Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العنصرية الكامنة... أضغاث لوثر كينغ تهزم أحلامه

لا يزال الأميركيون ينكرون أن إمبراطوريتهم بنيت على أسس عرقية وحادثة جاكسونفيل أحيت ستة عقود من "الجمر تحت الرماد"

كل حادثة عنصرية جديدة تبرهن على أن هدف لوثر كينج لا يزال بعيد المنال بعد مرور 60 عاماً على خطابه التاريخي "عندي حلم" (أ ف ب)

ملخص

هكذا أعادت حادثة جاكسونفيل قصة الكفاح ضد العنصرية في أميركا إلى الواجهة؟

كأنه قدر مقدور في زمن منظور ذاك الذي يطارد الولايات المتحدة بعد ستة عقود من مسيرة القس المغدور داعية حقوق الإنسان مارتن لوثر كنغ بحثاً عن حلم شهير رحل قبل أن يدركه.

في أغسطس (آب) عام 1963 زحف عشرات الآلاف الأميركيين من أصول أفريقية وراء قائدهم الرمزي أملاً في عالم أميركي يتسم بالمساواة والعدالة، عالم ينفض عنه إرث العبودية البغيض الذي عاشته البلاد منذ تأسست، وفي ذلك النهار علا صوت مارتن لوثر كنغ بقوله "أقول لكم يا أصدقائي اليوم إنني على رغم مصاعب اللحظة وإحباطاتها لا يزال عندي حلم، وإنه لحلم عميق الجذور في قلب الحلم الأميركي الكبير".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هتف مارتن لوثر كنغ "عندي حلم أن هذه الأمة ستنهض ذات يوم وتطبق معنى عقيدتها الحقيقي، نحن نعتبر أن هذه الحقائق بديهية وأن البشر جميعاً مخلوقون سواسية، عندي حلم أن أطفالي الأربعة سيعيشون ذات يوم في أمة لن يحاكموا فيها بحسب لون بشرتهم، بل بحسب مضمون خلقهم"، فهل لا يزال تحقيق حلم لوثر بعيد المنال؟

عشية مرور 60 عاماً على خطاب لوثر التاريخي كانت مدينة جاكسونفيل إحدى أكبر مدن ولاية فلوريدا الأميركية تشهد واقعة مأسوية وبغيضة، بحسب وزير الأمن الداخلي الأميركي أليخاندرو مايوركس، فقد قام شاب أبيض بإطلاق النار على مواطنيه من الأميركيين الأفارقة في متجر "دولار جنرال" موقعاً رجلين وامرأة.

وبحسب تحقيقات شرطة المدينة فإن الجاني تصرف من تلقاء نفسه، كما أنه قبل الواقعة الحزينة كتب بيانات عدة على شبكات التواصل الاجتماعي توضح بالتفصيل كراهيته للسود.

كارثة هذا المشهد تتمحور أولاً حول أن الجاني في أوائل العشرينيات من عمره، مما يعني أن داء العنصرية البغيض قد عرف طريقه إلى أجيال معاصرة، وأن الكفاح والنضال من قبل الأميركيين ذوي الجذور الأفريقية لم يفلح في تغيير العقلية التي نشأ تحت رعايتها مثل هذا الشاب، وأن حال الانسداد التاريخي العنصري لا تزال قائمة في الروح الأميركية، وقد يمضي ذلك طويلاً.

 

 

والأمر الآخر الذي يشكل قضية مخيفة لمستقبل الولايات المتحدة هو حال الاستعداد التي كان عليها الجاني، فقد ارتدى سترة تكتيكية مما يعني أنه كان متجهزاً للقيام بعملية عسكرية، ويحمل بندقية من طراز "آي آر" ومسدساً عندما بدأ بإطلاق النيران، مما يقودنا إلى الحديث عن واحدة من أزمات أميركا الداخلية الخطرة، وهي ظاهرة انتشار الأسلحة من غير مقدرة حقيقية على مواجهة الأزمة، لا سيما في ظل الحق الدستوري لكل مواطن أميركي في حمل السلاح.

