل المذهبان مركزية الذات المفكرة، أي الكوجيتو الذي منه تنبثق كل عمليات الإنتاج المعرفي.
يقترح هوسرل في منهجيته ثلاثة ردود إرجاعية Reduktion. إذا كان الرد الأول يقتضي إرجاع الظواهر إلى ماهياتها الأصلية، فإن الرد الثاني رد فنومنولوجي يعلق الأحكام، فيضع العالم الخارجي الموضوعي بين هلالين، ويبطل أثره إبطالاً موقتاً بواسطة تعليق كل المعتقدات التي نظن أننا اكتسبناها في وصف هذا العالم وصفاً وجوديا. كل ما نعتقده صائباً في اختبارنا الوجودي يصبح باطلاً من جراء تعليق الأحكام الفنومنولوجي هذا، بحيث يعود الوعي إلى ذاته ليتأمل في بنيانه المحض، وعمله الخاص، ونظام وعيه.
يجرؤ هوسرل فيحرضنا على أن ننجز رداً ثالثاً، عنيت به الرد الترانسندنتالي الذي يتخلى حتى عما يظنه الآخرون أنه الأنا التجريبية المتمرسة باختبار العالم، وينفرد بمعاينة نشاط الأنا الخالصة. على هذا النحو، يعتقد هوسرل أنه بلغ أقصى حدود التجريد الذي يؤهلنا لبناء المعرفة على قاعدة الكوجيتو المحض، أي على أساس تفكر الذات في وعيها الذاتي. ليس هذا الكوجيتو شبيهاً بكوجيتو دكارت (أنا أفكر، إذاً أنا موجود)، إذ إن الذات الدكارتية جوهر قائم بمعزلٍ عن العالم، في حين أن الأنا الهوسرلي الخالص نشاط يربط الوعي بالعالم. فالوعي وعي العالم وأغراضه، ولكنه وعي متحرر من تشوهات المعاني التي ألصقت بهذه الأغراض. ومن ثم، تتجلى الأنا الخالصة أصلاً ثابتاً عليه تقوم الفلسفة كلها. الأنا الترانسندنتالية الاقتضائية المجاوزة تدل، في لغة هوسرل، على الوعي الذي يغدو مبدأ كل معرفة، وقد انعتقت من التصورات المنحرفة والأحكام الخاطئة واستطاعت أن تتحرر من الأناوحدية (Solipsismus).
الوعي إقبال على العالم ودخول عفوي في اختبار الحياة
من الواضح أن الردود الإرجاعية التنقيحية الثلاثة، أي الرد إلى الماهيات والرد الفنومنولوجي الذي يعلق الأحكام والرد الترانسندنتالي الذي يفضي إلى الأنا الخالصة، ليست ردوداً انعزالية تحبس الوعي في قفص التجريد العقيم. خلافاً لذلك، يتصور هوسرل الوعي في نشاطية الإقبال المطرد على العالم. ليس من وعيٍ منعزلٍ عن مطالب الحياة، وشجون الوجود، وأغراض المعرفة. كيف لي أن أعي في الفراغ المطلق؟ حتى وعي الوعي يتضمن موضوعاً واضحاً هو الوعي نفسه، إذ أستطيع أن أعي عملية الوعي وأتأمل في نظام إدراكي الخاص، بحيث يصبح الوعي موضوع وعيي. ومن ثم، يستخدم هوسرل اصطلاحاً ملهماً يصف به نشاطية الوعي، فينادي بالقصدية التي تجعل الوعي وعي شيءٍ ما، أي أشبه بإقبالٍ مطردٍ على العالم، واندفاعٍ حركي إلى اختبار ارتباطه الوثيق بالوجود.
لا بد هنا من إنصاف فرانتس برنتانو الذي ألهمه القول بقصدية Intentionalität الوعي، أي بضرورة اقتران الوعي بموضوعٍ ما Bewusstsein ist immer Bewusstsein von etwas. لا يملك الوعي إلا أن يقصد العالم أو أن يتوجه إليه، أي أن يخرج إليه في مجاوزة استطلاعية تنحت المعنى نحتاً. ذلك بأن هذا الوعي انفتاح دائم على العالم والآخرين. بيد أن هذا الانفتاح لا يجعل الوعي ذاتاً متسلطةً، والعالم موضوعاً منفصلاً خاضعاً لهيمنة الذات. من خصائص فلسفة هوسرل أنها ترفض القطيعة الأونطولوجية التقليدية بين الذات والموضوع. بفضل مبدأ القصدية، يرتبط الوعي والعالم الواحد بالآخر ارتباطاً وثيقاً يتيح لكليهما أن يتبادلا المعطيات والخبرات.
نقد المادية والتاريخوية
بعد أن أنجز هوسرل في المرحلة الأولى من كتاباته الممتدة حتى العام 1901 بعض الأبحاث العلمية في الرياضيات والنفسانيات، انتقل في المرحلة الثانية (1907-1913) إلى بناء منهجه الفنومنولوجي الذي يستلزم معرفة الماهيات. إذا أردنا أن نبسط أصول هذه المعرفة، قلنا إن الإنسان يرغب في معرفة حقيقة الأمور. لذلك لا يكتفي بالقشور والجزئيات والعناصر الثانوية السطحية الخارجية. كل واحدٍ منا يروم أن يفهم ماهية الأشياء. فما السبيل إلى ذلك؟ إذا كانت العلوم الطبيعية الوضعية والعلوم النفسانية التاريخوية تجتزئ وتقتطع وتختزل، بحسب ما أبانه لنا هوسرل في بحثه الأول الشهير "الفلسفة علماً دقيقاً"، فإن الحكمة تقتضي أن نعتصم بمنهجية موثوقة صارمة تمنحنا المعرفة الحق. في رأيه ينبغي للفلسفة، وقد غدت علماً فنومنولوجيا، أن تجعلنا نفوز بالإدراك الأصح والأقوم.
ومن ثم، يبدأ هوسرل، في كتابه "أفكار من أجل فنومنولوجيا خالصة وفلسفة فنومنولوجية" Ideen zu einer reinen Phänomenologie، فيميز المنهج الفنومنولوجي الترانسندنتالي من علم النفس المستند إلى الاختبار الجواني والمعتمد على الوقائع. فيفاجئنا بالقول إن الفنومنولوجيا الخالصة هذه لا تكتفي بتحليل الوقائع، بل تعتني باستخراج الماهيات، أي صميم المعنى الأعمق الذي تنطوي عليه الحياة. وحدها الفنومنولوجيا، وقد أضحت علم المعنى الأعمق المنحجب في ثنايا الوجود، تستطيع أن تنقذ الفلسفة من محنة الاضطهاد التي ابتليت بها من جراء مزاحمة العلوم الوضعية والنفسانية.
تعريف الماهية
قبل الشروع في استخلاص الماهيات الهادية هذه، لا بد من التذكير بأن الماهية ليست فكرةً مجردةً، كفكرة العدل المنفصلة عن حقائق العدالة التاريخية. الماهية مجموع العناصر الأساسية التي منها تتألف فكرة العدل بمعزلٍ عن تصورات الذهن المجردة. يكفينا أن نحرر ماهية العدل من الجزئيات الثانوية الاختبارية الحسية الطارئة حتى نستخرج معنى العدل في قوامه الجوهري، أي في مثاليته الهادية التي ترشد الفكر إلى الحقيقة العدلية المطلقة. لا يجوز للفيلسوف أن يكتفي بتحليل العدليات الجزئية المتجلية في هذا الحدث أو ذاك، أو تحليل ما هو عدل، بل ينبغي له أن يغوص على أعماق معاني العدل، أي أن يستجلي الأفق المثالي الذي فيه تنسلك فكرة العدل بحد ذاتها. المشكلة أن معظم الناس كسالى لا يرغبون في تجاوز مستوى الحدث الظاهري أو الظاهراتي. لذلك نصاب بالعمى الفكري الذي هو شكل من أشكال العمى الروحي الذي يجعلنا عاجزين عن الانتقال من مستوى الحكم على الأمور إلى مستوى الحدْس الفكري الأصلي الذي إليه يستند مثل هذا الحكم. أعجب العجائب أننا كلنا نفكر بالاستناد إلى حدْس الماهيات المنحجبة، ولكننا لا نعي ذلك وعياً مباشراً.
لا بد لنا، والحال هذه، من التوقف والتفكير الجدي في طريقة تفكيرنا. يسمي هوسرل هذه الطريقة التعليق الفنومنولوجي الذي يتيح لنا أن نحرر عقلنا من كل الأحكام الساذجة حتى نبلغ عمق الوعي الذي فيه تنشط الذات المدركة أو الأنا الترانسندنتالية المجاوزة المتعالية المنعتقة من هيمنة اللحظة الآنية. ليس التعليق هذا فعلاً سوفسطائياً يعطل العالم، ولا تشكيكاً هداماً يبطل القدرة على الحكم، بل محاذرة منهجية تساعدني على بلوغ أعماق ذاتي التي منها تنطلق عملية الإقبال الجديد على العالم بواسطة القصدية.
الواضح في هذا كله أن ذاتي مفطورة على طبيعةٍ قصديةٍ تدفعها إلى الخروج إلى العالم والتوجه إليه واستحضار معانيه. تنغرس هذه القصدية في الوعي على قدر ما تنشط العلاقة الحية بين حركة الفكر noesis وموضوع الفكر noema، أي الغرض المقصود في حركة تفكيري داخل الوعي ذاته بين الوعي القاصد والوعي المقصود. ذلك بأن كل ما أحياه في اختبارات وعيي ينطوي حتماً على موضوعٍ قصدي. لا يمكنني أن أختبر الحب إلا في حضرة المحبوب أو استحضاره على سبيل الاستذكار أو التخيل. كل اختبارٍ فكري يستلزم موضوعاً يختبره الوعي اختبار العيش المباشر، أي يستوجب معيشاً قصديا. في هذا السياق، يعكف هوسرل على تحليل العلاقة الدقيقة بين الوعي الذي يختبر الحياة في معيشاتها، والحياة المختبرة التي تهب الوعي معيشاته، أي تجعله يستجلي فيها المعنى الذي يليق بها، من غير أن تتعدى الذات على حقائق العالم وتسقط عليه أوهامها. ليست معيشات الوعي من اختراع الذات الباحثة عن المعنى، بل من حقائق الوجود التي تستنير بهداية الوعي المختبر الملتزم.
هل يستطيع الفكر أن يدرك حقيقة العالم؟
على الرغم من الطموح المعرفي الذي تتميز به منهجية هوسرل الفنومنولوجية، لا يملك المرء إلا أن يسأل عن الضمانات التي تجعلنا نثق بقدرة الأنا المتعالية الخالصة هذه على إدراك حقائق الوجود. صحيح أن هوسرل ربط اختبارات الوعي بما يحياه ويختبره من وقائع العالم. ولكن ما الذي يضمن لوعيي الذاتي أن يدرك أغراض الاختبار الخارجية؟ أفليس في اختبار الوعي ادعاء مفرط في الفوز بمعنى الأمور؟ هل يفترض كل إقبالٍ على العالم قدرةً ذاتيةً على إنصاف معاني الحياة وإدراكها إدراكاً صحيحاً؟ أم إن لكل ذاتٍ اختباراتها وخلاصاتها ومعتقداتها؟
لا شك في أن هذه الأسئلة تنطوي على استفسارٍ جوهري يتحرى قدرة العقل ذاته على إدراك موضوعات العالم الخارجي. المسألة قديمة قدم الفكر الفلسفي. يجتهد هوسرل في استثمار تعريف قصدية الوعي التي تربط فعل التفكير noesis بموضوع التفكير noema ربطاً محكماً يجعل الذات حريصةً على استجلاء ما يعتلن في الموضوع من أبعاد المعنى المتنوع الظهور. بتعبير أبسط يمكننا أن نبين أن موضوع التفكير يستجمع المعيشات القصدية التي أختبرها فيه. حين أعاين البيت المهجور في قريتي التي نزحت منها، أحاول أن أدركه إدراكاً معيشياً اختبارياً مستنداً إلى المقاصد التي تستوطن وعيي. فإذا بهذا البيت يتجلى لي في بنيانه المعماري، وفي مهجوريته وعتاقته، وفي احتضانه تاريخ أسرتي، وفي مقامه الإلهامي الذي يستنهضني استنهاضاً استذكاريا حنينيا، وفي جوانب شتى تجعله يكتنز بمعاني الامتلاء الدلالي الذي لا يني على توسعٍ واستفاضةٍ. ومن ثم، يعتقد هوسرل أن تناول البيت المهجور تناولاً فنومنولوجيا إنما ينصفه إنصافاً معرفياً يتجاوز كل الحدود المفهومية والتعريفات الاختزالية.
