Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النحاتة بربارا ريبو تنتصر للماضي الأفرو - أميركي

معرض نيويوركي لأعمالها يكشف النقاط المشتركة بينها وبين صديقها جياكوميتي

النحاتة بربارا في معرضها في متحف نيويورك (خدمة المعرض)

ملخص

معرض نيويوركي لأعمالها يكشف النقاط المشتركة بينها وبين صديقها جياكوميتي 

"كان كل شيء مطلياً بالجص، حين التقيتُ به للمرة الأولى: الجدران، الأرض، السقف، وحتى هو كان أشبه بمومياء مصرية متجوّلة، يغطيها الجص الأبيض". هكذا تتذكر الأميركية باربرا تشايس ريبو زيارتها لمحترف الفنان االسويسري جياكوميتي في حي مونبارناس عام 1962، وكان ذلك اللقاء الأول بين نحاتين مغتربَين يقيمان في باريس. أما اللقاء الأخير، فكان في ميلانو، قبل فترة قصيرة من وفاة جياكوميتي. وبينهما، حصلت لقاءات عدة، لعل أبرزها هو ذلك الذي جمعهما على أرضية الفن، ويعكس انسجاماً كبيراً بين عملاقين التفتا إلى الماضي لإعادة ابتكار فن زمنهما. لقاء مثير وخصب يشكّل موضوع المعرض الذي ينظّمه حالياً "متحف نيويورك للفن الحديث".

من بين النقاط المشتركة العديدة التي تمكن ملاحظتها في هذا المعرض، عودة جياكوميتي وتشايس ريبو، الثابتة، ليس فقط إلى الماضي، بل إلى الشكل البشري أيضاً. لكن بينما كان جياكوميتي ينطلق غالباً من الطين، مقولباً أعماله بيديه، قبل صبّها في الجص، فضّلت تشايس ريبو تقنية "السبك بالشمع الضائع"، القديمة جداً، التي تقوم على إنجاز المنحوتة أولاً بالشمع، قبل صبّها في مادة البرونز، علماً أنها طوّرت هذه التقنية لاحقاً بإدخالها أليافاً من الصوف أو الحرير على منحوتاتها. اختلاف طفيف لا يحُول دون تفاعل أعمالهما تفاعلاً مدهشاً، كما يمكن استشعار ذلك في معرضهما الحالي الذي يتضمن خمس منحوتات لجياكوميتي، من بينها "نساء البندقية" (1956) التي تتألف من عدة تماثيل، وخيار واسع من أعمال تشايس ريبو يغطي سبعة عقود من نشاطها الفني.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن المعرض مصمم بطريقة غايتها كشف طبيعة هذا التصادي بين أعمال الفنانَين، وإظهار عدم بلوغه حدود التأثير المباشر. فمع أن تشايس ريبو كانت في سن الـ 23 حين قدّمها المصوّر الشهير هنري كارتيي بريسون إلى جياكوميتي، لكنها لم تحظ بفرصة معاشرة هذا الأخير طويلاً، لوفاته المبكرة عام 1966. لكن هذا لا يعني أنه لم يترك أثراً جلياً على فنها، يتجلى بقوة في منحوتتها "الزوجان" (1963) التي تستقر شخصيتاها المنصهرتان على سيقان رفيعة للغاية، وتستحضر بقوة منحوتة جياكوميتي "نساء البندقية". يتجلى هذا الأثر أيضاً في تبنّيها طموح صديقها إلى إعادة تخيّل الشكل البشري عن طريق نماذج مصرية قديمة. ولكن بينما منح جياكوميتي لأجساده الهزيلة الحضور الرقيق والشبحي للحروف الهيروغليفية، لجأت هي إلى الميثات والتمثّلات النموذجية للوجوه والقامات الأفريقية، إلى جانب سعيها إلى قلب النظام المادي المنتظَر للأشياء، كما في منحوتتها "امرأة سوداء مستقيمة في البندقية" (1969) التي تتموّج فيها مادة البرونز، مشكّلة ضفائر وتجاعيد، كما لو أنها لا تزال في حالة انصهار، أو في منحوتتها المتراصة "زنجبار" (1974) التي يبدو معدنها وكأنه يطفو على خيوط سميكة من الصوف تتدلى إلى الأرض على شكل شلال.

"يلتفّ المستحيل حول إصبعها"، كتب أحد النقاد عن تشايس ريبو في مناسبة هذا المعرض. ولا يفاجئنا هذا القول حين نعرف ما أنجزته هذه المرأة طوال مسيرتها، ولا يقتصر على ميدان النحت، بل يطال أيضاً ميداني الشعر والرواية اللذين لمعت أيضاً في كل منهما. إنجازات تشكيلية وكتابية ما زالت لسبب مجهول (لون بشرتها؟) غير معروفة كما تستحق داخل وطنها وخارجه، بما في ذلك في باريس حيث تقيم وتعمل منذ عقود طويلة، وذلك على رغم معارضها المنتظمة في أهم متاحف الغرب، والمقالات الغزيرة التي كتبت عنها في أكبر الصحف والمجلات.

