Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نابليون بونابرت... مؤسس أول جهاز استخبارات فرنسي

شولميستر إمبراطور جواسيس القائد الفرنسي يسقط إمبراطورية النمسا بخدعة... والشيخ الجوسقي يصطاد جنوده في مصر بفرقة "العميان"

مهد نابليون لحملاته العسكرية بمستكشفين من الجواسيس (متحف الفن الفرنسي)

ملخص

شولميستر إمبراطور جواسيس القائد الفرنسي يسقط إمبراطورية النمسا بخدعة... والشيخ الجوسقي يصطاد جنوده في مصر بفرقة "العميان"

على رغم مرور نحو مئتي عام ونيف على وفاته، لا يزال اسم نابليون بونابرت، يشكل نقطة مفصلية في التاريخ الأوروبي بخاصة، وتاريخ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوجه عام.

يعرف بأنه القائد العسكري المخاطر حيناً، والمغامر أحياناً، حاكم فرنسا تارة، وملك إيطاليا وإمبراطور الفرنسيين تارة أخرى.

عاش نابليون خلال أواخر القرن الثامن عشر، وحتى أوائل عقد العشرينيات من القرن التاسع عشر. حكم فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر بصفته قنصلاً عاماً، ثم بصفته إمبراطوراً في العقد الأول من القرن التاسع عشر، حيث كان لأعماله وتنظيماته تأثير كبير على السياسة الأوروبية.

والمؤكد أن سيرة حياة الرجل تتسع لكتابات واسعة، وسردية حروبه تحتاج إلى مناقشات معمقة، غير أن ما نتطلع إليه في هذه السطور، موصول بعالم الجواسيس الذي عاش فيه، وبرع في تنظيم شؤونه، وعانى من ويلات شجونه، لا سيما أن غالبية سنوات حياته (1769-1821)، والتي تجاوزت الخمسين سنة بعامين فقط، كانت عبارة عن حروب متصلة، وغزوات غير منفصلة.

لم يكن نابليون مجرد قائد عسكري فحسب، وهو من أدخله والده كارلو بونابرت المعروف عند الفرنسيين باسم شارل بونابرت، الأرستقراطي الأصل الذي تعود جذوره إلى إحدى عائلات إيطاليا النبيلة، مدرسة "بريان العسكرية"، ثم التحق بعد ذلك بمدرسة "سان سير" العسكرية الشهيرة، بل كان مفكراً تعده الأيام لبلورة حقبة أوروبية جديدة.

في المدرستين أظهر بونابرت تفوقاً باهراً على رفاقه، ليس فقط في العلوم العسكرية، وإنما أيضاً في الآداب والتاريخ والجغرافيا، وخلال دراسته اطلع على روائع كتّاب القرن الثامن عشر في فرنسا، وجلهم كانوا من أصحاب ودعاة المبادئ الحرة، فقد عرف عن كثب مؤلفات فولتير ومونتسكيو وروسو، الذي كان أكثرهم أثراً في تفكير الضابط الشاب.

يعن لنا من هذا المنطلق أن نتساءل: هل كان فهم نابليون بونابرت لطبيعة النفس الإنسانية، هو ما مكنه من التعاطي مع عالم الجواسيس، وما ساعده في أعماله العسكرية، التي نجح في بعضها وأخفق في بعضها الآخر.

ما قصة جواسيس نابليون، ومن هم أهم الجواسيس الذين مروا بحياته، ثم ما هي نظرته لهولاء آخر الأمر.

غزو إيطاليا ومكتب الجاسوسية الأول

في وقت مبكر في بداية حملته لغزو إيطاليا في عام 1796، رأى نابليون نفسه مضطراً إلى تخصيص شيء من اهتماماته للعلاقات السائدة بين المهمات الاستخبارية والمسائل المالية ومناحي السياسة وإدارة العمليات الحربية.

من هنا كانت البداية، فقد أنشأ بونابرت "مكتباً سرياً" أسند إدارته إلى قائد لواء خيالة يبلغ من العمر 43 سنة، اسمه جان لاندريو.

استحدث هذا الضابط قسمين يعملان في إطار المكتب السري الجديد، علماً أن أحد القسمين كان مخصصاً للمهمات العادية المتعلقة بمراقبة القوات المسلحة ومكافحة الجاسوسية الأجنبية.

فيما كان القسم الثاني معنياً بالمهمات السياسية المحضة، أي بمهمات من قبيل مراقبة السكان المدنيين وتشجيع عمليات التمرد الشعبي، باعتبار أن هذه العمليات ذات نفع للقوات الفرنسية.

من ناحية أخرى استعان لاندريو بعيون وعملاء من كل الأصناف. وفي هذا السياق يجمل بنا أن نذكر قسيساً من عملاء لاندريو فر ومعه كل المبالغ المودعة في خزائن ثلاث مدن إيطالية صغيرة، وغني عن البيان أن خيانة هذا القسيس سببت خيبة أمل كبيرة لاسيما أنه قدم خدمات كبيرة في بادئ الأمر. ومهما كانت الحال، فقد نجح لاندريو في تجنيد سيدات يتحدرن من الطبقات النبيلة، ودأب عملاء لاندريو على الالتقاء تحت جنح الظلام برؤساء الشرطة وبقادة التشكيلات العسكرية أو بمندوبيهم، وذلك لتبادل ما لديهم من معلومات.

لم يدم الأمر طويلاً حتى راح لاندريو يستحدث شبكة تجسسية لم يعد نشاطها ينحصر في المدن الإيطالية الكبرى، بل أمسى يغطي مساحة يمتد نشاطها من باريس إلى فيينا.

وبقدر تعلق الأمر بباريس كانت الشبكة مكلفة أولاً بمراقبة ما يقوم به أعضاء حكومة المديرين من ألاعيب سياسية، وثانياً بالسهر على أن تصل الأخبار المرسلة من إيطاليا، إلى الأفراد المخولين بتسليمها فقط، وأخيراً وليس آخراً، بالعمل على أن تسفر هذه الأخبار عن الصدى المتوخى منها.

ومما لا شك فيه أن حملة نابليون ضد إيطاليا كانت ذات طابع سياسي من كل الوجوه، وأنها لم تكن بأي حال من الأحوال، ستحقق النجاح الذي حققته لو لم يُضلل الرأي العام الفرنسي وتخدع النخب السياسية.

غير أن الحديث عن استخبارات نابليون تجاه إيطاليا، لا يمكن أن تقارن بالمرة، بأهم أعمال جاسوسية في تاريخ إمبراطوريته، والذي تم توجيهه ضد الإمبراطورية النمساوية، ومكنه من إخضاعها عبر الجواسيس قبل القوات العسكرية... ما هذا الفتح الاستخباري النابليوني إن جاز التعبير؟

نابليون وشولميستر... إمبراطور الجواسيس

في إحدى قرى مدينة ستراسبورغ الفرنسية الشهيرة، سوف يولد في عام 1770 الفتى كارل شولميستر، أي أنه أصغر من نابليون بعام واحد.

هل هي مصادفة قدرية أم موضوعية أن يتحول شولميستر، ابن القس اللوثري (البروتستانتي)، من دائرة العمل الديني والتبشيري، إلى دائرة العمل السياسي والدبلوماسي، ومن ثم العسكري والاستخباري؟

مهما يكن من أمر الجواب، فإن شولميستر هذا سوف يقدر له أن يلعب دوراً مهماً، بل ربما أهم دور في حياة نابليون ومسيرة غزواته السياسية والعسكرية دفعة واحدة.

تبدأ القصة من عند مطاردة نابليون لأمراء البوربون، أولئك الذين قدر لهم الهرب إلى الدول المجاورة ومنها ألمانيا والنمسا، وقد كان نابليون يخشى من مؤامراتهم، ولهذا أراد إرهابهم، عبر اختيار أحدهم، واستدراجه إلى فرنسا ليكون عبرة لبقية الهاربين.