استناداً إلى التنويعات المعيشية هذه، يستطيع الوعي أن يدرك البيت المهجور في موضوعيته التي تتخطى مجرد التعريف الحدي العلمي. ولكن ما ضمانة الموضوعية التي ينبغي أن يتحلى بها الكيان الخارجي هذا؟ ما الذي يسوغ لعقلي أن يجعل البيت المهجور حقيقةً موضوعيةً تستحق صفة العلمية الرصينة المنفتحة؟ جواب هوسرل يقتضي القول بالعلاقة الوثيقة بين الأغراض الخارجية وأفكار الوعي التي تلائمها ملاءمةً معيشيةً منصفةً. لكل غرضٍ من أغراض العالم، بحسب المعنى الفلسفي الأرحب، فكرة قصدية يحتضنها الوعي الذي يختبر هذا الغرض اختباراً حياتياً يغني الغرض من غير أن يشوه حقيقته الجوهرية، أي ماهيته التي منها تنبثق كل تسويغات الاختبار المعيشي. ذلك بأن الذات التي تعاين البيت المهجور لا يجوز لها أن تتمادى في حرية تناولاتها، فتفرض على البيت أن يتحول إلى مصنعٍ كيميائي. ثمة حدود في الاختبار المعيشي لا يستطيع الوعي أن يتجاوزها، وحجته في ذلك أن ماهية البيت المهجور تنطوي على كنوزٍ دلاليةٍ تبيح له مثل التجاوز المفرط هذا.
المنطق المتعالي
أكب هوسرل في المرحلة الثالثة من تطور فكره على تأصيل المعرفة الحق، وضبط مقام الأنا المتعالية، واستجلاء أسباب التأزم في الحضارة العلمية الأوروبية. فأنشأ ثلاثة أبحاث طبعت الحقبة الأخيرة هذه من أعماله: "المنطق الصوري والمتعالي" 1929 Formale und transzendentale Logik، "تأملات ديكارتية" 1930، "أزمة العلوم الأوروبية والفنومنولوجيا المتعالية" 1930 Die Krisis der europäischen Wissenschaften. في البحث الأول، حاول هوسرل بناء المنطق الترانسندنتالي المتعالي على ماهية العلم المتحققة في مثالية المعاني والأشكال المعرفية الخالصة. يقوم هذا المنطق على التوفيق بين مقام الأشياء الذاتي المرتبط بالوعي الذي يتناولها تناولاً قصدياً، ومقامها الموضوعي المقترن بحيثياتها الخارجية المنغرسة في واقعية العالم. لذلك كان حريصاً على فصل المنطق عن تصورات علم النفس الذي يربطه ببنى الوجدان والاختبار. حجته أن العلم ينبغي أن ينهض على أساس الماهيات المشتركة wesentliche Gemeinsamkeiten المقترنة بالعلم في هيئته النظرية العامة، أي بالبنى الصورية التي تنتظم بها قضايا النظريات، وذلك بمعزلٍ عن الإحالات الواقعية المنتسبة إلى الوضعيات التاريخية المعينة. ومن ثم، اتضح لهوسرل أن المنطق المتعالي غير المنطق الكلاسيكي، إذ إنه يعنى بتدبر الدلالات الحية التي تنعقد بين البنى الصورية ومعيشات الوعي الحياتية القصدية.
انتقاد ديكارت وتجاوز الكوجيتو الانعزالي: الآخر المستقل
في البحث الثاني، اعتنى هوسرل باستجلاء مقام الأنا المتفكرة في ذاتها. فاستجمع المحاضرات التي ألقاها في جامعة السوربون، وطفق يبين أن الفلسفة سبيلنا إلى وعي ذاتيتنا وعياً مباشراً، سواء في صومعتها التأملية أو في تواصليتها التشاركية مع سائر الذوات الإنسانية. مهمة الفلسفة الأساسية معرفة الذات، أي إدراك مقام الأنا المتعالية التي تتجاوز مجرد الإحساس الوجداني الجواني النفساني، فتتخطى الكوجيتو الديكارتي الانعزالي لكي تنظر في بنيتها القصدية التي تقبل على العالم تستكشف فيه كنوز معانيه المنحجبة. بيد أن الأنا المتعالية، خلافاً للذات الديكارتية المتفكرة، لا تنعزل في برجها فتحول الأشياء والآخرين إلى مجرد تصوراتٍ أو صنائع تبتكرها من صميم فعلها التفكري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في التأمل الخامس يجتهد هوسرل في إنصاف الآخر وتحريره من هيمنة الأنا المتعالية. ليس الآخر صنيعة الذات، بل كائن قائم بحد ذاته، يستمد كيانه من غيريته الجسدية التي تنتصب أمامي في قوامها المستقل عن تصوراتي الذاتية. الآخر جوهر مختلف عني بفضل بدنيته المستقلة التي تستدعيني إلى الملاقاة الحرة. حين تواجه الأنا المتعالية غيرية الجسد الآخر، تختبر تحولاً جليلاً في ذاتيتها. لذلك ليست الأنا المتعالية وحيدةً في العالم، بخلاف ديكارت، بل مقترنة أصلاً بالعالم وبالآخر بواسطة فعل القصدية التي يجعلها تقبل إقبالاً ناشطاً على الخارج. بيد أن هوسرل لا يسعه إلا أن يضع الآخر في عمق اختبار الأنا المتعالية، بحيث يختبر الإنسان الغيرية الإنسانية انطلاقاً من ذاتيته. كل ادعاءٍ آخر في اختبار النظير الإنساني من موقع الغيرية يستحيل تأييده، إذ إن مصدر الاختبار لا يمكن إلا أن يكون وعي الذات عينها.
أزمة العلوم الأوروبية: إعادة اكتشاف الحياة
لم يشأ هوسرل أن يتغافل عن الكارثة الأخلاقية التي انتابت البشرية الأوروبية حين تقلدت النازية زمام الأمور في ألمانيا. فأنشأ يحلل أعراض المرض الجماعي، ويستثمر فتوحات الفنومنولوجيا المتعالية لكي يستعيد مقام المعنى الإنساني الأرفع. في كتاب "أزمة العلوم الأوروبية" رسم أن أصل الاختلال ناشب في العقلانية العلمية المبنية على خلاصات غاليليو (1564-1642) الذي حبس الطبيعة كلها في معادلة رياضية ظالمة. ذلك بأن مثل التناول الوضعي الاختزالي هذا يهمل عالم الحياة وفضاءات المعيش الإنساني الرحبة. أما المخرجان الوحيدان اللذان يرتسمان أمام الناس في إثر هذا الاختزال، فيمليان عليهم إما السقوط في محنة التوحش العنفي البربري، وإما مناصرة العقل المستنير وتعزيز مقام الوعي والتأمل في حركة النفس التي تختبر تجليات الحياة الإنسانية. وهذا ما حسبه هوسرل من أوجب مهمات الفنومنولوجيا المتعالية التي تروم شفاء الإنسانية من أوهام الوعي الزائف.
