Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القصص الجاسوسية المشوقة: كيم فيلبي وجواسيس كامبريدج يعودون للشاشة

داميان لويس وغاي بيرس يؤديان دور البطولة في مسلسل "آي تي في إكس" الجديد "جاسوس وسط أصدقاء" كاتي روساينسكي تحاور مؤلف العمل وآخرين وتسألهم عن استمرار تعلقنا بقصة العملاء المزدوجين الذين التقوا في الجامعة بأعوام الثلاثينيات

غاي بيرس في دور كيم فيلبي وداميان لويس في دور نيكولاس إليوت (أي تي في)

في يوم التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1955، احتشد مندوبو وسائل الإعلام العالمي في شقة بالطابق الرابع من مبنى في جنوب كينزينغتون بمدينة لندن، مصوبين كاميراتهم نحو رجل أربعيني واثق من نفسه يتحدث بلهجة قاطعة وثقة كاملة بالنفس توحي أنه تربى تربية ذكور في طبقة اجتماعية بريطانية محددة وتلقى تعليماً مكلفاً، ويجيب الرجل عن الأسئلة التي يطرحها محاوره الأميركي بكلمات قليلة يرفقها أحياناً بابتسامة وامضة وإيماءة توحي بأنه ضجر قليلاً وملّ من كل هذه المسرحية.

اسم هذا الرجل هارولد أدريان راسل فيلبي، وأصدقاؤه يعرفونه بـ "كيم"، ومن هذه اللحظة يعرفه العالم أيضاً بهذا الاسم، ثم يسأله محاوره إن كان راضياً بتبرئته حديثاً، إذ رفعت عنه تهمة "الرجل الثالث"، أي العميل الخفي الذي ساعدت نصيحته العميلان البريطانيان العاملان لمصلحة الاتحاد السوفياتي غاي بورجيس ودونالد ماكلين، في الهرب إلى الاتحاد السوفياتي سنة 1951، وبعد إبداء فيلبي موافقة وجيزة على متابعة الحديث يمضي محاوره خطوة للأمام، فيسأل "وإن كان يوجد رجل ثالث هل كنت أنت ذاك الرجل الثالث في الحقيقة؟"، فيأتي جواب فيلبي "لا لم أكن ذلك الرجل"، ويتبع جوابه مرة أخرى بابتسامة خافتة.

الآن بعد مضي قرابة 70 عاماً لا يزال المقطع المصور من قبل شركة "باثي" (Pathe) بالأسود والأبيض من ذاك المؤتمر الصحافي الذي عقد بشقة والدة فيلبي يحظى بنسبة مشاهدات مذهلة، وكان فيلبي يكذب بكل ما يتفوه به لكنه من دون شك قدم أداءً بارعاً، تماماً مثلما فعل طوال العقود الثلاثة الماضية، إذ اشتغل عميلاً سوفياتياً في الدوائر العليا لجهاز الـ"أم آي6" (MI6) [جهاز الاستخبارات البريطانية] مع احتفاظه بمظهر رجل بريطاني أصيل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا المشهد أعيد ابتكاره وتصويره في الحلقة الأولى من مسلسل "آي تي في إكس" (ITVX) الجديد "جاسوس بين أصدقاء" A Spy Among Friends. والمسلسل المقتبس من كتاب المؤرخ بن ماسينتاير الصادر سنة 2014 من بطولة غاي بيرسي بدور فيلبي، ويتناول الخيانة التي اقترفها هذا العميل المزدوج من منظور صداقته مع زميله العميل الآخر نيكولاس إليوت الذي يؤدي دوره داميان لويس، إذ إن "داميان يعتبر العلاقة بين فيلبي وإليوت بمثابة زواج غير شرعي متعدد" وفق توصيف كاتب المسلسل ألكسندر كاري، فتمثل روسيا في الزواج المذكور الطرف الثالث.

على أن إليوت، زميل فيلبي القديم ونديمه، هو الذي كلف في النهاية بانتزاع الحقيقة من الأخير في بيروت (حيث كان فيلبي يعمل مراسلاً صحافياً لصحف ومجلات مثل "أوبسيرفير" و"إيكونومست" بعد طرده من "ام آي6")، وقد جاءت اعترافاته في جلسة شاي خلال أحاديث عن نتائج مباريات "كريكت"، اللعبة التي تستدعي مشادات كلامية بين البريطانيين، ثم انشق فيلبي بعد أسابيع وفرّ إلى الاتحاد السوفياتي مُهرباً على متن سفينة شحن، وهناك فرضت عليه الإقامة الجبرية فانزوى في المنزل يكتب مذكراته ويشرب الفودكا. وقد دار سجال على مدى فترة طويلة إن كان إليوت بالمصادفة ترك رفيقه القديم يهرب عمداً، وها هي الآن الممثلة آنا ماكسويل مارتن التي تؤدي دور عميلة الـ "إم آي5" [الجهاز الأمني البريطاني] ليلي توماس (الشخصية التي ابتكرها كاري) في "جاسوس بين أصدقاء"، تقوم بالتحقيق معه لاستخلاص دوافعه في سلسلة من الاستجوابات.

وانبهر البريطانيون على مدى عقود بقصة فيلبي وحلقة كامبريدج التجسسية التي ضمت أنطوني بلانت وجون كيرنكروس إلى جانب بورجيس وماكلين، واليوم يأتي مسلسل "جاسوس بين أصدقاء" ليمثل العمل الأحدث ضمن مجموعة كبيرة من المسلسلات التلفزيونية التي تناولت هذه الواقعة المحيرة في التاريخ البريطاني، إذ إن هذه القصة تجذرت في مشهدنا الثقافي على مدى سنوات منذ انشقاق بورجيس وماكلين، كما تناهت أصداؤها في قصص الجاسوسية على التلفزيون من العمل المقتبس عن "السمكري الخياط الجندي الجاسوس" Tinker Tailor Soldier Spy الذي يعد من كلاسيكيات السبعينيات إلى "المرافق الشخصي" Bodyguard، ولو قام المرء بمشاهدة واحدة من تلك الدراميات الجاسوسية التي يكشف فيها عن جاسوس كبير خائن داخل البلاد، فلا بد له من أن يفهم تأثير هذه الأعمال وقوة وقعها.

كذلك فإن هذه القصص تتردد في مشاريع متباينة مثل مسلسل "التاج" The Crown (الذي يسلط الضوء على علاقة الملكة ببلانت الذي عمل مسؤولاً عن حفظ صور الخاصة بالملك والملكة فيما بعد، من سنة 1945 لغاية 1972) وفيلم "لعبة المحاكاة" The Imitation Game، حين تقوم شخصية مفكك الشيفرات آلان تورينغ التي أداها بينيديكت كومبيرباتش بالعمل مع جون كيرنكروس محلل الشفرات في بليتشلي بارك، والذي سيكشف أنه "الرجل الخامس" في حلقة كامبريدج بأعوام التسعينيات، أي بعد عقود من انكشاف زملائه الجواسيس.

والواقع فإن المفارقة المتمثلة بالسرية هي ما يولد اهتمامنا بقصص الجواسيس، إذ إننا نتوق للاطلاع على أمور لا يسمح لنا في العادة معرفتها، ونود دخول مساحات محظور علينا دخولها، ويشير الدكتور كريستوفر مورفي، الاستاذ المحاضر في دراسات الأمن الاستخباري في جامعة سالفورد إلى أنه "كلما سعينا إلى إبقاء أمر طي الكتمان كلما تزايد الاهتمام به وتضاعفت جاذبيته".

وتأخذنا قصة حلقة كامبريدج التجسسية إلى قلب مؤسستين كانتا في حال متزعزعة، الاستخبارات السرية والطبقة الاجتماعية العليا، وتحديداً بسبب هذا التقاطع بين عالم التجسس والجواسيس وبين الطبقة الاجتماعية العليا جرى كتمان وإخفاء كثير من التفاصيل ولفترة طويلة.

ويتابع مورفي حديثه قائلاً "المواد الأرشيفية المتعلقة بهذين العميلين المزدوجين لم تكشف إلا بعد محاولات حثيثة، إذ إن هذه المواد أتيحت فيما السلطات تقاوم بصخب في محاولة لإبقاء وقعها خفيضاً"، وأضاف "لكن هذا التلكؤ الذي أبدته السلطات في الكشف عن [...] قصة غير مريحة" خلقت "تأثير التقطير" [أي عرض المعلومات ببطء وليس دفعة واحدة] الذي أبقى الجواسيس في وعي الناس لمدة أطول.

كان فيلبي ملقباً بـ "كيم"، وذاك لقب اختاره له والده تأثراً بقصيدة لروديارد كيبلينغ والتي للمصادفة المذهلة تروي قصة إنجليزية أصيلة عن الازدواجية، فتحكي عن ولد جاسوس يغدو "رجلاً يدين بانتمائين".

ومثل حال بورجيس وبلانت وماكلين وكيرنكروس احتك فيلبي بالأفكار الشيوعية في جامعة كامبريدج، فالمعقل الأكاديمي ذاك كان حاضنة غير متوقعة للأفكار السياسية الراديكالية، ويذكر فيلبي في هذا الإطار إنه بعد فترة من وجوده بالجامعة سأل أستاذه المحاضر في مادة الاقتصاد الماركسي المعروف موريس دوب عن الطريقة التي يمكن له فيها أن "يكرس حياته للقضية الشيوعية" بعد تخرجه.

يشكل صدام الحرب الباردة الأيديولوجي بين الشيوعية والرأسمالية أحداثاً خلفية لا تقاوم منذ وجهة نظر الحديثة، "فهناك حنين للزمن الذي كان ينظر فيه إلى الصراعات الاستخباراتية الكبرى كأنها صراعات من أجل المثل والمبادئ"، يقول الدكتور جوزيف أولدهام، الأستاذ المحاضر في مادة الاتصالات والإعلام الجماهيري في الجامعة البريطانية بمصر ومؤلف كتاب "تصورات مرتابة: جواسيس ومؤامرات والدولة السرية في المسلسلات التلفزيونية البريطانية" Paranoid Visions: Spies, Conspiracies and the Secret State in British Television Drama.

ويضيف، "ثمة سجال كبير حول الأمر الذي حفز جواسيس كامبريدج لكنهم [كانوا] أشخاصاً مدفوعين بالمثل العليا لمجتمع بديل، إذ إن توترات راهنة كثيرة تقارن بالحرب الباردة، لكن الحال الذي تمثل آنذاك في صراع أيديولوجي جذري ليس هو ذاته اليوم".

عندما قام مؤلف أعمال الشاشة بيتر موفات بكتابة مسلسل "جواسيس كامبريدج" Cambridge Spies سنة 2003 ضاعف التركيز على ذلك الجانب المثالي كي يصيغ قصة براقة وباهرة عن "أربعة بريطانيين أقحاح خونة"، وفق تعبير النص الافتتاحي لكل حلقة من حلقات المسلسل المذكور (قصة موفات لا تأتي على ذكر كرينكروس) المتأثر جداً بـ "العودة لبرايدزهيد" Brideshead Revisited، [رواية لـ إيفلين وو، ومسلسل بريطاني في مطلع الثمانينيات]، إذ إن المسلسل المذكور قدم صورة متعاطفة أكملتها الخيارات المجاملة في اختيار الممثلين، ويقول أولدهام "فهو يصيب بالصميم فكرة محاربة الفاشية كدافع أول لأولئك الجواسيس، وذاك يمثل في نواح عدة الطريقة الأسهل لمنحهم حضوراً يستدعي التعاطف".

في العمل الذي أعاد انتاجه موفات يلقي بورجيس خطباً حماسية ملتهبة بالعواطف عن أطفال يواجهون المجاعة، ويقود فيلبي انتفاضة عمالية في قاعة تناول الطعام في جامعته، كما أن كلاهما يناصران الطلاب اليهود فيغدوان وفق ما كتب ناقد الأعمال التلفزيونية في "غارديان" مارك لوسون "بطلا عمل منظم مناصران للسامية"، وليس غريباً في هذا السياق بأن يكون الإطار شبه البطولي الذي صنعه المسلسل لبعض أشهر الخونة في بريطانيا قد استدعى على طريقة مسلسل "التاج" سجالاً حول أخلاقية مزج الأحداث الحقيقية بالمتخيل.

في رحلة إلى فيينا سنة 1934 سيلتقي فيلبي بالمناضلة الشيوعية النمساوية ليتزي فريدمان ويقع في غرامها، ثم فيما بعد قامت صديقتها فلورا سولومون بتعريفه إلى رجل يدعى "أوتو"، أي آرنولد دويتش، والأخير تحت غطاء دراسة دكتوراه بالصوتيات وعلم النفس في كلية لندن الجامعية كان يعمل مسؤول تجنيد لمصلحة جهاز الـ "أن كه فه ده" (NKVD)، أي وكالة البوليس السري السوفياتية وهي سلف "كي جي بي" (KGB)، وكانوا يمارسون لعبة طويلة الأمد، فتمثلت مهمة دويتش برصد شبان راديكاليين بارزين وأذكياء ممن يمكنهم بلوغ مناصب مهمة خلال السنوات المقبلة.

حكايات حول من تعرض للتجنيد ومن قبل من تتنوع، لكن بورجيس وبلانت وماكلين وكيرنكروس سرعان ما بدأوا التجسس أيضاً، وخلال سنوات قليلة كانوا جميعهم يعملون في قلب المؤسسات الرسمية البريطانية، فيلبي وكيرنكروس في جهاز "أم آي 6"، وبلانت في جهاز "أم آي 5"، وماكلين في وزارة الخارجية، وبورجيس في الـ "بي بي سي"، ثم في "أم آي 6"، وبعدها في وزارة الخارجية.

كيف انتهى الأمر بمجموعة من الرجال لم يحاولوا أبداً إخفاء الميول السياسية التي اختاروها في شبابهم بأن يقوموا بأدوار جواسيس ودبلوماسيين في وقت كانت فيه الشيوعية فزاعة سياسية؟

لم يكن هناك عملية تدقيق وتمحيص، والدخول إلى ميدان الخدمة العامة تم من خلال "تزكية" في نادي رجال من المجتمعين حول مائدة طعام في نزل إجازات ريفي، أو كما حصل بالنسبة إلى إليوت خلال سباقات "أسكوت الملكية". وإن كان المرء شاباً بريطانياً من نمط مناسب يدخل بسهولة، ويذكر ماسينتاير في كتابه كيف طلب من فالينتاين فيفيان نائب رئيس جهاز "أم آي 6" أن يقدم مراجع وتوصيات (أو ما شابه) لفيلبي، "قلت إنني أعرف جماعته"، جاء جوابه بكلماته السحرية.

تعلمت في مدارس خاصة وأذكر أنني فكرت في نفسي "هؤلاء الناس في الواقع يظنون أننا مستقبل البلاد وهم في الحقيقة يصدقون ذلك"                                             ألكسندر كاري

كيرنكروس كان النشاز الوحيد، فهو دخل إلى كامبريدج بفضل منحة ولم يكن يتمتع بامتيازات الجواسيس الآخرين، ووضعية هؤلاء الرجال كمتعلمين تلقوا تعليماً مكلفاً ولديهم ما يناسب من معارف وعلاقات لم تسهم في فتح الأبواب أمامهم وحسب، بل إنها وضعية حصنتهم في ما بعد من الارتياب والشكوك، إذ إن أقرانهم سيجدون استحالة في تصديق أن واحداً منهم يمكن أن يكون خاطئاً، فالخيانة كانت لبلدان أخرى.

ومثير للسخرية كثيراً ذاك الهوس الإنجليزي بالطبقة الاجتماعية، الهوس الذي يتيح حصول خيانة كبرى لإنجلترا، إنه تصرف بريطاني سيئ، وهناك أيضاً على نحو خاص، وفق كاري، "تخريب وتعال" بريطانيين لذاك المنطق، خصوصاً عندما يؤطر الأمر في ثقافة المدارس الرسمية الإنجليزية.

أنا تعلمت في مدارس خاصة وأذكر كيف كنت أفكر أن "هؤلاء الناس في الواقع يظنون أننا مستقبل البلاد وهم في الحقيقة يصدقون ذلك" يقول كاري.

ويوضح أن شخصية ماكسويل مارتن جاءت لتوحي أنه "يمثل إهانة كاملة لزي المدرسة القديمة [أي لثقافتها]، فيتم إرساله عمداً من قبل جهاز ’أم آي 5‘ إلى هناك لإثارة حنقهم".

تمكن فيلبي من بلوغ أعلى المراتب في الأجهزة السرية وغدا في نهاية المطاف السكرتير الأول للسفارة البريطانية في واشنطن، إذ تعاون من قرب مع رئيس جهاز مكافحة التجسس في الـ "سي آي إي" جايمس جيسوس آنغلتون، ومع كل ترقية إضافية حصل عليها وشركاؤه المتآمرون كانت المواد التي يمررونها للسوفيات تغدو أفضل، وبحسب كتاب ماسينتاير فقد كان السوفيات في معظم الأوقات حذرين جداً ومتشككين للغاية تجاه المعلومات الاستخبارية التي يرسلها لهم جواسيس كامبريدج، إذ بدت تلك المعلومات جيدة لدرجة يصعب تصديقها. وربما اعتقد بعض مسؤولي الـ "كي جي بي" احتمال أن يكونوا [أعضاء حلقة كامبريدج عملاء ثلاثيين Triple Agents؟

بدأت الأمور تتهاوى في مطلع الخمسينيات عندما تمكن مخترقو الشفرات البريطانيون والأميركيون من فك رموز (شفرات) كمية من الرسائل السوفياتية ضمن عملية عرفت بـ مشروع "فينونا" VENONA، وقد تحدثت إحدى تلك الرسائل عن جاسوس روسي سيجتمع بعميل مزدوج في واشنطن، والعميل سيقوم عما قريب بزيارة زوجته الحامل في مدينة نيويورك.

عندما تمكن فيلبي من الوصول إلى مواد "فينونا" والاطلاع عليها علم أن ماكلين (الذي كانت زوجته ميلندا تمكث بالفعل مع عائلتها الأميركية بانتظار ولادة طفلهما الأول) في خطر، فقام هو وبورجيس الذي كان في هذه المرحلة قد غدا كحولياً شبه عاجز بوضع خطة لإعادة الأول إلى الوطن (عبر الحصول على ثلاث بطاقات سفر عاجلة في يوم واحد) فيمكنه إخطار ماكلين بما يحصل. وبعد أن اتخذ بورجيس قرار الفرار إلى موسكو برفقة ماكلين جرت مساءلة فيلبي عن علاقته بالأمر، وتمكن من إقناع زملائه ببراءته لكنه لم يتمكن من البقاء في منصبه والاحتفاظ بوظيفته (تلقى تعويضاً سخياً بلغ 4 آلاف جنيه استرليني بديلاً عن الراتب التقاعدي الحكومي).

لم يدر جهاز "أم آي 6" بالحقيقة إلا بحلول سنة 1961، إذ قام وقتها الجاسوس السوفياتي أناتولي غوليتسين بالانشقاق واللجوء إلى الغرب حاملاً معه معلومات استخباراتية عن عملاء داخل الأجهزة الأمنية السرية البريطانية والأميركية، وقد أرسل إليوت إلى بيروت لانتزاع اعتراف من صديقه. "فكرت أنه قد تكون أنت"، جاء رد الفعل العاطفي من فيبلي حين فتح الباب لصديقه.

وبالفعل تضمنت قصة حلقة كامبريدج الجاسوسية "جميع عناصر المسلسلات التلفزيونية" كما يقول مورفي، وذلك من خلال دمجها الخيانات الشخصية والعامة، وعبر الهلع الأخلاقي الذي فيها (لم تتوقف الصحافة عن الإشارة إلى زير النساء الذي كانه فيلبي وإلى مثلية بورجيس وبلانت) والأبعاد الرمزية الجاهزة التي تتضمنها (إذ قام كل من بيتر مورغان، كاتب مسلسل "التاج" وآلان بينيت [الممثل في "التاج"]، في مسرحيتهم التي تحولت إلى فيلم مسألة إسناد، A Question of Attribution، باستخدام صور شخصيات ضمن صور شخصيات أخرى، ووجوه "تكمن خلف المشهد السطحي" عندما تعاملا مع مسألة ازدواجية بلانت) وموادها الأولية الممتازة بالنسبة إلى كاتب النص التلفزيوني، جاءت أغرب من قصة خيالية كانت ستبدو متكلفة لو كتبت وفق الصيغة التخيلية.

ويقول مورفي في هذا الإطار، "كان هناك على الدوام تداخل بين الحقيقة والخيال في تاريخ الاستخبارات البريطانية"، وذلك مع قيام عملاء استخبارات سابقين فيما بعد، أمثال إيان فليمنغ (الذي يبرز كشخصية في "جاسوس بين أصدقاء") وغراهام غرين (الذي قام لفترة قصيرة برفع تقارير لـ فيلبي حين كان يعمل مع جهاز الـ "أم آي 6" وسيغدو واحداً من المدافعين العلنيين القلائل عنه) بكتابة قصص شكلت تمثيلاً لصورة الجواسيس على الشاشة، لكن على رغم هذا فإن جون لو كاري هو الذي سيبتكر أكثر الأعمال المتناولة لقضية كامبريدج استمرارية، فهو رغم عدم مقابلته فيلبي في حياته لامه في "تسريب معلومات للسوفيات طعنت به" وأنهت تجربته كجاسوس، ويقول أولدهام (لكنه يشير إلى أن كاتب سيرة لو كاري، آدم سيسمان، شكك في هذا الزعم).

ومنذ ذلك الحين قام الابن الأكبر للو كاري، سيمون كورنويل، بالتأكيد على أن والده "ما كان لينكشف على يد فيلبي لأنه كان قد انكشف سلفاً على يد جورج بلايك [الضابط والجاسوس في جهاز الـ "أم 16"].

وهذا الكاتب سيغدو في نهاية المطاف "مهتماً فعلاً بالتشابهات القريبة في السير الحياتية" بينه وبين فيلبي، يضيف أولدهام، إذ كان لكلاهما "أبوين شديدي التسلط سعيا إلى مقاومتهما"، وسيمضي لو كاري ساعياً إلى إدخال عناصر من سيرته الشخصية بسيرة فيلبي لخلق العميل السري المتخيل ماغنوس بيم في روايته الصادرة سنة 1986 "جاسوس كامل" A Perfect Spy التي حولت في ما بعد لعمل على شاشة "بي بي سي". (في مقابلته مع لو كاري سنة 2008 أجرتها "صنداي تايمز"، زعم الصحافي رود ليديل أن الكاتب اعترف بأنه كان يميل للتجسس لمصلحة السوفيات، فيما بعد كتب لو كاري للصحيفة نفياً قال فيه إنه والصحافي كانا "يحتسيان براندي كالفادوس بعد الطعام" وليديل "لم يظهر أية آلة تسجيل").

"السمكري الخياط الجندي الجاسوس" الصادر سنة 1974 يمثل على الأرجح أقوى أعمال لو كاري، فهو يرصد جورج سمايلي الذي كان متقاعداً تقريباً (ضابط أمن متقاعد) حين راح يحاول تحديد "الخائن" في قلب "سيرك كامبريدج"(الاسم الأدبي لمقر جهاز "أم آي 6" الرئيس)، متمكناً في نهاية المطاف من كشف خيانة نائب رئيس الاستخبارات بيل هايدون، ويلاحظ أولدهام أن تحرياته "لا تقترب كثيراً" من عمليات اصطياد الجواسيس في الحياة الواقعية، لكن هايدون بخلفيته الأرستقراطية وجاذبيته ومجونه يستحضر من دون شك أطيافاً من فيلبي.

