ملخص
لا تخلو فضيحة "ووترغيت" من مخالفات مالية أيضاً
على رغم أن قصة السيناتور الديمقراطي روبرت مينينديز الذي وجهت إليه وزارة العدل تهماً بالفساد تكتسب زخماً كل يوم في الولايات المتحدة وتتزايد الضغوط عليه من الحزبين لتقديم استقالته، فإنها كانت فرصة جديدة لتذكير الأميركيين بحجم الفساد المتعمق الجذور في العاصمة واشنطن منذ أمد بعيد، وأنه إذا كانت السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، فإنه يكفي بالنسبة إلى بعض السياسيين الأميركيين الذين يتطلعون إلى كسب المال، القليل من السلطة للانخراط في الفساد، فما مظاهر الفساد في أكبر عاصمة مؤثرة في العالم؟ وما أشهر قصص نخبة السياسيين الأكثر انحرافاً في تاريخ أميركا القديم والحديث؟
مفارقة صارخة
في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، استضافت العاصمة الأميركية المؤتمر الدولي الـ20 لمكافحة الفساد، وهو أكبر منتدى عالمي مستقل لمكافحة الفساد، بمشاركة رؤساء الدول وقادة الأعمال والمؤسسات المالية الدولية الكبرى، وقيمت منظمات المجتمع المدني من أكثر من 140 دولة كيفية الاستجابة للتحديات العالمية الرئيسة التي يلعب فيها الفساد دوراً مركزياً، بما في ذلك أزمة المناخ والنزاهة الديمقراطية والأمن العالمي وتأثير الأموال القذرة في الأنظمة الاقتصادية والسياسية، وكان تركيز المؤتمر على موضوع "استئصال الفساد والدفاع عن القيم الديمقراطية"، على اعتبار أن الفساد هو أخطر تهديد للنظام العالمي.
لكن على رغم أن وزارة العدل والمحققين الأميركيين أثبتوا قدرتهم على ملاحقة الفساد من خلال إحالة روبرت مينينديز رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ (تنحى عن رئاستها أخيراً) إلى محكمة فيدرالية، الأربعاء المقبل، فإن مجرد اتهام شخصية بارزة في أعلى سلم النخبة الأميركية عده المراقبون دليلاً آخر على أن الفساد عميق الجذور في واشنطن وفقاً لما يكشف عنه مسؤولون أميركيون بين حين وآخر، بخاصة أن السيناتور الديمقراطي مينينديز، البالغ من العمر 69 سنة، نجا من العقوبة قبل نحو ست سنوات مع انتهاء قضية رشوة جنائية سابقة ضده بوصول هيئة المحلفين في القضية إلى طريق مسدود.
تجفيف المستنقع
وفي حين أن مينينديز متهم بتلقي رشى بمئات الآلاف من الدولارات وهدايا أخرى ثمينة من ثلاثة رجال أعمال، أحدهم من أصل مصري مقابل التدخل لدى الادعاء لحمايتهم وإثرائهم وإفادة الحكومة المصرية بحسب نص التهم التي وجهها الادعاء، إلا أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وهو ما يصر مينينديز على أنه لم يرتكب جرماً ولهذا يرفض الاستقالة، لكن إذا انتهت المحاكمة بإدانته فلا شك أن هذه القضية سيكون لها أثر بالغ في واشنطن التي كانت ولا تزال تعاني تغلغل الفساد داخل المؤسسة السياسية منذ زمن بعيد، بحسب وصف عدد من أعضاء الكونغرس من الحزبين، فضلاً عن عدد من الكتاب والباحثين البارزين مثل جوناثان تورلي الذي اعتبر، في مقال نشره موقع "ذا هيل"، أن واشنطن تطفو بأكملها على بحر من الفساد، إذ يبيع أفراد الأسرة والزملاء النفوذ والقدرة على الوصول إلى المسؤولين رفيعي المستوى مثل مينينديز الذي لا يشتهر سوى بحجم شهيته ومدى جرأته، على حد قوله.