لذلك نراه يسارع إلى الإصرار على رصانة العلوم في منهجياتها الموثوقة. ولكنه يعيب عليها انحرافها في المذهب الوضعي الذي يكتفي بتحليل الوقائع الحسية، فيهمل قضايا العقل ومسائل المتافيزياء والماوراء، وفي مقدمتها المعرفة والقيم والأخلاق والتاريخ والله. لذلك يجب على الفيلسوف، "موظف الإنسانية" الأسمى، أن ينقذ العقل من محنته وينتشل الحياة من محنة ضياع المعنى. لا يجوز أن نجعل العلم يفقدنا مقام الذات الإنسانية التي تختبر الحياة في أدق نبضاتها الوجدانية. فالحياة روح يسري في شرايين الوجود، لا كتلةً صلبةً تخضع لحسابات الضبط العلمي التجريدي. آن الأوان لكي نسترجع مقام الشخص الإنساني الذي يعيش في معترك الحياة ويختبر ضروباً شتى من المعيشات الجوانية التي تختزن معنى الإنسانية الأصيل.
لا شك في أن ديكارت ساهم في اكتشاف مقام الذات المتفكرة، ولكنه ما لبث أن أهملها حين جعلها وسيلةً من وسائل المعرفة اليقينية. فضلاً عن ذلك، يعاتبه هوسرل على فصله النفس عن الجسد. أما كانط فظل، في اعتقاديته المتافيزيائية، أسير علم النفس الطبيعي الذي يتناول النفس جوهراً منفصلاً عن العالم. والحال أننا نحتاج إلى إعادة اكتشاف عالم الحياة والمعيش الإنساني. أفضل السبل اعتماد علم نفسٍ جديدٍ يسميه هوسرل علم النفس المتعالي يحلل بنية الأنا المتعالية ويستجلي قدراتها على اختبار العالم وأشيائه وموجوداته ومطالبه اختباراً قصدياً يهب المعنى وهباً مقترناً بالإطلالات التنويعية التي تجعل العالم يتجلى لي في أغنى صوره وأبدع طاقاته الإلهامية.
خصوبة الفلسفة الفنومنولوجية
ومن ثم، تستطيع الفلسفة أن تضطلع بمسؤولية المعنى يتجلى للوعي على قدر ما يمضي الإنسان إلى الأشياء عينها ويستكشف مطالبها. وحدها ذاتية الوعي الخالصة قادرة على اختبار عمق الحياة. غير أن هوسرل المتعثر بأهوال العنف الكوني، عاد فاعترف بأن تحويل الفلسفة إلى علمٍ دقيقٍ صارمٍ موثوقٍ حلم بهي انتهت صلاحيته. ومع ذلك، كان تأثير الفنومنولوجيا الهوسرلية عظيماً في الفلسفة المعاصرة، إذ أسهمت في تعزيز مقام الوعي والحياة والمعيش الوجداني الأصيل. فإذا بكبار الفلاسفة الذين درسوا على هوسرل أو تأثروا به أو ساروا على نهجه، ومنهم مارتن هايدغر (1889-1976)، وماكس شيلر (1874-1928)، وهانس غيورغ غادمر (1900-2002)، وجان-بول سارتر (1905-1980)، وأويغن فينك (1905-1975)، وموريس مرلو-بونتي (1908-1961)، وبول ريكور (1913-2005)، وهانا أرندت (1906-1975)، وإيمانويل لڤيناس (1906-1995)، ويان باتوشكا (1907-1977)، وجان-لك ماريون (1946) وسواهم، يغنون الحقل المعرفي هذا بفتوحاتهم الفلسفية المذهلة.