Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سمم روبرت مردوخ حياتنا العامة طوال 70 عاما... لكننا مدينون له

لم يكن من الحكمة على الإطلاق السماح لرجل مسن بأن يمارس مثل هذه السلطة غير العادية عبر 3 قارات لعقود من الزمن، لكن على رغم أخلاقه ومعاييره المشكوك فيها، فهو على نقيض غيره من أقطاب الإعلام أصحاب المليارات، كان شخصاً مبدعاً ومدافعاً قوياً عن الصحافة

استثمر مردوخ ملايين وربما مليارات لدعم صحف متعثرة، ومن ثم توفير فرص عمل لآلاف الصحافيين على مر الأعوام (أ ب)

ملخص

لا شك في أن أكثر من 70 عاماً من التعايش مع الأوليغارشية أو الإمبراطورية الإعلامية التي يتزعمها مردوخ، قد أدى إلى إضعاف إدراكنا للطبيعة الغريبة المتمثلة في منح فرد مسن واحد، مثل هذا التأثير غير العادي في الحياة والعمليات المدنية والديمقراطية، عبر ثلاث قارات، ولعقود من الزمن

لا يخلو إرث قطب الإعلام العالمي الملياردير روبرت مردوخ من إيجابيات. فهو على نقيض روبرت ماكسويل [مالك مجموعة "ميرور"] أو كونراد بلاك [القطب الإعلامي الكندي البريطاني]، لم يدخل في أنشطة غير قانونية. وعلى عكس لورد نوثكليف ألفرد هارمسويرث [مالك مجموعة صحف بريطانية]، لم يصب بجنون تام. وعلى نقيض الناشر ريتشارد ديزموند، كان يفهم الصحافة ويدافع عنها ويثمن دورها.

استطاع مردوخ أن يحول صحيفة "صن" إلى مطبوعة ناجحة ومربحة للغاية في المملكة المتحدة. واضطلع بدور محوري في إنشاء قناة "سكاي نيوز" تقريباً بمفرده، وقد حازت تقديراً كبيراً على مهنيتها واستقلاليتها (وإن كان ذلك بموجب القانون وليس التفضيل الشخصي لمردوخ)، إضافة إلى ذلك، استثمر ملايين لا تحصى - وربما مليارات - لدعم صحف متعثرة، ومن ثم توفير فرص عمل لآلاف الصحافيين على مر الأعوام.

ومهما كان "نزاع وابينغ" Wapping Dispute (إضراب طويل فاشل للعاملين في الصحف البريطانية في عام 1986، حاولت خلالها النقابات منع توزيع صحيفة "صنداي تايمز" وغيرها في مجموعة مردوخ بعد نقل الإنتاج إلى مقر جديد في وابينغ) من الوحشية والقبح في منتصف الثمانينيات، فقد كانت هناك حاجة لا يمكن إنكارها لتحديث أساليب إنتاج الصحف، ونقلها من ممارسات القرن التاسع عشر إلى التنضيد الحاسوبي الذي أصبح الآن معتمداً في جميع أنحاء العالم. وجرت محاولات عدة من قبل أطراف مختلفة، لكن الأمر تطلب شخصاً من عيار مردوخ لتحقيق هذا التحول بنجاح.

يوظف روبرت مردوخ عدداً هائلاً من الصحافيين المرموقين - وبات حتى أولئك الذين تنازلوا عن نزاهتهم المهنية تحت قيادته، يمتلكون المهارات اللازمة لإنشاء صحف وبرامج شعبية وممتعة للجمهور. في أوج عطائهم، يستطيع طاقم التحرير لدى مؤسسات مردوخ، أن ينافس بالمهارة والتميز الأفضل في العالم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في المقابل، خاض مردوخ أخطاراً كبيرة وكان مبدعاً. كانت تعتريه شكوك صحية تجاه الهياكل المؤسسية القائمة. وقد ألهم اثنين من أعظم بارونات الصحف الخيالية، هما لامبرت لو رو (الذي لعب دوره الممثل أنطوني هوبكينز) في مسرحية "برافدا" Pravda التي كتبها ديفيد هير وهاوارد برينتون في عام 1985، وطبعاً شخصية لوغان روي المستبدة التي تشبه شخصية "الملك لير" الشكسبيرية في المسلسل التلفزيوني "خلافة" Succession لجيسي أرمسترونغ.

مع ذلك، طغت على هذه الإيجابيات سلبيات في أذهان كثر، فقد أعلنت صحيفة "صن" - التي كانت ذات يوم أحد الأصول المربحة (الشبيهة بدجاجة تبيض ذهباً) لإمبراطورية مردوخ - عن تكبدها خسائر قبل حسم ضرائب مترتبة عليها بقيمة 127 مليون جنيه استرليني (155 مليون دولار أميركي) في عام 2022، ويعزى السبب جزئياً إلى المناخ الاقتصادي الصعب الذي يؤثر في قطاع الصحافة، وهو التحدي الذي لم يتمكن حتى مردوخ من التخفيف من وطأته بالكامل.

لكن الضربة المالية الرئيسة التي تلقتها صحيفة "صن"، نجمت عن إنفاق نحو 100 مليون جنيه استرليني (122 مليون دولار) على الرسوم القانونية المستمرة، والأضرار المرتبطة بفضيحة التنصت على الهواتف، التي تسببت بإغلاق صحيفة "نيوز أوف ذا وورلد" في عام 2011، واستمرت في مطاردة إمبراطورية مردوخ الإعلامية منذ ذلك الحين.

هذه الكارثة الأخلاقية - التي كلفت مردوخ أكثر من مليار جنيه استرليني - طغت عليها الفضيحة التي أحاطت بمحطة "فوكس نيوز" في وقت سابق من هذه السنة. وفيما يقضي الواجب الأساسي لأي مؤسسة إخبارية بقول الحقيقة، كان أحد المذيعين البارزين يبث أكاذيب وينشر نظريات المؤامرة التي كان يعلم ألا أساس لها من الصحة.

كيف لنا أن نعرف هذا؟ لأن الشركة المصنعة لآلات التصويت التي رفعت دعوى قضائية على "فوكس نيوز"، قالت إن برامج المحطة تحدثت عن تلاعب بالآلات لتقويض فرص دونالد ترمب في الانتخابات، ولأن عدداً من الوثائق الداخلية ورسائل البريد الإلكتروني أظهرت أثناء سير الدعوى القضائية، أن قناة مردوخ الإخبارية الرئيسة كانت تضلل عمداً جمهور المشاهدين.

في الشركات العادية، عندما تكشف إخفاقات وسلوكيات أخلاقية ومهنية كارثية (ناهيك بالجرائم الجنائية)، تكون هناك عواقب وخيمة وخضوع كثر للمساءلة والطرد. وغالباً ما يقال الرئيس التنفيذي من منصبه بسرعة وبطريقة تشبه الدفع به خارجاً دون أن تلمس قدماه عتبة الباب.

لكن ليس تلك هي الحال في "عالم مردوخ"، فقد برئت الرئيسة التنفيذية لمحطة "نيوز يو كي" ريبيكا بروكس، من جانب هيئة محلفين في "محكمة أولد بايلي"، في ما يتعلق بعلمها بالمخالفات التي كانت تحدث في شركتها، غير أنه سرعان ما عادت إلى وظيفتها في الشركة.

في المقابل، لم يواجه لاكلان نجل روبرت مردوخ، أي عواقب بسبب الهفوات الأخلاقية والإخفاقات الصحافية الفادحة في مؤسسة "فوكس"، التي من المرجح أن تكلف أكثر من مليار دولار، لا بل جرت ترقيته للتو إلى منصب الرئيس التنفيذي. إنه سيناريو لا يجرؤ حتى جيسي أرمسترونغ (كاتب السيناريوهات) على تخيله أو كتابته.

وقد اتهم ناشر الموقع الإخباري الأسترالي "كريكي" Crikey لاكلان مردوخ بأنه "متآمر مشارك غير متهم" في الهجوم على مبنى الكابيتول الأميركي في السادس من يناير (كانون الثاني) عام 2021. وسرعان ما أقام لاكلان دعوى قضائية بتهمة التشهير، لكنه عاد وأسقطها بمجرد خروج وثائق قضية شركة "دومينيون" Dominion لآلات التصويت الإلكتروني إلى العلن.

بعبارة أخرى، أنشأ روبرت مردوخ شركة تتمتع بشكل خاص من أشكال الحوكمة شبه الوراثية، التي كانت محصنة ضد القواعد التنظيمية المطبقة على الشركات العادية (على رغم أن جحافل كتاب الافتتاحيات وكتاب الرأي كان من شأنهم فضح عورات أي منظمة أخرى تظهر سلوكاً مماثلاً).

جنحت غرائز مردوخ نحو الممارسات الاحتكارية، واستمتع بفرض هيمنة ساحقة على السوق. وكان في الواقع من القبح رؤيته وهو يحاول القضاء على "اندبندنت" الناشئة، وتقويضها في مطلع تسعينيات القرن الماضي، من طريق خفض أسعار صحيفة "تايمز"، بطريقة قاسية ومفترسة.

