حلت الذكرى الثامنة لثورة الخامس العشرين من يناير، وشمْلُ شبانها مفرق بين متمسك بأهداف الثورة، وآخر حالم بقيمها، وثالث عازف عنها، أو رابع انقلب عليها بعد أن أخفقت نخبتها في الاتحاد حول مبادئها.
فخلال الـ18 يوماً التي انتهت بتنحي الرئيس السابق، محمد حسني مبارك عن الحكم، وتكليف المجلس العسكري إدارة شؤون البلاد، في 11 فبراير (شباط) 2011، يتذكر عدد ممن شارك في أحداث الثورة، كيف عاشوا تلك اللحظات وكيف آلت الأوضاع بعد ثماني سنوات.
يقول عمر سمير، الشاب الثلاثيني، وأحد المشاركين في الثورة: "كانت أحلامنا تلامس عنان السماء، عشنا أفضل وأنقى الأيام على الإطلاق، لكن ما تلاها من أحداث فرق رفقاء الميدان وأصبحنا فرقاء مشتتي الشمل".
سمير الذي درس العلوم السياسية في جامعة القاهرة، وكان أحد خريجي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، قبل أشهر من اندلاع الثورة، يتذكر: "كانت الثورة التونسية قد نجحت لتوها في الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي، حين قررنا الخروج على نظام مبارك، وحين بدأت عدد من الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، ومنها صفحة "كلنا خالد سعيد" على الفيسبوك، تدعو إلى التظاهر في الخامس والعشرين من يناير، وهو الموافق لعيد الشرطة، وحينها كانت أقصى أمانينا إقالة وزير الداخلية حبيب العادلي الذي كان رمزا للظلم".
خلافات السياسة بين فرقاء الميدان
ثم يتابع سمير القادم من أحدى قرى الصعيد المصري: "لم أتذكر كم ليلة بت في الميدان، لكن بقيت أذهب للميدان منذ أن أصحو من النوم حتى منتصف الليل. ويوما بعد يوم كانت الشعارات تزداد حماسة والهتافات تتعالى والمطالبات تتصاعد بضرورة محاسبة النظام وإقامة نظام يخدم مصالح المصريين. ومن أعلى الهتافات، كان هناك إثنان: "الشعب يريد إسقاط النظام" و"عيش، حرية، عدالة اجتماعية".
ويروي سمير كيف كان مريدو الميدان وقت الثورة مجتمعين على هدف واحد وهو "إسقاط نظام مبارك وإرساء دولة مدنية وديموقراطية" على رغم تنوعهم الثقافي والاجتماعي والفكري، قائلاً: "كنا نطوف الميدان نهاراً ونتناوب على حمايته ليلاً، نتعارف ونستمع لما تقوله المنصات والقنوات الدولية، كما كنا نستمتع بالأغاني الوطنية التي لم نستشعرها من قبل سوى داخل الميدان، حيث امتلكنا الوطن أو هكذا شعرنا. لم يكن أكثرنا يعرف من حوله لكننا كنا نشعر بالأمان تجاه بعضنا البعض". ثم يضيف: "كانت الآمال والطموحات في السماء، كنا نحلم بأوضاع تحترم كرامتنا وآدميتنا وبعدالة اجتماعية واقتصاد يخلق فرصاً تستوعبنا وبمساواة وتكافؤ فرص وتحول ديموقراطي حقيقي بمؤسسات تمثل المواطنين؛ عشنا ومارسنا الحرية التي طالبنا بها". إلا أن سمير يضيف: "سرعان ما تبدلت الأوضاع بعد تنحي مبارك، إذ تاهت القيم والمبادئ بسبب خلافات السياسة بين رفقاء الميدان".
سمير الذي يعمل باحثاً في أحد مراكز الفكر في القاهرة، يتابع: "مع مرور الوقت وتتابع الأحداث وسيادة مناخ اليأس والإحباط، تحوّل عدد كبير من شباب الثورة من الهموم الوطنية إلى الهموم الشخصية وتسيير أمورهم والحفاظ على الأمان الشخصي أو الوظيفي، سواء بالسكون أو البحث عن فرصة للهجرة أو الانخراط في التطور المهني".
لم يكن سمير وحده الذي يُرجع ما آلت إليه الأوضاع بعد الثورة إلى الخلافات السياسية بين رفقاء الميدان، نتيجة حداثة عهدهم بالسياسية. وفي هذا الصدد تقول ماجدة إبراهيم، التي دخلت العقد الخامس، إن "تذكر يناير في حد ذاته، أصبح يُثير الشجون"، مضيفةً: "رغم أنني لست ممن ينتمون فعلياً لتيار سياسي محدد، فإن بدايات انزعاجي وخوفي على فقدان الثورة بدأ مع مشهد خروج مؤيدي نظام مبارك للاحتفال مع بقية المتظاهرين عند التنحي؛ شعرت حينها بأن براثن ’الثورة المضادة‘ تلوح في الأفق". ثم تقول: "بالتوازي مع خلافات رفقاء الثورة سياسياً وصعود الثورة المضادة، بدأت في التيقن أن الأمور لا تسير في مسارها الذي كنا نريد".