وإذا كان بعض أعضاء الكونغرس مثل السيناتور الديمقراطية إليزابيث وارين يطالبون في حملاتهم الانتخابية مراراً وتكراراً بالعمل على مواجهة الفساد المستشري في العاصمة، فقد جعله عضو مجلس النواب الجمهوري كين باك عنواناً لكتابه "تجفيف المستنقع"، الذي يشرح فيه كيف أصبح الفساد في واشنطن أسوأ مما يعتقد الناس من خلال سرد قصص حقيقية حول ما يحدث بالفعل خلف الأبواب المغلقة في الكونغرس أثناء المعارك التشريعية، ويقدم الصورة الحقيقية لما يجري في أعماق المستنقع، إذ عمل باك في اللجنة القضائية بمجلس النواب ولجنة الرقابة والإصلاح الحكومي.
معركة صعبة
ويشير كين باك الذي تم انتخابه عام 2014 إلى أن سبب عجز الكونغرس عن عمل كثير من مهامه لا يعود إلى الجمود السياسي، بل إلى أن أعضاء كل من الحزبين السياسيين يعملون معاً بشكل جيد للغاية لإغراق دافعي الضرائب وإغراق أميركا في مزيد من الديون، وشهد باك بنفسه كيف أن القواعد غير المكتوبة للكونغرس تعطي الأولوية باستمرار للمكاسب السياسية القصيرة المدى على القيادة الدائمة القائمة على المبادئ.
وشرح باك كيف أن مواجهة الفساد تعد معركة صعبة ومريرة، مشيراً إلى أنه عندما اختار الاشتباك مع سماسرة السلطة في واشنطن واجه عمليات انتقامية، وعندما أصر على أن يحافظ الجمهوريون على وعودهم أمام الناخبين تعرض للتوبيخ في قاعة مجلس النواب من قبل قادة حزبه الجمهوري، وعندما تجرأ أعضاء آخرون في الكونغرس على فعل ما اعتقدوا أنه مناسب لأميركا بدلاً مما أمر به زعماء الحزب، رآهم باك وهم يجردون من مناصبهم في لجان الكونغرس، بل وحرموا من امتيازات من قبل المتنمرين بهم.
تأثير مدمر للمال
وعرض فيلم وثائقي قبل سنوات قليلة، بثته شبكة "أتش بي أو"، التأثير المدمر للمال في الديمقراطية الأميركية، وأن إغراء الفساد وترسيخ دور المال شامل كنقطة مشتركة بين الحزبين السياسيين في أميركا، وسخر الفيلم من الوعد الذي أطلقته حملة الرئيس السابق دونالد ترمب بتجفيف واشنطن من مستنقع الفساد والمصالح المالية. وأشار إلى مستشار حملة ترمب الذي حكم عليه بالسجن لمدة 40 شهراً بتهم الفساد قبل أن يخفف عنه ترمب عقوبته قبل نهاية ولايته الرئاسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما عرض الفيلم الدور المدمر للمال في الديمقراطية التمثيلية، منذ قرار المحكمة العليا السماح بتبرعات غير محددة من قبل المجموعات السياسية الكبيرة المعروفة باسم جماعات العمل السياسي "سوبر باك"، إذ يتنقل المشرعون في غابة من التأثيرات الفاسدة بسبب التبرعات التي يتم جمعها، ويزداد التأثير كلما زادت التبرعات الأمر الذي يصفه أستاذ القانون بجامعة "هارفرد" لورانس ليسيج بـ"القيمة التهديدية للمال"، في إشارة إلى الحملات التي تقوم بها الشركات غير الراضية عن التشريعات، والتي يكون لها تأثير تأديبي في أعضاء الكونغرس، بخاصة على مناهضي القانون مثل قوانين تنظيم إنتاج الوقود الأحفوري.
وإذا كان كل شيء بدا قاتماً في الفيلم، فإن الأمل تمثل في أنه إذا تمكن الشعب الأميركي من رؤية وفهم مدى فساد الكونغرس، يمكن أن يجتمع الديمقراطيون والجمهوريون والمستقلون للمطالبة بأن يتوقف الأعضاء عن ممارسة هذه العملية.
محاولة بائسة
وعلى رغم أن مجلس النواب الأميركي صنع التاريخ، ذات مرة، حينما أقر قانوناً من أجل الشعب، وهو مشروع قانون لمكافحة الفساد وإجراء انتخابات نظيفة لإعادة توازن السلطة في واشنطن، واقتلاع المصالح الخاصة الراسخة وإنهاء سيطرة الأموال الضخمة على السياسات، ومطالبة المنظمات بالكشف عن تبرعاتها الكبرى للمرشحين السياسيين وتشديد قواعد العمل لجماعات العمل السياسي، إذ يكتب المانحون الأثرياء وأصحاب المصالح الخاصة من الشركات الشيكات واتخاذ القرارات، إلا أن مشروع القانون لم يقره مجلس الشيوخ الأميركي، في محاولة للحفاظ على الوضع الراهن الفاسد في واشنطن والحفاظ على السلطة في أيدي المانحين الأثرياء والشركات.
ومع ما يقارب 250 عاماً من التاريخ الأميركي، ربما ليس من المستغرب أن الحياة السياسية في البلاد شهدت لحظاتها الجيدة والسيئة معاً، فقد لاحقت الفضائح السياسية واشنطن منذ البداية، ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، وهي حقيقة تم تذكير الأمة الأميركية بها بين حين وآخر وصولاً إلى الاتهامات الأخيرة ضد مينينديز.
تاريخ من الفساد
ومن بين أشهر قصص الفساد في العصر الحديث، قصة تعود إلى عامي 2004 و2005 لراندال كانينغهام عضو الكونغرس الأميركي عن ولاية كاليفورنيا، والذي لم يكن ينقصه شيء، فقد كان طياراً بحرياً حاصلاً على أوسمة، ويتمتع بمظهر وسيم، كما كان يحمل لقب "دوق"، لكنه عندما جاء إلى الكونغرس كنائب جمهوري عام 1991 بدا مثل عديد من الساسة المحتالين، وبصفته عضواً في اللجنة الفرعية لمخصصات الدفاع بمجلس النواب، استخدم مواقفه لصالحه تجاه بعض العقود الحكومية الأكثر ربحاً، إذ اشترت إحدى الشركات المتعاقدة مع وزارة الدفاع منزل كانينغهام في سان دييغو مقابل ضعف قيمته السوقية تقريباً، ثم سمح له بالعيش من دون إيجار على متن يخت، وقدمت له خدمات أخرى ومدفوعات نقدية وسيارة رولز رويس، وفي عام 2005 أقر كانينغهام بأنه مذنب بقبول رشى بقيمة 2.4 مليون دولار، مما يجعله أكثر أعضاء الكونغرس فساداً في التاريخ وقضى عقوبة بالسجن لمدة ثماني سنوات.
فضيحة "ووترغيت"
ولا تخلو فضيحة "ووترغيت" من مخالفات مالية أيضاً، إذ عندما كان مراسلا صحيفة "واشنطن بوست" بوب ودورد وكارل بيرنستين، يحققان في عملية السطو على مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية في مجمع "ووترغيت" بواشنطن، طلب منهما المصدر السري المعروف باسم "الحنجرة العميقة" الذي تبين أنه مدير مساعد مكتب التحقيقات الفيدرالي مارك فيلت، تتبع أموال بقيمة نصف مليون دولار إلى من اقتحموا مبنى "ووترغيت"، وقد سمع صوت الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون في أحد أشرطة البيت الأبيض السيئة السمعة وهو يتحدث عن احتمال جمع مليون آخر من الأموال لشراء صمتهم، لكن نيكسون استقال عام 1974، بعد أيام من موافقة اللجنة القضائية بمجلس النواب على المادة الأولى من ثلاث مواد تتعلق بالعزل، كان من بينها اتهامه بالسماح بدفع "مبالغ كبيرة من المال" لإسكات الشهود.