واستخدم أيضاً هيمنته على السوق للتصرف من دون مواجهة أي عواقب. فعندما كشفت صحيفة "غارديان" في البداية عن فضيحة التنصت على الهواتف، كان واضحاً بالنسبة إليَّ كمحرر، أن قسماً كبيراً من المجتمع البريطاني بات متردداً في إزعاج هذا الرجل. فالسياسيون، والمؤسسات الإعلامية الأخرى، والهيئات المنظمة للقطاع، وحتى الشرطة، باتوا يدركون المخاطر المترتبة على جعل روبرت مردوخ عدواً لهم، واختار كثر البقاء بمنأى عن المتاعب وتجنب المواجهة.

آمن سياسيون عبر القارات الثلاث بأنهم لا يستطيعون تأمين نجاح انتخابي من دون الحصول على الدعم من مردوخ، سواء كان هذا الاعتقاد دقيقاً تماماً أم لا. ويبدو أن وجهات نظره في شأن قضايا مختلفة مثل تغير المناخ، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والانتخابات، وحرب العراق، والرأسمالية، ومؤسسة "بي بي سي"، كانت تتسرب كما من طريق التناضح، عبر أعمدة الصحف وافتتاحياتها.

وعلى رغم تخليه عن جنسيته الأصلية وانتمائه لمسقط رأسه لأسباب تجارية عملية، فإنه كان لديه نفوذ كبير على كل من الانتخابات الأسترالية والأميركية. وعلى رغم عدم كونه بريطانياً، وقلة زياراته للمملكة المتحدة، فإن صوته كان يصدح بشكل مدو في أروقة صناعة شؤوننا الداخلية، متجاوزاً الخطوط الحزبية. والحقيقة أن أحد وزراء حزب "العمال" علق في إحدى المرات على نحو فكاهي لرئيس تحرير صحيفة "صنداي تايمز" السابق أندرو نيل بالقول إن "روبرت مردوخ كان العضو الـ24 في حكومة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير".

وقال أندرو نيل نفسه للجنة تحقيق ليفيسون [لجنة قضائية للتحقيق في التزام المؤسسات الإعلامية البريطانية أخلاقيات الصحافة برئاسة القاضي لورد ليفيسون عقب فضيحة التنصت على الهواتف]: "أفهم أن في الأيام الأخيرة التي سبقت غزو العراق، تحدث رئيس الوزراء توني بلير بشكل متكرر مع روبرت مردوخ أكثر من إجرائه محادثات مع وزيري دفاعه أو خارجيته. وكانت جميع الصحف البريطانية التي يملكها، تدعم بقوة موقف رئيس الوزراء المؤيد للحرب. وفي الواقع، امتد هذا الموقف الموحد عبر سائر صحفه حول العالم، في ما يتعلق بهذه القضية المثيرة للجدل".

رئيس التحرير السابق لصحيفة "ديلي ميل" بول داكر، شارك وجهة نظر مماثلة أثناء ظهوره في تحقيق ليفيسون، معرباً عن "شكوكه في أن حكومة بلير، أو توني بلير نفسه، كان في وسعهما حشد الدعم الكافي للشعب البريطاني بالنسبة إلى المشاركة في الحرب (حرب العراق)، لولا الدعم الثابت الذي قدمته له صحف مردوخ. ليس هناك من شك في أن مردوخ نفسه كان وراء ذلك".

وقال كلفن ماكينزي، وهو رئيس تحرير سابق آخر تحت قيادة مردوخ، للجنة التحقيق نفسها: "إن وجود أميركي يظهر ازدراءً لبريطانيا، ويدير صناعة متدهورة من جهة انخفاض المبيعات والربحية والنفوذ، يعد أكثر أهمية من الاجتماعات مع قادة القطاع الكبار، بغض النظر عن حجم القوى العاملة لديهم، أو وضعهم المالي".

لا شك في أن أكثر من 70 عاماً من التعايش مع الأوليغارشية أو الإمبراطورية الإعلامية التي يتزعمها مردوخ، قد أدى إلى إضعاف إدراكنا للطبيعة الغريبة المتمثلة في منح فرد مسن واحد، مثل هذا التأثير غير العادي في الحياة والعمليات المدنية والديمقراطية، عبر ثلاث قارات، ولعقود من الزمن.

ومن المؤكد أن أي نظام عقلاني لإعلام الجمهور بالخيارات السياسية، لن يكون متسامحاً مع مثل هذا الملوث للخطاب العام والأدلة الصادقة والواقعية ـ خصوصاً على النطاق الواسع الذي يعمل به، لكننا سمحنا بحدوث ذلك.

لذا، أجل... إن الصحافة مدينة له نوعاً ما. وفي الوقت نفسه تحمل مسؤولية مطلقة في ما يتعلق بمحاسبته هو وعائلته. وإذا أصبح عامة الناس يخلطون بين مفهوم مردوخ الشامل للقيم الإخبارية والمعايير الأخلاقية، وما ينبغي للصحافة أن تمثله، فإن قطاع الأخبار سيكون في مأزق حقيقي.

© The Independent

المزيد من آراء