العنصرية رسمياً وشعبوياً

يظهر المشهد الأميركي نوعاً من الازدواجية التقليدية الكامنة في العقلية والروح الأميركيتين، ذلك أنه في حين انتهت العنصرية رسمياً بحكم القوانين، فإن الواقع الحياتي يقطع بتجذرها في النفسية الأميركية، فقد تم إلغاء العنصرية رسمياً عقب صدور قانون الحقوق المدنية عام 1964 الذي يحظر التمييز في داخل البلاد على أسس من العرق أو اللون أو الدين أو الجنس أو الأصل، وفي عام 1965 ساعد قانون حق التصويت على ترسيخ مكاسب حركة الحقوق المدنية، إذ أسقط القانون الأخير ممارسات التصويت التمييزية التي تم تبنيها بخاصة في الولايات الجنوبية لحرمان الأميركيين من أصل أفريقي من حقوقهم، وفي ذلك الوقت أسس القانون لرقابة فيدرالية على الولايات ذات تاريخ التمييز العنصري، إذ منعت من سن أية تغييرات على قوانينها الانتخابية من دون مراجعة وتصريح مسبق من وزارة العدل، مما أدى إلى مشاركة عدد من الأميركيين السود في الحياة السياسية الأميركية.

 

 

وقطعت أميركا الرسمية في ذلك الوقت خطوات إيجابية وخلاقة تفتح الباب واسعاً أمام مشاركة السود، وعلى سبيل المثال أنهى قانون الإسكان العادل لعام 1968 الممارسات التمييزية العلنية المتمثلة في رفض بيع الممتلكات للأميركيين السود، وسمح بملاحقات قضائية لمخالفي هذا القانون، كما تم إقرار قانون إحصاءات الكراهية عام 1990 الذي طلب من وزارة العدل جمع ونشر بيانات في شأن الجرائم التي ترتكب بدافع الكراهية على أساس العرق والدين والانتماء العرقي والتوجه الجنسي، ولم تتوقف التوجهات الرسمية القانونية الأميركية عند حقبة الستينيات وحسب، فقد امتدت حتى تسعينيات القرن الماضي، ففي عام 1994 تم إقرار قانون يسمح للقضاء بتشديد عقوبات جرائم الكراهية على أساس العرق أو الجنس أو الإعاقة أو التوجه الجنسي، كما وقعت الولايات المتحدة على الاتفاق الدولي للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري وصادقت عليه عام 1994، وقدمت للمرة الأولى تقريراً عن التقدم الذي أحرزته في تنفيذ الاتفاق إلى لجنة القضاء على التمييز العنصري عام 2000.

ويعن لنا أن نتساءل كيف لا تزال العنصرية وأشكال التمييز ضد السود والأقليات العرقية الأخرى قائمة؟ ولماذا تشهد مدن وولايات مختلفة بين حين وآخر حوادث عنف عنصري على أساس العرق يفرز تظاهرات واحتجاجات تصل أحياناً إلى أعمال عنف لمواجهة العنصرية والتمييز؟ وربما يتحتم علينا الغوص في التاريخ الأميركي لفهم أبعاد أزمة العنصرية التي تطفو على السطح ثانية.

عن العبودية والرأسمالية

تبدو مسألة التأريخ لقصة العبودية التي ولدت العنصرية عبر المسيرة الأميركية مسألة شاقة وعسيرة، ولعل أفضل من تناولها بالشرح المستفيضن الكاتب الأميركي إريك فونر في موسوعته العالية والغالية القيمة "أعطني حريتي.. ملحمة التاريخ الأميركي المستمرة"، وربما جاءت حادثة مدينة جاكسونفيل أخيراً لتثبت أن النضال من أجل الحرية في الداخل الأميركي مسألة مستمرة في التاريخ كانت ولا تزال مشتعلة وما من قراءة مستقبلية جذرية لها، وباختصار غير مخل يربط فونر بين العبودية ومسألة الإمبراطورية الأميركية القائمة على الرأسمالية منذ البدايات، فقد كان أكثر من نصف الأفارقة الذين تم نقلهم إلى العالم الجديد والذين يقدر عددهم بنحو 7.7 مليون وصلوا بين عامي 1700 و1800، وبعد ذلك تمت إدانة تجارة العبيد عبر الأطلسي من قبل رجال الدولة والرأي العام واعتبارها جريمة ضد الإنسانية، غير أنه في القرن الـ 18 كانت تجارة العبيد من ضمن الأعمال المقننة، وقد شارك التجار الأوروبيون والأفارقة والمزارعون الأميركيون في مفاوضات معقدة حول حياة الإنسان في مقابل تأمين تحقيق الأرباح، وكانت الغالبية العظمى من العبيد الأميركيين في معظم القرن الـ 18 أفارقة من حيث المولد، وظلوا لأعوام عدة يتحدثون لغاتهم المحلية ويمارسون الديانات الأفريقية، وبحلول منتصف القرن الـ 18 كانت العبودية ذات النظم الثلاث في أميركا الشمالية قد أنتجت الثقافات الأميركية الأفريقية المميزة، وكانت تجربة العبودية والرغبة في الحرية بمثابة الخيوط المشتركة التي ربطت هذه الثقافات الأميركية الأفريقية الإقليمية، فقد خاطر السود بحياتهم في جهودهم المبذولة لمقاومة الاستعباد طوال هذا القرن.

 

 

أما المؤرخ الأميركي الكبير إدوارد بابتيست فيلفت إلى الدور الذي لعبه العبيد في زخم الاقتصاد الرأسمالي لأميركا في وقت باكر جداً، ويحدثنا بابتيست عن ازدهار الجنوب الأميركي وكيف تبدلت أحواله الاقتصادية من مزارع ضيقة مليئة بالتبغ إلى إمبراطورية قارية للقطن، ومن ثم نمت الولايات المتحدة لتصبح اقتصاداً حديثاً صناعياً رأسمالياً، فقد استخرج ملاك العبيد من عبيدهم كفاءات هائلة عبر التعذيب والعقاب، مما أتاح للجمهورية الأميركية سطوة هائلة على السوق العالمية للقطن الذي كان يمثل الثورة الصناعية، وكفل للولايات المتحدة أن تصبح أمة قوية مزدهرة، وهو ما لا تذكره الذاكرة الأميركية المعاصرة، بل على العكس من ذلك تتنكر له، والدليل ما جرى في جاكسونفيل حيث جرى أحدث فصول العنصرية الأميركية، مما يفتح الطريق واسعاً أمام تساؤلات معمقة عن العنصرية في الداخل الأميركي، وهل هي أصيلة أم دخيلة؟

لا مساواة ممنهجة

وتستدعي تطورات المشهد العنصري في الداخل الأميركي طرح علامة استفهام مثيرة وربما خطرة، هل هناك منهجية مؤسسية قائمة في قلب النظام الأميركي ولو بصورة خفية ضد السود في طول البلاد وعرضها؟

ربما نجد الجواب لدى أستاذ علم الاجتماع الزائر في جامعة "سيتي لندن" البروفيسور علي راتاسي عبر مؤلفه الشيق "العنصرية.. مقدمة قصيرة"، إذ يحدثنا عن التمييز العنصري الصارخ في الداخل الأميركي وأشكال اللامساواة في الولايات المتحدة بصورة عامة، فعلى سبيل المثال في عام 2001 كان الدخل المتوسط الحقيقي للأسر السوداء يعادل 62 في المئة فقط من دخل الأسر البيضاء، وهو رقم يهبط إلى 58 في المئة إذا تم استبعاد الإسبان، كما تبلغ نسبة الأطفال الأميركيين السود الذين ينشأون في الفقر، بحسب التعريف الرسمي للدولة، ثلاثة أضعاف النسبة بين الأطفال البيض، فيما ظلت معدلات البطالة بالنسبة إلى الرجال السود ثابتة بكل صلابة عند مستوى ضعفين في الأقل مقارنة بكل الرجال البيض لفترة طويلة.

 

 

ويظل الأميركيون الأفارقة أكبر جماعة منفصلة سكنياً عن غيرها في الولايات المتحدة، ويرجع هذا جزئياً إلى رفض الأميركيين البيض العيش في مناطق يعيش فيها أكثر من 20 في المئة من السود، كما أن الاختلافات في معدلات وفاة الرضع كبيرة بدرجة خطرة، وهو مؤشر واضح على صحة السكان، إذ تبلغ معدلات وفيات الرضع السود ضعف مثيلاتها بين البيض، وفيما يكمل نحو 75 في المئة من الأميركيين الأفارقة الآن دبلومة المدرسة الثانوية، فإن 145 فقط يحصلون على درجة جامعية.

ولعل الناظر بعين متأنية إلى العاصمة الأميركية واشنطن يدرك تمام الإدراك أن هناك حراكاً عنصرياً عميقاً قائماً في القلب منها، فهي تكاد تكون مقسومة قسمين، ناحية واسعة فخمة نظيفة، حيث البيت الأبيض وبقية الوزارات الأميركية المعنية، وهي مثال متجسد للمدينة الرحبة الواسعة المتسعة الأنيقة بالحدائق والمباني السكنية النموذجية، وناحية أخرى يسكنها السود فقط، وهي مثال سيئ للبؤس والدمار وقلة الحيلة وضيق ذات اليد، عطفاً على كونها مرتعاً للجريمة المنظمة وكثرة الإنجاب وهبوط مستوى التعليم، ناهيك عن ارتفاع معدلات الكراهية كضرب من ضروب التشظي العنصري في البلاد، فهل يعني ذلك أن مسيرة اللاعنف من قبل الرجال والنساء السود قد أخفقت في تحقيق نوع من أنواع العدالة في الدولة الأولى التي تنادي بحقوق الإنسان حول العالم؟ وهل هناك ما يزعج الرجل الأبيض من واقع حال الأوضاع الديموغرافية الأميركية، ولهذا يتخذ العنف والعنصرية وسيلتين للدفاع عن مكتسباته التاريخية في الأراضي الأميركية؟

تفوق الرجل الأبيض

غالب الظن أن الأمر يمضي بالفعل على هذا النحو، إذ تشير الإحصاءات السكانية التي جرت أخيراً في الداخل الأميركي إلى توقعات مخيفة بالنسبة إلى الأميركيين البيض البروتستانت أصحاب الأصول الأوروبية، وتقول بعض تلك الدراسات أنه بحلول عام 2040، أي خلال عقد ونصف العقد من الزمن، وهي فترة زمنية قصيرة جداً، سيتحول الرجل الأبيض إلى أقلية وستتصاعد تجمعات عرقية مغايرة منها الأميركيون من أصول إسبانية وأفريقية وآسيوية وغيرها من التجمعات ذات الأصول الإثنية المختلفة، فهل تطفو العنصرية على السطح كأداة للهرب من الحقائق السكانية المقبلة؟

المؤكد أن هناك كثيرين لا يعرفون أن هناك حزباً نازياً تأسس عام 1958 في مدينة أرلينغتون بولاية فيرجينيا عينها بواسطة جورج روكويل الذي خطط لحكم أميركا في سبعينيات القرن الماضي لكن اغتياله قطع عليه الطريق حين قتله منشق عن الحزب، وقد كانت أفكاره وبالاً على الأميركيين لأنها مستمدة من عمق طروحات هتلر النازية، وكانت خريطته إذا وصل إلى البيت الأبيض تبدأ بقتل اليهود الأميركيين وترحيل الأفارقة وإعادة بناء دستور أميركا على أسس عنصرية.

 

 

ولم تكن هذه هي الحركة الوحيدة العنصرية ضد السود واليهود في الداخل الأميركي، فهناك حركة الـ "كوكلاكس كلان" التي تعد واحدة من أعنف تلك الحركات اليمينية العنصرية المتطرفة، وقد قامت كثيراً بحوادث عنف وحرق منازل وأراض واختطاف سود وقتلهم.

ولا تتوقف القائمة العنصرية المقاومة لوجود الأميركيين الأفارقة عند هذا الحد، بل تمتد إلى ما هو أبعد كما هي الحال مع ما يعرف بـ "التحالف الوطني" الذي تأسس عام 1974 على يد بروفيسور الفيزياء الشهير ويليام لوثر بيرس، ويعد هذا التحالف أخطر جناح نازي جديد في أميركا ويحفل بقتلة ومفجرين وسارقي بنوك، وتكفي الإشارة إلى أن مفجر مبنى الاتحاد الفيدرالي في أوكلاهوما عام 1995 تيموثي ماكفاي كان ينتمي إلى هذا الجناح النازي المتشدد.

ولعل التساؤل المخيف هو: هل هذه الجماعات مرشحة لمزيد من التمدد في قادم أيام الولايات المتحدة؟

في واقع الأمر هناك توقعات واسعة بمزيد من الشقاقات ذات الأصول والمرجعيات العرقية في الداخل الأميركي، لا سيما خلال العام المقبل 2024 الذي ستجري فيه الانتخابات الرئاسية الأميركية، وفيها تظهر الشروخ في الجسد الأميركي عرقياً بشكل واضح للغاية، وما جرى ويجري على هامش أزمات الرئيس السابق والمرشح الحالي دونالد ترمب ترك ولا شك أثراً واضحاً في ضعف النسيج المجتمعي الأميركي، كما ستظهر تبعاته خلال الأشهر المقبلة.