في المقابل، يقول عماد السيد، صاحب أحد المحال التجارية في محيط ميدان التحرير، وهو كذلك في عقده الخامس: "تفاءلنا كثيراً بالثورة، وما يمكن أن تحرزه للمواطن المصري من تحسن على كافة المستويات بعد أن بات الشعب سيد قراره، لكن سرعان ما انعكست الأحداث التي تلت الثورة لتؤثر بالسلب على مجمل حياة المواطنين، من تردي في الأوضاع الاقتصادية، وانعدام الأمن وفوضى في الشوارع، ناهيك عن بدء تحكم جماعة الإخوان المسلمين في المشهد، وتحريك مصالح الوطن باتجاه أهدافهم الخاصة ومشروعهم الخبيث".
25 يناير ’نتاج مخطط خارجي‘
ثم يمضي السيد: "ثبت لي أن ثورة يناير كانت إحدى أكبر المآسي التي شهدتها مصر في عصرها الحديث، وتولدت لدي قناعة بأنها نتاج مخطط خارجي، لما شهدناه من جماعة الإخوان خلال عام حكمهم (يونيو 2012/ يونيو2013). فالعنف والإرهاب ضربا البلاد بعد أن طالبهم الشعب بترك السلطة... والآن وبعد 8 سنوات، أرى أن البلاد بدأت تتعافى وتستقر الأوضاع".
وفي رأي السيد، أن أكثر ما يشغل بال المواطن المصري الآن هو الاستقرار والأمن بعد سنوات من العنف تلت حكم جماعة الإخوان المسلمين، معتبرًا أن "ممارسة السياسة الآن بمفهوم حريات يناير، من تظاهر ومطالبات فئوية، بات في قاموس الماضي لدى الشعب المصري، الذي قرر بناء دولته والنهوض بها".
من جانبه، يرى الباحث السياسي، هاني سليمان إن "أحداث 25 يناير وما بعدها أثبتت عدداً من الملاحظات والتحولات الهامة في تاريخ مصر، أبرزها، أن المقدمات والنوايا الحسنة لا تقود بالضرورة إلى نتائج جيدة. فحركة الاحتجاجات في العالم العربي عموماً، وفي مصر خصوصاً، لها طبيعة وتجاذبات مختلفة، بحيث يتحكم في الأحداث العديد من العوامل والفاعلين ذوي التطلعات المختلفة، من أصحاب القوى والنفوذ وشبكات المصالح، المرتبطة بالخارج أيضاً، والتي نجحت في تجاوز المد الثوري، وخفض طموحه، خصوصاً مع انقضاض البعض على مكتسبات المرحلة، والدخول في نفق خلافات سياسية ضيقة".
ويستطرد سليمان: "لقد أثبتت التجربة وجود خلل كبير داخل النخبة، التي فشلت في إقناع الجماهير بقدرتها على تحمل المسؤولية. وأعتقد أن ذلك منبعه فجائية حالة 25 يناير، في ظل بيئة غير جاهزة تفتقد قواعد الثقافة السياسية، وهو ما أدخل الدولة في فوضى التجاذبات السياسية وحالة ارتباك في تحديد المسار". ويتابع: "سيادة الخطاب العدائي وتشويه كل شيء وأي شيء، أسهم في عدم وجود مسار واضح لوحدة الخطاب المجتمعي ومصالحه، بحيث غابت العدالة الانتقالية، وسادت حالة من العداء بين الحرس القديم والحرس الجديد، وداخل كل تيار، ما أفرز في النهاية حالة من الاحتقان المجتمعي قامت بالنيل مما تبقى من مكتسبات مشتركة للثورة".
فشل الأحزاب السياسية
وعلى الرغم من نشوء عدد كبير من الأحزاب والحركات والتنظيمات السياسية في مرحلة ما بعد يناير، فإنها، وفق سليمان، "لم تكوِّن في النهاية نواة حزبية حقيقية قادرة على التواصل مع الشعب وتحقيق مطالبه، بل زادت الفجوة. وأخفقت عشرات الأحزاب في تحقيق شيء يذكر، في ظل تشابه برامجها، وعجزها. واستمر الانقسام المجتمعي كبيراً في السنوات الانتقالية. كما أدى تزايد الأعباء الاقتصادية على المواطنين في ظل تراجع مداخيل مصر من العملات الصعبة من قطاعات كالسياحة وقناة السويس، إلى عزوف الكثير عن يناير كفكرة وحدث".