عرف نابليون شولميستر من خلال الجنرال سافاري، أحد مساعديه، والذي تقابل من قبل مع الفتى النابغة شولميستر، وتحدث عنه مع نابليون الذي قرر أن يكلفه بمهمة استدراج الدوق "أنجين اللاجئ إلى ألمانيا".

عرف شولميستر أن الدوق يعشق فتاة تقيم على الحدود بين ألمانيا وفرنسا، فوضع خطته بعناية، وبدأ بتنفيذها لتكون هي "الطُعم" الذي يصطاد به فريسته.

قام بخطف الفتاة، ثم أرسل رسالة مزورة منها للدوق تطالبه فيها بإنقاذها، وبالفعل لم يتأخر، وعوضاً عن انتظاره في البيت المرصود، كمن له في الطريق وأوقعه عن حصانه وسلمه لرجال نابليون.

قُدم الدوق التعيس إلى نابليون الذي حاكمه عسكرياً، وحكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص، وبعدها قام الجنرال سافاري بتقديم شولميتسر إلى نابليون قائلاً: "هذا يا مولاي رجل كله عقل مفكر ولكنه بلا قلب"، فشكره نابليون وأجزل له العطاء ووعده بمهام جديدة.

خدعة جاسوسية تسقط فيينا

ربما كانت أهم عملية جاسوسية لشولميستر هي تلك التي كلفه بها نابليون وقادت إلى سقوط فيينا، واعتبرت ولا تزال واحدة من أهم عمليات الخداع والتضليل في تاريخ الاستخبارات الأوروبية... ما الذي جرى على وجه التفصيل؟

باختصار غير مخل، في عام 1805 سافر كارل شولميستر إلى فيينا مزوداً بهوية مزورة تخص مواطناً مجرياً سبق أن هاجر إلى فرنسا، لكنه لم يعد مرغوباً فيه الآن بسبب ميله الشديد نحو أسرة الهايسبورغ.

بهذه الهوية المزورة المضللة، سمح المارشال كارل ماك لشولميستر أن يتردد على مقر قيادته، اعتقاداً منه أن شولميستر مصدر جيد للتعرف إلى مواقع ونوايا الفرنسيين، ومن ثم راح الفتى الألمعي، يقص على المارشال كيف أن نابليون ينوي الانسحاب إلى فرنسا، وذلك بغية استباق انقلاب مدبر.

وكبرهان على صدقية مزاعمه قدم شولميستر مراسلات ونبذاً من بحوث مختلفة كانت جميعها من صنع ورشة تزوير تأتمر بأمرة الجنرال سافاري.

وعلى خلفية عملية التضليل هذه، اعتقد المارشال كارل ماك أن بوسعه الآن ملاحقة القوات المسلحة الفرنسية المنسحبة باتجاه الغرب.

لكنه لم يكد يبلغ مدينة أولم الألمانية حتى أطبقت عليه القوات الفرنسية من ثلاث جهات. لقد ذاق المارشال طعم هزيمة نكراء، أسفرت عن استسلامه وأسر 70 ألف جندي من جنوده، وبهذه الهزيمة، صارت الطريق الموصلة إلى فيينا مشرعة الأبواب أمام نابليون. وفي ديسمبر (كانون الأول) من عام 1805 أحرز نابليون انتصاراً حاسماً في أوسترلينز على قوات التحالف الروسي النمساوي، وقد كانت هذه المعركة من أهم المعارك التي خاضها نابليون، كما أنها دخلت التاريخ باسم معركة "الأباطرة الثلاثة"، وبعد هذه الهزيمة النكراء خسرت النمسا عزها وجبروتها بالكامل.

نابليون بين سافاري وفوشيه وتاليران

ولعله من الأسماء التي تلمع في سماء حياة نابليون بونابرت، ثلاثة، سافاري وفوشيه وتاليران، وقد شكلوا ثلاثي الجاسوسية الأشهر والأمهر في حياة ومغامرات نابليون.

كان الأسلوب المميز لممارسة نابليون سلطاته في المسائل العسكرية والسياسية يكمن في موهبته بسحر قلوب المواطنين، وفي قدرته على كسب ثقتهم. وإذا كان رئيس استخباراته العسكرية الجنرال سافاري واحداً من مجموعة كانت على صلة قوية بنابليون وتحظى بثقته التامة، فإن الحقيقة تشهد أيضاً على أن قائد شرطته، جوزيف فوشيه، الرجل الذي لا غنى عنه، لم يكن ذلك الإنسان الذي يستطيع المرء الثقة به بلا تردد، فارتقاؤه المهني من رجل دين إلى وزير الشرطة تخللته مغامرات كثيرة، أضف إلى هذا أنه لم يكن شفافاً قط.

الأمر ذاته ينطبق على رئيس الاستخبارات الخارجية، ووزير الخارجية شارل موريس تاليران، الذي تولى هذا المنصب في يوليو (تموز) 1797، والذي شق طريقه أيضاً بأسلوب مثير للريبة.

كان تاليران سليل أسرة نبيلة تنحدر من غرب فرنسا من ناحية أخرى، فإن العاهة الجسيمة التي عاناها تاليران – فهو كان أعرج – اضطرته إلى عدم الدخول في السلك العسكري، بل أن يعمل في صفوف الكنيسة.

هنا ربما ينبغي علينا الإشارة إلى أن ذكاءه الشديد وطموحاته العظيمة رسمت مسيرة حياة هذا الرجل المتميز في كثير من الوجوه. ومهما كانت الحال فبمساعدة عمه أسقف مدينة رانس حصل تاليران بسرعة على وظيفة إدارية في جهاز الكنيسة، منت عليه براتب ليس بالقليل، ومهدت له عملية الارتقاء إلى قمة الهرم الإداري المالي في الكنيسة الفرنسية، وبمعية وزير المالية، كان تاليران يفكر ملياً في السنوات الأخيرة من عصر الملكية.

ما الذي يعنيه هذا المثلث من حول نابليون، وما الذي مثله بالنسبة له في "دروب الجواسيس"؟

يمكن القطع أن استخبارات نابليون، جمعت رؤى لم يسبق لإمبراطور في تاريخ أوروبا أن توافرت له، فمن خلال الجنرال سافاري استطاع أن يرى أعمال العسكرة بعين الاستخبارات وليس فقط من خلال منهجية الاستراتيجيات العسكرية الجافة.

بينما كان فوشيه، الذي تجسس على نابليون كثيراً لدرجة أن الأخير شكا لأخيه ذات مرة بالقول: "اليوم يدس أنفه في سريري، وفي اليوم التالي يتجسس على أوراقي الخاصة"، نقول كان فوشيه عين نابليون التي لا تغفل عن متابعة بل ومطاردة الجواسيس في الداخل، فكونه وزيراً للشرطة، كان كفيلاً بمطاردة كل من يشك في أنه يتبع أو يخدم قوة معادية لفرنسا على أراضيها، ولطالما قبض بالفعل على الكثير جداً من الجواسيس الألمان والنمساويين.

أما العين الثالثة لتاليران، فقد مكنته من تسخير المؤسسات الدينية في عموم أوروبا، لا سيما الكنيسة الكاثوليكية، والتي كانت فرنسا في ذلك الوقت هي الإبنة البكر لها، لخدمة أغراضه الإمبراطورية، وقد زخمته بمعلومات هائلة، عن أعدائه على بقية التراب الأوروبي.

هنا بدا نابليون وكأن استخباراته هي خليط من أفكار الأرضيين والسمائيين دفعة واحدة، ما جعل من اليسير أن يقوم بغزوات أخرى لا سيما في شمال أفريقيا بنوع خاص.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

العقيد بوتان... عين نابليون على الجزائر

من بين أهم جواسيس نابليون، أولئك الذين قارن البعض بينهم وبين "جواسيس جدعون"، تلك القصة التوارتية المثيرة، يأتي اسم "فنسان إيف بوتان" الشهير باسم "العقيد بوتان".

هل كان هذا الرجل هو الطريق المؤدي إلى احتلال فرنسا للجزائر، الذي دام قرابة مئة وثمانين عاماً؟

المؤكد أن فرنسا كانت قد وضعت عينيها على الجزائر منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر، وعملت بدأب وسرية تامة على غزوها واحتلالها، لأسباب متعددة، منها ما هو عسكري، ومنها ما هو اقتصادي، وربما بصورة أو بأخرى لأغراض دوغمائية.

كان الأسطول الجزائري مانعاً قوياً في وجه الأطماع الفرنسية، ولهذا عمدت فرنسا إلى التفكير التآمري عبر عيونها وجواسيسها، الذين أرسلتهم بهدف تهيئة الأجواء ومعرفة أوضاع البلاد والعباد، عسكرياً واجتماعياً.

كانت رغبة نابليون الكبرى أن يصبح حوض البحر الأبيض المتوسط، منطقة نفوذ فرنسية لا يشاركها أحد فيها.

في هذا السياق تم تكليف العقيد بوتان بجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات الاستخبارية عن الجزائر، وقد نجح الرجل بالفعل في اختراق صفوف الجزائريين.

وعلى رغم أن نابليون كانت لديه معلومات قيمة عن الجزائر، منها مذكرة من 42 صفحة تم الحصول عليها من الأسير الفرنسي السابق هناك، فرانسوا فيليب، عام 1800، إلا أن نابليون كان مصراً على ابتعاث رحلة استكشافية تأتيه بإجابات عن أسئلة محددة وفي مقدمها: هل يوجد ميناءعلى ساحل الجزائر، يمكن أن يستقبل سرباً بحرياً فرنسياً مأموناً؟ وما هي الموانئ التي يمكن أن ينزل عليها الجيش الفرنسي؟ وكم عدد المنافذ المختلفة التي يمكن أن يحجبها العدو؟ وما هي أحوال الطقس هناك، لا سيما أجواء الحر ومواسمه؟

وقع الاختيار على العقيد بوتان، الذي كان يتميز بتدريبه القوي وتجربته الثرية في الجوسسة، ذلك أنه سبق له أن أرسل في مهمة مماثلة إلى إسطنبول قبل عام.

حل بوتان في الجزائر بوصفه رجل أعمال في مهام تجارية، ويريد استكشاف فرص العمل في البلاد.

طيلة ستة أشهر تنكر بوتان في عدة صور، وارتدى أزياء مختلفة، من أجل رسم معالم مشروعه الاستعماري، فتارة تنكر في زي صياد ومرة أخرى في زي متجول، خصوصاً أن السلطات الجزائرية كانت معلنة عن حظر تجوال الأوروبيين في مدينة الجزائر.

دوّن العقيد بوتان جميع ملاحظاته حول ميناء الجزائر وتحصيناته، ورسم خرائط دقيقة جداً للجزائر، وأوصى في تقريره بإنزال القوات الفرنسية في الجزء الغربي لشاطئ سيدي فرج، وقد وصف بوتان المكان بأنه أفضل موقع لنزول القوات الفرنسية وهو ما كان.

كان بوتان هو "عين الإبرة" التي مكنت فرنسا لاحقاً، وبالتحديد في عام 1830، من الرسو في موانئ الجزائر في 5 يوليو (تموز)، من ذلك العام، وبذلك سقطت الجزائر في فخ الاحتلال الفرنسي لعدة عقود.

 نابليون والشيخ الجوسقي قائد الجواسيس

ولنابليون قصص مثيرة وغريبة في الدول التي قام بحملات عسكرية ضدها، مثل حملته الشهيرة في مصر عام 1798، التي لم يكتب له فيها النصر، على رغم كافة الخدع التي حاولها، ولم تنطل على عموم المصريين.

شهدت القاهرة ثورتين ضد نابليون وجنوده، لعب فيهما المناضلون دوراً كبيراً ومهماً ضد عسكر الفرنساوية، كما كان يطلق عليهم.

إلا أن أحد مشايخ الأزهر، المعروف باسم الشيخ سليمان الجوسقي، وكان شيخاً لطائفة المكفوفين في الأزهر، سوف يقدر له أن يهزم نابليون المدجج بالأسلحة الحديثة وبالمدافع التي لم يعرف المماليك عنها شيئاً.

كان من اليسير على "عساكر ساري نابليون"، أن يطاردوا المقاتلين المصريين، في شوارع القاهرة، لا سيما الأصحار منهم، والذين ينقلون البارود والأحجار لمهاجمة الفرنسيين.

غير أن نابليون وجنوده لم يخطر لهم على بال، أن الشيخ الجوسقي، قد قام بحملة جاسوسية مضادة، لم يقدر لأحد أن يكتشفها، ذلك أن دوره لم يتوقف عند الخطابة لتشجيع المصريين على القتال، بل إنه قرر أن يطوع العميان وطائفتهم التي يترأسها وجهزهم في ما يشبه الجيش لمواجهة الغزو الفرنسي.

كان المكفوفون من الأزهريين ومن غيرهم، هم حلقة الوصل والجاسوسية لمصلحة مصر، فراحوا ينقلون أخبار المعسكر الفرنسي لرموز المقاومة الشعبية، وكان يرسل أتباعه من جيش العميان إلى الوجهاء والمشايخ وزعماء المدن والقرى، كما أسهم الجوسقي في قيام كتيبة من العميان بعمليات اغتيال للجنود الفرنسيين على رغم فقدانهم للبصر، حيث جعل العميان يتسولون أمام حانات الخمور التي كانت للفرنسيين فيأتي الجندي الفرنسي السكران ويعطي المال للمتسول الأعمى، ولحظتها يمسك بيد الفرنسي ويشدها إليه ويعطيه طعنة ويلوذ بالفرار.

حين علم نابليون بأن الجوسقي هو العقل المدبر لاغتيال جنوده، ألقى القبض عليه، وأعجب القائد الفرنسي بقدرة شيخ ضرير في تكوين خلية عسكرية جاسوسية على هذا القدر من المهارة والحرفية في أعمال القتل.

عمل نابليون جاهداً على استمالة الشيخ الجوسقي، فقدم له العديد من العروض وكان الشيخ يسمع تلك العروض في إباء وشموخ ويرفضها بسخرية واستهزاء، إلى أن قدم له العرض الأكبر وهو أن يجعله سلطاناً على مصر زاعماً أنه لم يجد في البلاد من هو في قوته وكفاءته.

هل وافق الجوسقي على العرض بالفعل وتنكر لماضي مقاومته؟

المفاجأة وقتها أن الشيخ أظهر قبولاً للعرض، ومد نابليون يده إليه متنفساً الصعداء كما يقال، وكذلك مد الشيخ يده اليمنى، مصافحاً نابليون، غير أن المفاجأة أن الشيخ الضرير مد يده اليسرى ليصفع نابليون صفعة قوية على وجهه جعلته يستشيط غضباً ويأمر بقتل الجوسقي وإلقاء جثته في نهر النيل.

كان الجوسقي هو الاستخبارات المضادة التي هزمت نابليون على أرض المحروسة شر هزيمة، والتي مكنت لعموم المصريين من طرد الفرنسيين من مصر خلال أقل من ثلاث سنوات.

هل هذه هي قصة جواسيس نابليون بالتمام والكمال؟

غالب الظن أنها غيض من فيض، في حياة إمبراطور فرنسي عاش صولات وجولات عبر عيون جواسيسه وبصاصيه شرقاً وغرباً.

المزيد من تحقيقات ومطولات