حول بوتقة الانصهار

في أواخر القرن الـ 18 أشاع المفكر الأميركي والكاتب الكبير جون دي كريفكير فكرة أن الولايات المتحدة هي بوتقة انصهار لكل الشعوب والأمم والقبائل التي ستسكنها، وأنها ستصير يوماً ما نسيجاً مجتمعياً واحداً، وهذه الفكرة ستضحى إشاعة في القرن الـ 20 إذ كتب يقول "انصهر الأفراد هنا من جميع الدول في دولة جديدة، حيث ترك الأميركي وراءه كل تحيزاته وطباعه القديمة، واكتسب تميزات وطباعاً جديدة استمدها من نمط الحياة الجديد الذي تبناه"، وقد كان كريفكير يدرك جيداً ما سماه "فظائع العبودية".

ويعن لنا أن نسائل دي كريفكير، هل انتهى زمن العبودية بالفعل في الداخل الأميركي أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟

التساؤل المتقدم شاغب ذهن الكاتب والباحث الإيطالي جيوفاني ماورو الذي سعى إلى البحث عن جواب عبر مصادر أميركية رقمية حقيقية لا تكذب ولا تتجمل، منها مكتب الإحصاء الأميركي والمركز الفيدرالي لإحصاءات التعليم ومكتب الولايات المتحدة لإحصاءات العدالة، وقد أجمل نتائج بحثه في 11 نتيجة مضمونها الرئيس يثبت زيف طرح كريفكير حول فكرة "بوتقة الانصهار"، ولعل المثير في الإحصاءات التي حصل عليها جيوفاني هو إظهار أن 48 في المئة من الأميركيين يحملون مواقف عنصرية ضمنية ضد السود، وقد كان ذلك عام 2008، بينما ارتفعت النسبة إلى 51 في المئة عام 2012، واليوم تصاعد الرقم حتماً مما دعا عدداً من المتخصصين الحقوقيين في الأمم المتحدة  إلى الإعراب عن إدانتهم للتمييز العنصري في الداخل الأميركي.

 

 

ويكاد الناظر إلى التاريخ الأميركي أن يقطع بأن الأميركيين قد بنوا بالفعل إمبراطوريتهم على أساس من العرقية والعنصرية، وهذا ما توصل إليه الكاتب والباحث الأميركي الشاب تاينهيسي كوتس في كتابه المعنون "بين العالم وأنا"، وفيه يقدم أدلة لا تقبل الشك على أن الأميركيين قد فعلوا ذلك بالفعل، ووصف فكرة العرق بأنها شر يدمر المجتمع الأميركي، إذ تملأ قلوب السود بالكراهية، وهذه بدورها تولد الرغبة في الانتقام من المجتمع.

والشاهد أن الرسميين يستطيعون أن يحاججوا بأن أميركا هي عنوان الديمقراطية والمساواة حول العالم، وهي كذلك حارسة القيم وبخاصة حقوق الإنسان، غير أن رسميين آخرين يسعون اليوم إلى إنزال علم الفيدرالية ورفع أعلام الكونفيدرالية بعد أن تبين أن الأول يستخدم كرمز لتفوق الجنس الأبيض، وهذا ما طالب به بعض من سعوا إلى الترشح للرئاسة الأميركية خلال دورات سابقة، كما أن الأعلام التي نتحدث عنها ارتفعت يوم السادس من يناير (كانون الأول) 2021 نهار محاولة اقتحام الكونغرس.

هل من خلاصة؟

المؤكد أنه في مجتمع يخضع لسيطرة معقدة ومركبة فبإمكان المرء أن يجد الأفكار السيئة متخفية في الفنون، وكذلك كانت الحال في مجتمع السود، فربما أخفت أغاني الزنوج، مهما كانت شجية وتبعث على الحزن، الغضب المكبوت، وربما كانت موسيقى الجاز، مهما كانت مبهجة، تئن بالتمرد والثورة، ثم يأتي بعد ذلك الشِعر حيث لم تعد الأفكار سرية، ففي العشرينيات كتب كلود مكاي، وهو أحد رموز ما عرف بعد ذلك بـ "هالم رينيسانس"، قصيدة وضعها هنري كابوت لودج في مضبطة الكونغرس بوصفها مثالاً على الأفكار الخطرة التي تنتشر بين الشباب السود وفيها:

 إذا كان لا بد أن نموت

فدعونا لا نموت كالخنازير

تصطاد وتلقى في مكان مخز

وكما يليق بالرجال

سنواجه العصابة الجبانة القاتلة

وحتى لو لم يبق مهرب

سنموت

ونحن نرد على القتال بمثله

المزيد من متابعات