النسخة التي أنتجتها الـ "بي بي سي" سنة 1979 من "السمكري الخياط" تميزت على مدى حلقاتها السبع بعناصر الغموض التي تحويها قصة لو كاري، وكذلك جاءت هذه الصيغة لتضع أسس مسلسل جاسوسية شديد الاختلاف يتميز بمشاهد استجواباته الممتدة والمليئة بالكلام ووتيرته البطيئة عمداً التي أعطت الأولوية لحالات الاضطراب الشديد على حساب مشاهد الحركة وبانعطافاته وانقلاباته المتاهية، إذ جعل المسلسلات الجاسوسية التقليدية المعروضة مثل "رجل من يو أن سي أل إي"The Man from UNCLE و"المنتقمون" The Avengers تبدو إزاءه بالغة الابتذال.

باجتذابه معدلاً وسطياً من المشاهدين يبلغ 8.5 مليون شخص، غدا هذا المسلسل حديث الساعة مما جعل البرنامج الإذاعي الصباحي لتيري ووغان على "راديو 2" يخصص فقرة له تطرح على المستمعين سؤال "هل يعرف أحد منكم ماذا يحصل؟" فيما أصدرت مجلة "ذا راديو تايمز" قاموساً بمصطلحات المسلسل المبهمة مثل "صيادو فروة الرأس" scalp hunters و"مشعلو الفوانيس" lamplighters. وفي منعطف آخر يحبس الأنفاس بعد أسابيع قليلة من انكشاف هايدون على الشاشة، تصدرت العناوين أخبار خيانة أنطوني بلانت، ويمكنكم تصور العاصفة الإعلامية التي ستندلع لو كشفت خيانة قائد كبير في الشرطة مباشرة بعد الحلقة الأخيرة من مسلسل [بريطاني بوليسي] "لاين أوف ديوتي" Line of Duty، وسيكون لديكم فكرة عن مدى تأثير هذا الأمر.

يعتبر أولدهام أن بعض أسباب استمرار انجذابنا إلى قصة جواسيس كامبريدج تنبع من "حنين إلى زمن كانت تبدو فيه الجاسوسية أكثر إنسانية، ولم تجر بعد تصفيتها كثيراً عبر التكنولوجيا"، ويتمرد مسلسل "جاسوس بين أصدقاء" على النمط السائد وذلك عبر إرجاعنا لتلك الحقبة، حقبة صناديق حفظ الرسائل والمواعيد في حانات متصنعة يملؤها الدخان وأنشطة الجواسيس (على عكس القصص التي تركز على التكنولوجيا في المسلسلات التلفزيونية الأحدث مثل "الحرب غير المعلنة" The Undeclared War و"أحصنة بطيئة" Slow Horses)، لكنها تتناول أيضاً أسئلة لا تنأى تقلقنا عن الطبيعة البشرية، إلى أي حد يمكننا فعلاً أن نعرف الأشخاص الأكثر قرباً منا؟

"إلى أي مدى كانت الصداقة حقيقية؟" يسأل كاري.

"من الغريب فعلاً خيانة شخص طوال 23 عاماً على مدى عمر الصداقة، لكن [في الوقت عينه] تبدو الصداقة حقيقية لدرجة مذهلة وذات قيمة كبيرة بالنسبة له، إذن كيف حصل هذا الأمر وكيف أمكن له أن يحصل؟"

فيلبي على ما يبدو ظل قادراً على تقدير واحترام إليوت فيما كان يرسل تقارير عنه إلى السوفيات (أحد تلك التقارير وصفته بأنه "بشع لا بل أشبه بخنزير لو نظر إليه المرء، وذكي يتميز بحس طرافة جيد").

في المقابل يقوم إليوت في ما بعد بازدراء خيانة فيلبي، آسفاً على الفراغ الذي تركه في حياته ذاك الصديق الهارب، وكما يقول كاري إنها تشابكات الدوافع والولاءات، تلك التشابكات البشرية جداً، هي ما يجعل قصة جواسيس كامبريدج "قصة بوليسية حقيقية لا تتوقف عن التأثير، ولم يجر إصدار أي حكم بصددها".

يعرض مسلسل "جاسوس بين أصدقاء" A Spy Among Friends على "آي تي في إكس" ITVX منذ 8 ديسمبر

© The Independent

المزيد من ثقافة