رشوة وزير الداخلية
في عهد الرئيس وارن هاردينغ 1921 وحتى 1923 قبل وزير الداخلية ألبرت فال، سراً، مئات الآلاف من الدولارات في شكل سندات في مقابل تأجير احتياطات النفط البحرية السابقة في ولاية وايومنغ والمعروفة باسم "تيبوت دوم" لشركة خاصة، وأدى الكشف عن ذلك إلى أن أصبح فال أول وزير في مجلس الوزراء الرئاسي يذهب إلى السجن بسبب تصرفاته خلال أدائه وظيفته، وبحسب المؤرخ الرئاسي دوغلاس برينكلي، فإن إدارة الرئيس هاردينغ بأكملها انهارت في فترة ولايته الأولى، بعد أن أصاب هذا الفيروس مجموعة أصدقائه المقربين بأكملها، وأصبح هاردينغ مرادفاً للمحسوبية والفساد، وأدى التدقيق في حياة هاردينغ الشخصية إلى اكتشاف أن لديه عشيقة، مما وضع كثيراً من الضغط على الرئيس لدرجة أنه توفي في منصبه بسبب نوبة قلبية.
فضيحة "كريدي موبيليه"
في عام 1872 استخدمت شركة "كريدي موبيليه" التي تم منحها مهمة بناء خط السكك الحديد العابر للقارات أسهمها في رشوة كبار المسؤولين في إدارة الرئيس يوليسيس غرانت بمن في ذلك نائب الرئيس ورئيس مجلس النواب وأعضاء آخرون في الكونغرس بهدف تأمين دعم وموافقة الحكومة الفيدرالية، لكن الفضيحة ظهرت إلى النور وأصبحت مثالاً ساطعاً على رأسمالية المحسوبية الفاسدة التي ابتليت بها الحكومة الأميركية، ووفقاً لأستاذة التاريخ بجامعة "كونيتيكت" مانيشا سينها، فقد تمثلت مأساة فضيحة كريدي موبيليه في أنها شوهت صدقية إدارة المنح، على رغم أن الرئيس لم يكن متورطاً فيها شخصياً.
السرقة الكبرى
غير أن السرقة الكبرى التي لم يتجاوزها حتى الآن من جاءوا قبل أو بعد ويليام ماجير تويد وقعت في نهاية القرن الـ19، إذ كان ويليام تويد محتالاً مذهلاً، انتخب لعضوية الكونغرس قبل أن يبلغ الـ30 من عمره، ولكن المال الحقيقي جمعه في موطنه بمدينة نيويورك، وأصبح واحداً من أكبر مالكي الأراضي في المدينة بفضل بعض عمليات الاحتيال الأساسية، والمحسوبية المتفشية، وقبول كثير من الرشى والعمولات، لكن في أحد الانتصارات المبكرة للتقارير الاستقصائية ساعدت سلسلة من التقارير التي نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" ابتداءً من عام 1871 في إسقاط تويد وشركائه، ودين في النهاية بمئات التهم الجنائية، ونجحت مدينة نيويورك في رفع دعوى قضائية ضده مقابل ستة ملايين دولار، لكن المال الذي يعتقد أنه جزء صغير مما سرقه هو ورفاقه بالفعل، كان قد اختفى منذ فترة طويلة، وتوفي تويد في السجن عن عمر يناهز 55 سنة، مطمئناً إلى أنه سرق أكثر من أي موظف عام أميركي قبله أو بعده.