في واحد من هذه المقالات، نعرف أن تشايس ريبو كانت في سن العشرين حين تمكنت من بيع عملها الفني الأول إلى "متحف نيويورك للفن الحديث"، وهو محفورة على خشب أنجزتها في سن الخامسة عشرة! بداية ميمونة لمسيرة ملحمية، منذ دراستها في "كلية ييل للفنون" العريقة، وحتى اليوم حين باتت من أكثر الفنانين انتاجاً وثورية في عصرها، بإنجازها أعمالاً تحدّدها مهاراتها التقنية النادرة وتأملاتها الحارقة في التاريخ الأميركي.

هوية تشايس ريبو الفنية الفريدة تعود أساساً إلى تركيزها باكراً على عملها النحتي والرسمي، وإلى سعيها الدؤوب لصقل أسلوب خاص بها، عبر تشبّعها من عمل فنانين كبار، مثل جياكوميتي طبعاً، ولكن أيضاً النحات برانكوزي والرسامين ويلفريدو لام وفييرا دا سيلفا، والمصوّرين كارتيي بريسون وجورج رودجر. تعود أيضاً إلى تطويرها بسرعة تقنية هجينة تقوم على استثمار حبال وقطع نسيج ومواد عضوية أخرى داخل منحوتاتها المصبوبة دائماً داخل مادة البرونز. وحول هذا المعدن الذي هو بمثابة خطّ موجِّه لعملها، صرّحت يوماً: "إنه لا زمني، مشحون بالتاريخ".

وبهذه المادة، انطلقت عام 1969 في العمل على سلسلتها الشهيرة "مالكوم إكس" التي رصدت منحوتاتها العشرين لمواطنها، المناضل من أجل حقوق السود الذي قتلته يد الغدر عام 1965. أعمال ضخمة على شكل نصب تذكارية، أنجزتها تشايس ريبو بوسائط مختلطة، ويظهر فيها تأثرها بالفنون الفرعونية المأتمية. ومع أن تشكيل هذه المنحوتات، الذي امتد حتى عام 2018، تطور على مرّ السنين، إلا أن الفنانة لجأت إلى التقنية نفسها لابتكار كل منها، أي التلاعب بألواح رقيقة من الشمع لخلق أشكال هندسية مهيبة، ثم صبّها في مادة البرونز ولفّها بخيوط من حرير وصوف: "قوة هذه القطع تنبع من تجاور المواد المستخدمة فيها وتفاعلها في ما بينها"، صرّحت عام 2013. أعمال نتلقاها كنصب شعرية، ولا تلبث أن تنجز الكثير غيرها لشخصيات أسيء فهمها أو لفّها النسيان.

وعلى المستوى الكتابي، وضعت تشايس ريبو أول مجموعة شعرية عام 1974، تكفّلت مواطنتها توني موريسون بنشرها تحت عنوان "من ممفيس وبكين". وقبل صدور مجموعتها الثانية، "بورتريه امرأة عارية مثل كليوباترا" (1988)، التي حصدت جائزة "كارل ساندبورغ" العريقة، اختبرت عام 1979 النوع الروائي بتحويلها قصيدة طويلة كانت في طور الكتابة إلى رواية حول سالي هيمينغز، العبدة التي عشقها الرئيس توماس جيفرسون وأنجب منها ثلاثة أولاد. مذّاك، وضعت روايات تاريخية مهمة، كتلك التي سردت فيها قصة جوزيف سينك، العبد الأفريقي الذي أشعل التمرد على متن سفينة العبيد الإسبانية "أميستاد"، عام 1893، وروايتها حول ساره بارتمان، المرأة الجنوب أفريقية التي استُعبدت واقتديت إلى أوروبا حيث اشتهرت تحت اسم "فينوس هوتنتوت" بسبب مؤخرتها الكبيرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وضمن المسعى نفسه، تندرج أعمال فنية كثيرة لها، نذكر منها: "رسوم تذكارية" (1996 – 1997) التي يبلغ عددها 23، وخصصت تشايس ريبو كل واحد منها إلى شخصية تاريخية؛ تجهيزها داخل "نصب الممر الأوسط" في واشنطن، الذي يتألف من محفورات ورسوم بالفحم والحبر تظهر فيها مناظر وهندسات من عالم آخر، وهو بمثابة تكريم لذاكرة آلاف الأفارقة الذين قُتِلوا خلال تجارة العبيد، وابتهال لمستقبل أكثر عدالة. ومنحوتتها الشاهقة التي تزيّن مدخل مبنى "مكتب تيد فايس الفيدرالي" في مانهاتن، وتشكّل، بركونها على قاعدة مصممة على شكل سفينة عبيد، تذكيراً صارخاً بحقيقة تشييد هذا المبنى فوق مقبرة لذوي البشرة السمراء، وبعنوانها "نهضة أفريقيا"، وبالرمز الأنثوي المجنّح الذي يعلوها، تحية للقارة السوداء.

 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة