Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عصر الفوضى في ظل بوتين

أخطار الاضطراب الروسي

صورة مركبة عن سلطة بوتين الأمنية والعسكرية المهيمنة على روسيا (مات نيدل/ فورين أفيرز)

ملخص

حينما ابتدأ حربه ضد أوكرانيا ظهر بوتين كنموذج عن نظام هيمنة الزعيم القوي، وبصورة تدريجية بدأت ملامح التخلخل والتفكك تظهر داخل نظام بوتين مما يضع روسيا أمام احتمالات مقلقة.

عقب شروع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في غزو أوكرانيا أثناء فبراير (شباط) 2022، تصرفت النخب الروسية كأن الحرب لم تغير أي شيء على الجبهة الداخلية، وحتى مع تعثر الحملة [العسكرية ضد أوكرانيا] وتشديد الغرب للعقوبات التي فرضها على الاقتصاد الروسي بدا أن أصحاب السلطة في موسكو يواصلون العمل كالمعتاد، لكن منذ الخريف الماضي باتت الأمور أكثر تعقيداً إلى حد ما، فقد كشف الهجوم المضاد الأوكراني الناجح بصورة مفاجئة في منطقة خاركيف في سبتمبر(أيلول) 2022 عن ضعف المواقع العسكرية الروسية، وإذ تضايق الكرملين من ذلك فقد أطلق حملة تعبئة عسكرية تسببت في قدر هائل من القلق الاجتماعي ولو لفترة قصيرة.

بعدها أدى هجوم أوكراني على جسر مضيق كريتش في تشرين الأول (أكتوبر) 2022 إلى تصاعد ألسنة اللهب وسحب الدخان من الطريق الرئيس الذي يصل بين شبه جزيرة القرم والبر الرئيس لروسيا. وقد كشف ذلك مدى مرونة الخطوط الحمراء المفترضة للكرملين في الواقع، بمعنى أن حدثاً [الهجوم] بدا غير محتمل قبل مجرد أشهر، لم يتمخض في نهاية المطاف عن أي رد ملموس من الدولة، مما جعل النخب تشعر بصورة متزايدة بأن حرب روسيا يمكن أن ترتد كي تدور على أراضيها.

ولم تؤد الأشهر التالية إلا إلى مزيد من الضغط فلم يتلق الكرملين كثيراً من الأنباء السارة من الجبهة الأوكرانية باستثناء الاستيلاء على مدينة باخموت الأوكرانية في مايو (أيار).

وفي غضون ذلك فتحت جبهة جديدة في الداخل، فقد استهدفت موسكو بطائرات من دون طيار من قبل مهاجمين مجهولين، لكنهم مرتبطين على الأرجح بأجهزة الأمن الأوكرانية.

كذلك شنت القوات شبه العسكرية [المتحالفة مع أوكرانيا] غارات عبر الحدود في منطقة بيلغورود الروسية، أما الحدث الصادم أكثر من كل ما عداه فتمثل في تنفيذ قوات قائد شركة "فاغنر" العسكرية الخاصة يفغيني بريغوجين تمرداً مفتوحاً في يونيو (حزيران) 2023، تضمن الاستيلاء على جزء كبير من مدينة روستوف أون دون وإرسال رتل من تلك القوات ["فاغنر"] راح يتقدم بسرعة نحو موسكو، كذلك اشتمل التمرد حتى على إسقاط عدد من الطائرات الروسية، مما أسفر عن مقتل أكثر من 10 طيارين روس في تلك العملية.

واستأثرت انتفاضة بريغوجين بانتباه العالم وكذلك تسببت بقلق عميق داخل أوساط النخبة في موسكو.

وعلى رغم حل الأزمة على نحو سريع (في صفقة قام الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بالتوسط جزئياً لإبرامها)، يجهد كثيرون في موسكو للتوصل إلى فهم طريقة تعامل بوتين معها، فمن ناحية دان الرئيس الروسي بشكل علني وبلا رحمة بريغوجين على أنه "خائن".

وفي المقابل سمح بوتين لقائد المرتزقة بالتحرك بحرية داخل البلاد، وجرت استضافته في الكرملين من أجل إجراء مفاوضات في نهاية شهر يونيو 2023.

إن تلك الحوادث غير مسبوقة في تاريخ روسيا المعاصرة، ومع ذلك لا يبدو أنها أدت إلى اضطراب في الوضع الراهن [داخل روسيا].

ويواصل الناس حياتهم كأن شيئاً لم يكن، ومن المؤكد أن الجنرالات يتجرأون الآن على تقديم شكاوى بشكل أكثر صراحة حول كبار الضباط، غير أن الوضع العام في الجيش لا يزال مستقراً، وحتى تاريخه لم تعمد الحكومة والجيش الروسيان إلى تعديل [في توزيع المناصب] أو إلقاء القبض على أي من أفراد الجيش.

وفي المقابل يتوجب الحذر من الانخداع بتلك الأمور، ويعود ذلك للتضليل المتضمن في هذه المرونة المزعومة في شأن التعامل مع الأخبار السيئة واللامبالاة الظاهرة حيال الحوادث الراهنة، إذ بات من الصعب بشكل متزايد على الكرملين أن يتكتم على تطورات لا تحظى بالترحيب أو يتجاهلها على أمل أن يطويها النسيان، ولقد بدأت الحرب في تغيير روسيا والتحولات العميقة [الناجمة عنها] في نظام بوتين وتصور النخب له وموقف الناس من الحرب، وبدأت أيضاً قبل ذلك على الأرجح.

في الواقع إن عسكرة الحياة الروسية تفضي إلى تمكين المتشددين القوميين المتطرفين في أوساط النخبة، الآخذين في خطف الضوء من إيديولوجي الحرس القديم الذين بدأ الشعب الروسي ينظر إليهم بوصفهم بعيدين بشكل متزايد عن حقائق الحرب، وأدى التصور القائل بأن بوتين قد جرى إضعافه إلى إزاحة الغطاء عن عيوب النظام العميقة، وتشمل تلك العيوب الميل المعتاد من جانب السلطات للتقليل من شأن المجازفات السياسية المحلية، وتجاهل التطورات طويلة الأمد من أجل معالجة التحديات الفورية، علاوة على رفض تحمل المسؤولية عن العدد المتزايد من الحوادث المتصلة بالحرب والتي باتت تحدث على الأراضي الروسية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد دفع تمرد بريغوجين الوضع إلى حده الأقصى وقد يمهد الطريق لظهور دولة أكثر تطرفاً وتشدداً وقسوة. إن التهديدات التي يتعرض لها الكرملين، على غرار تمرد "فاغنر" والكشف عن جوانب ضعف الحكومة لن يؤديا بالضرورة إلى تحول الجمهور كي يصبح ضد بوتين ويسقط النظام، وبدلاً من ذلك تؤدي هذه التطورات إلى جعل روسيا كياناً أقل تماسكاً ومملؤاً بالتناقضات والصراعات الداخلية، وأكثر تقلباً وغير قابل للتوقع. ومع توجيه ضغط متزايد إلى الداخل لعل هناك فرصة لفتح مجال للنقاش حول الحرب التي تتواصل في أوكرانيا حتى ولو لم يكن ذلك بهدف المعارضة الصريحة لها، لكن في الداخل سيصبح النظام الذي بناه بوتين أكثر اضطراباً، وسيتعين على العالم أن يتعامل مع روسيا [التي ستصبح] أشد خطورة وغير قابلة للتوقع في مساراتها.

 

دولة هشة

خلال الأشهر التي سبقت تمرد بريغوجين وجدت روسيا نفسها في موقف غير متوقع تمثل في رؤية الحرب وقد انتقلت إلى عقر دارها، وفي أوائل مايو (ايار) 2023 قبل أيام قليلة من العرض السنوي لمناسبة يوم النصر في الساحة الحمراء، استخدم مهاجمون مجهولون طائرات من دون طيار في محاولة لضرب أهداف في موسكو، بما في ذلك الكرملين، ثم عبرت جماعات شبه عسكرية متحالفة مع أوكرانيا إلى منطقة بيلغورود الروسية منذ نهاية مايو وحتى يونيو (حزيران) 2023. ولقد أثارت هذه الجماعات الفوضى واستولت لفترة وجيزة على قرى مختلفة، وكذلك تعرضت مناطق أخرى مجاورة لأوكرانيا إلى قصف مستمر، وجاءت استجابة الكرملين لهذه الحوادث سلبية بشكل يدعو الى الحيرة، فلقد سعت ببساطة إلى التكتم على الأمر وركزت الأخبار التلفزيونية والبرامج الحوارية بدلاً من ذلك على مدى الفاعلية المفترضة للدفاعات الجوية لموسكو وسردت روايات عن قسوة الأوكرانيين و"أسيادهم" الغربيين المزعومة، وبالكاد علق بوتين على هذه الهجمات على الأراضي الروسية، ما خلا استثناءات نادرة، مفضلاً تفويض تلك المهمة إلى وزارة الدفاع.

وكذلك يتماشى ميل الكرملين إلى التقليل من أهمية الحوادث التي تبدو صادمة مع الطريقة التي رأى بها بوتين الحرب، فلقد ظل يتبنى اعتقاداً راسخاً بأن عامة الشعب الروسي تنضح بالوطنية والنخب تبقى خاضعة للسيطرة والولاء للدولة، والطريق إلى النصر في أوكرانيا لا يزال مفتوحاً، إضافة إلى الاعتقاد بأن الاقتصاد الروسي مرن بدرجة تكفي لتحمل الوضع حتى يحقق أهدافه، ونتيجة لذلك فإن كبار المسؤولين في الإدارة الرئاسية الذين استشفوا من سلوك بوتين اللطيف ونفوره [المألوف] من الهلع أقنعوا أنفسهم في كثير من الأحيان بأن كل شيء على ما يرام، وقلقهم سيكون مضراً أكثر من كونه تصرفاً حكيماً، وقد تحدث المطلعون على الوضع في الكرملين بخاصة عن تأثير الحرب في الاستقرار السياسي وتبجحوا في الحديث عن قدرة السلطات على الحفاظ على السيطرة السياسية، في حين قدم أحد المقربين تحذيراً متأنياً مفاده بأن كل شيء سيكون على ما يرام "إذا لم يخذلنا الجيش"، وأشاروا إلى الدعم الشعبي الكبير المستمر لـ "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا ومستوى الشعبية الرفيع الذي يتمتع به كل من بوتين والحكومة. [التسمية الرسمية المعتمدة في روسيا عن حرب أوكرانيا هي العملية العسكرية الخاصة].

ولم يثر استياء بريغوجين المتزايد قبل التمرد قلق هؤلاء المطلعين على أوضاع الكرملين، وحتى في الـ 23 من يونيو 2023، وذلك تاريخ قريب، حينما بدأ قائد المرتزقة هذا تمرده بالفعل، استمرت مصادر عدة مقربة من الكرملين في الاعتقاد بأن ما يحصل لا يدعو إلى كثير من القلق، واعتبار أن الرجل [بريغوجين] لا يزال مفيداً من أجل تحقيق أهداف سياسية معينة من نوع تصريف مشاعر الإحباط لدى القوميين المتطرفين.

وإضافة إلى ذلك سادت قناعة لدى عدد من المسؤولين بأن الأشخاص المقربين من بوتين في الكرملين أشرفوا على بريغوجين، وبالتالي فإن قوات "فاغنر" لن تحاول تحدي الدولة الروسية، وبعد ذلك أوضحت التقارير أن قوات "فاغنر" استولت على مركز القيادة العسكرية للعمليات الروسية في أوكرانيا في مدينة روستوف أون دون، فيما تقدم رتل من جنود "فاغنر" باتجاه موسكو، إضافة إلى أن قوات "فاغنر" أسقطت طائرات هليكوبتر روسية.

وجاءت هذه الحوادث بمثابة كشف عن حقيقة مرة، إذ إن بوتين قد أخطأ في الحكم على بريغوجين و[في تفسير] غضبه، وقلل من الخطر الذي يمثله متعهد الطعام المتقلب والقلق الذي تحول إلى قائد مجموعة مرتزقة، وإلى حد بعيد نجم التمرد عن تقاعس بوتين، وإن موقف الرئيس المنعزل والمتحفظ وإحجامه عن التدخل في الصراع المتفاقم بين بريغوجين واثنين من كبار المسؤولين العسكريين الروس وهما وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف ساعد في إشعال شرارة التمرد، وهكذا لم يرفع التمرد الستار عن إخفاقات إدارة بوتين وحسب، والإهمال الذي جعل بريغوجين يشعر بالمرارة وأجج غضبه، بل أزاحت الغطاء أيضاً عن كيفية إلحاق الدولة الضرر بنفسها. وعلى أي حال لم تكبر جماعة "فاغنر" كي تصبح قوة قتالية تضم عشرات الآلاف من الجنود إلا بفضل التمويل الحكومي بمليارات الدولارات والقدرة على الوصول إلى موارد الدولة والعلاقات التي جمعتها [قوات "فاغنر"] بالمسؤولين البارزين الذين أيدوا نشاطات تلك الجماعة من المرتزقة.

وفي أعقاب التمرد أصبح إضفاء الكرملين على نفسه هالة السيطرة القوية والكفاءة السياسية أشد صعوبة من ذي قبل، وبعد أسبوع من التمرد ظهر بوتين علناً بشكل مفاجئ في داغستان ولم يكن أعضاء طاقمه مستعدين لهذا الحدث وقد فاجأهم سلوكه، بما في ذلك عناقه بعض أعضاء الحشد الذي استقبله، وبالتالي اعتبر كثيرون في الكرملين الأمر دليلاً على أن بوتين يتصرف على نحو عاطفي وعفوي، سعياً منهم إلى الحصول على تأكيد [للولاء].

لقد حمل بوتين الأطفال الرضع أمام الكاميرات وعانقهم ووقف لالتقاط صور سيلفي مع معجبين بدوا كأنهم يعبدونه، وبدا المشهد مذهلاً بالنظر إلى أن بوتين نادراً ما سمح لنفسه بمثل ذلك التفاعل مع الناس خلال الأعوام التي تلت ظهور جائحة "كوفيد-19"، وعلى رغم أن بوتين ربما أراد أن يثبت أنه قريب من الروس العاديين في أعقاب تمرد بريغوجين، فقد فسر عدد من المراقبين المشهد بوصفه علامة على حاجة الرئيس الماسة إلى الإحساس بتملق المواطنين الروس، مما يدل ربما على مدى شعوره بالضعف.

إن إساءة الكرملين إدارة الحرب، وقد فاقمها تمرد بريغوجين الذي أفرزته، جعلت الحكومة تبدو غير مسؤولة والدولة ضعيفة، حتى إن هجمات الطائرات [الأوكرانية] من دون طيار أثارت الحيرة حول سبب عدم قدرة أنظمة الدفاع الروسية على إحباطها، وشجعت بقوة انطباعاً حول هشاشة الدولة وعدم قدرتها على ضمان سلامة العاصمة (إن لم يكن عن البلد ككل) وعن فشل السلطات في منع الأعداء من التسلل إلى الأراضي الروسية. و[انتشر هذا الانطباع] في أوساط عامة الروس وكذلك بين أولئك الصقور الذين يدعمون الحرب في أوكرانيا، وبمجرد إلقاء نظرة خاطفة على المناقشات العامة في وسائل التواصل الاجتماعي تنكشف بشكل كاف تكهنات بين الروس حول احتمال وجود متعاطفين مع الأوكرانيين "بيننا"، على استعداد "لطعننا في الظهر".

 

شيء أصابه العفن

دأب عدد من المراقبين على النظر إلى نظام بوتين بوصفه نتاج عقد اجتماعي تضمن الدولة بموجبه الاستقرار في مقابل منح الناس للكرملين حرية كبيرة في إدارة الحياة السياسية، ولكن منذ ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 تراجعت قيمة الاستقرار الداخلي تدريجياً بسبب الحاجة العميقة إلى الأمن الجيوسياسي، أي إلى الحماية بوجه الغرب المعادي، وترافقت تلك الحاجة مع تنامي المشاعر القومية، والآن يتوق الروس إلى الأمن الجيوسياسي في أعقاب غزو أوكرانيا عام 2022، ولقد فوض الشعب بوتين في التعامل مع الغرب الذي يعتقد عدد من الروس أنه يهدد وجود بلادهم، حتى لو تسبب ذلك التعامل في حصول اضطرابات داخلية بسبب العقوبات الصارمة والقمع الذي مورس ضد الليبراليين، وتظهر استطلاعات الرأي أنه منذ بدء الحرب ارتفعت نسبة الروس الذين يعربون عن إعجابهم ببوتين على الملأ من ثمانية إلى 19 في المئة، ويصرح حالياً 68 في المئة من الروس أنهم يريدون إعادة انتخابه، وتمثل تلك النسبة قفزة كبيرة مقارنة بـ 48 في المئة من الروس [الذين أرادوا ذلك] قبل الحرب، وقد زادت الحرب أيضاً من الدعم للمؤسسات الرسمية كافة، أي مجلس الوزراء وحكام المناطق والبرلمان وحتى حزب "روسيا الموحدة" الحاكم.

وفي المقابل فإن سلبية بوتين في مواجهة التهديدات العسكرية الداخلية وموقفه المتحفظ قد يصبحان مشكلة رئيسة للنظام في المستقبل القريب، وهناك دلائل تشير إلى أن الروس على رغم دعمهم المتزايد لمؤسسات الدولة أصبحوا أكثر تردداً في شأن سلطات البلاد وبدأوا يشكون في قدرة الطبقة السياسية على الوفاء بمسؤولياتها.

وفي نهاية شهر مايو 2023 استهدف هجوم بطائرة من دون طيار منطقة روبليوفكا، وهي إحدى ضواحي موسكو الراقية الشهيرة حيث يعيش عدد من الأثرياء الروس أصحاب النفوذ، وبصورة إجمالية لم يعرب كثير من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي عن أسفهم بسبب الهجوم، وأشاروا إلى أن الأغنياء والأقوياء حصلوا على جزاءهم العادل. ولطالما جسدت ضاحية روبليوفكا رمزاً للنخبة الطفيلية الغنية المرتبطة بعهد يلتسين والنظام الحالي، وقد عقد عدد من المدونين الموالين للكرملين والروس العاديين الأمل على أن يشكل الهجوم جرس إنذار لهذه النخبة، فيجبرهم على المشاركة بشكل أكبر في المساعدة على حماية جهود الحرب مع أوكرانيا من الفشل، والرد بمزيد من الحزم على الهجمات التي تستهدف الأراضي الروسية.

وفي السياق نفسه حلت المشاعر المعادية للنخب بمنزلة القوة الدافعة لصعود بريغوجين، إذ اكتسب شهرة وشعبية في الأشهر الأخيرة أثناء عمل قواته في أوكرانيا، وطبقاً لـ "مركز ليفادا"، وهو مؤسسة روسية مستقلة لاستطلاعات الرأي، فقد رأى الروس أن استيلاء مقاتلو "فاغنر" على باخموت في مايو الماضي، شكل أهم حدث خلال الشهر.

وخلصت دراسة أجرتها مؤسسة استطلاعية أخرى اسمها "رومير" إلى أن انتصار "فاغنر" في باخموت رفع مكانة بريغوجين للمرة الأولى ليصبح في عداد السياسيين الخمسة الأوائل الأكثر جدارة بالثقة في روسيا، بعد بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف وشويغو ورئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين، وقد حدث تسلقه سلم الأهمية بصورة مذهلة، ففي بداية العام احتل بريغوجين المرتبة الـ 158 بين الشخصيات السياسية الروسية الجديرة بالثقة.

 

ثم صعق الروس العاديون بمواجهة بريغوجين الوقحة مع وزارة الدفاع وشكواه من معاناة قواته نقصاً شديداً في الذخيرة، ونظر إليه الجمهور على أنه مكافح صلب ضد الفساد وشخص تجرأ على تحدي النخب الفاسدة، وهناك شاهد عيان محلي على استيلاء "فاغنر" على روستوف أون دون، وقد وصف بريغوجين في منشور على "فيسبوك" بأنه "رجل بسيط وعادي سيناقش خلافاته في العلن مع القطط السمينة من كل نوع ولون"، وهو شعور يفسر الترحيب الحار الذي لقيه مقاتلو "فاغنر" من سكان روستوف، وإلى حد كبير يشرح ذلك الاستياء من السلطات، أي "القطط السمينة"، سبب تلك السهولة التي سيطر بها بريغوجين على المدينة.

وبشيء من الارتياب أفادت المرأة نفسها التي كانت شاهد العيان، بأن الدولة كانت غائبة تماماً، وأشارت إلى أن "مباني إدارة المقاطعة والمدينة وحكومة المقاطعة مهجورة بالكامل"، وأضافت "في غمضة عين اختفى الجيش الذي كانت عناصره تملأ المدينة الواقعة على خط المواجهة. وتحصن أفراد الـ ’أف إس بي‘ FSB [خدمات الأمن الفيدرالية] داخل المبنى الخاص بها".

 

يصبح التكتم على الاخبار السيئة أكثر صعوبة بالنسبة إلى الكرملين

 

وفي ذلك الصدد أشار عدد من المراقبين الغربيين إلى أن هذه المشكلات العسكرية ستدفع النخب والمجتمع الأوسع إلى التوق لتحقيق السلام، لكن لسوء الحظ فإن الواقع أشد قتامة، إذ تميل المواقف الصعبة إلى جعل روسيا أكثر تصميماً ووحشية في حربها [ضد أوكرانيا]، وقمع المعارضة في الداخل، ولم يكن تمرد بريغوجين تعبيراً عن رفض للحرب لكن يمكن فهمه بدلاً من ذلك على أنه نتيجة عدم الرضا عن شن الحرب بطريقة غير فاعلة. وبالتالي قد يفيد في ذلك الصدد تأمل ردود الفعل على هجمات الطائرات من دون طيار وتوغلات القوات شبه العسكرية في منطقة بيلغورود خلال الربيع الماضي، وطبقاً لمركز "ليفادا" لاستطلاعات الرأي فإن تلك الحوادث لم تؤد إلا إلى دعم الحرب من قبل الروس، إذ أصبح الناس أكثر عدائية تجاه الأوكرانيين العاديين وأشد قلقاً في شأن مصير "العملية العسكرية الخاصة"، ولم تساعد الهجمات بأي شكل من الأشكال في زيادة الرغبة العامة في إجراء محادثات السلام أو الانسحاب الروسي من أوكرانيا، الدولة التي ينظر إليها الآن أكثر من أي وقت مضى على أنها تهديد لوجود روسيا. وبحسب استطلاع الرأي الذي أجراه "ليفادا" فقد بدأ الروس يستنتجون خلال الأشهر الأخيرة أن الحرب ستكون طويلة وتستمر خلال فترة مديدة، وفي مايو الماضي ذكر 45 في المئة من المشاركين في استطلاع للرأي أنهم يعتقدون أن الحرب ستتواصل لأكثر من عام آخر، مما شكل أعلى نسبة [لأصحاب هذا الرأي] منذ بدء الصراع (في مايو 2022 بلغت نسبتهم 21 في المئة)، وبالتالي يتأقلم الروس مع هذا الواقع ويعملون على تقوية أنفسهم استعداداً للأوقات الصعبة المقبلة. إنهم لا يسعون إلى وقف الحرب، ولا تزال المشاعر المعادية للحرب خافتة في أحسن الأحوال، وفي أسوأها مكبوتة تماماً، وإن حدث أي شيء يذكر فإن الدولة أصبحت أكثر التزاماً بمتابعة القتال، ليس بحثاً عن طموحات إمبريالية بل ينبع ذلك أكثر من استماتتها في الحفاظ على بقائها، والفصيل الذي يدافع عن وجوب إنجاز "رد حازم" على العدو يكسب مؤيدين جدداً، وفقاً لمقالة رأي نشرتها مجلة "فوربس" بنسختها الروسية كتبها مدير "ليفادا" دينيس فولكوف بغية تفسير نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة.

وفي أعقاب انتفاضة بريغوجين يريد عدد من الروس أن يروا الدولة أكثر جرأة وحسماً وتماسكاً وثباتاً، وتدعم هذا الموقف استطلاعات "ليفادا" الأخيرة التي أجريت في نهاية يونيو الماضي وكشفت عن تبدل في مواقف الناس، بمعنى أن التمرد أدى إلى هبوط طفيف في مستوى الثقة الممنوحة لشويغو وتراجع كبير في الثقة المعطاة لبريغوجين، وبعبارة أخرى فإن تمرد قائد جماعة المرتزقة لم يشكل مصدر إلهام للروس ضد دولة تعاني صعوبات، بل جعلهم يخافون من احتمال زعزعة الاستقرار والفوضى في بلادهم.

واستطراداً يشير التمرد والحوادث التي سبقته إلى أن النظام قد يكون أقل مرونة بكثير مما يبدو عليه، أي أن الكرملين منهك وبوتين منعزل ويواجه الفشل في التعامل مع الصراعات الداخلية، ومجتمع محبط يشعر بالحيرة من رد فعل الدولة الكسول على الحوادث التي لم يكن متصوراً حدوثها من قبل، وهناك نخب ترتجف خوفاً وتستعد للهرب بعيداً في الثانية ذاتها التي ينهار فيها النظام (يحاول الكرملين الآن إجراء تحقيق لمعرفة من تجرأ من المسؤولين وكبار مديري الشركات الحكومية على مغادرة موسكو أثناء تمرد بريغوجين ولماذا).

واستكمالاً فإن الجيش والأجهزة الأمنية التي أصيبت بصدمة جراء القصف [على موسكو] وستسعى بالتأكيد بعد التمرد إلى معالجة مواطن ضعفها لتحسين أدائها وسحق المعارضة الداخلية المتزايدة في صفوفها.

لقد أغويَ بوتين بالاطمئنان والمضي في الرضى عن نفسه بسبب اقتناعه بأن الناس يحبونه وأن النخب موالية له، لكنه قد يبذل قليلاً من الجهد لإيقاف هذا التفكك، وفي الوقت نفسه ربما تسعى الأجهزة الأمنية إلى تحقيق مزيد من السيطرة وتضييق الخناق على المجتمع، وربما تؤدي تلك الديناميكيات مجتمعة إلى عدم الاتساق في سلوك الحكومة مما يزيد تعقيد الموقف، وبدلاً من إزاحة النظام فإن الهزة التي سببها بريغوجين للكرملين لن تكتفي بجعل الحكومة أكثر قمعية وأشد وحشية، بل أيضاً أكثر فوضوية ولا يمكن توقع تصرفاتها.

 

خط متشدد

يصب ذلك الموقف بصورة مباشرة في مصلحة المتشددين في روسيا الذين يتألف معسكرهم من جهاز الأمن وصقور المحافظين والمراسلين العسكريين المؤيدين للحرب والمعلقين التلفزيونيين المناهضين للغرب بشكل كبير، إذ يدافع هؤلاء عن تضييق الخناق والبحث عن الخونة ووضع البلاد في حال حرب من أجل تجميع كل الموارد اللازمة للفوز، ولا تترك الظروف السياسية والاجتماعية الحالية أي خيار تقريباً للنظام سوى أن يصبح أقل تسامحاً حتى مع النشاطات المشبوهة الصغيرة، على غرار ظهور أي اقتراح بضرورة المصالحة مع الأوكرانيين، إضافة إلى المعارضة العلنية للحرب، وقد ينتهي الأمر بجزء كبير من المجتمع الروسي إلى دعم حملة قمع جديدة وحتى إلى المساعدة فيها، فلقد أصبح المزاج العام أقل تساهلاً مع أولئك الروس الموسرين ممن يحاولون الابتعاد من الحرب ومواصلة الانغماس في أنماط الحياة الفاخرة التي يعيشونها وممارسة الأعمال كالمعتاد، وصار من الصعب في روسيا الاستمرار في تبني موقف سلبي من الحرب أو متجاهل لها، ويشعر الروس في كل مكان بالتعرض الى ضغوط من أجل ممارسة دورهم الوطني بصورة واضحة.

ومنذ حصول الغزو همشت الدولة الروسية القوى المناهضة للحرب، وكذلك لم تترك مجالاً لشخصيات ليبرالية الهوى من خلال قمع الاحتجاجات (التي لم تكن ضخمة في البداية) وسنّ مجموعة من القوانين التي تحظر بحكم الأمر الواقع النشاطات المناوئة للحرب وللنظام، ولقد فتح هذا القمع وذلك التصلب في المشاعر الوطنية فضاء أكبر للصقور الأكثر نشاطاً وتشدداً وجرأة، في اكتساب موطئ قدم لها في السياسة والحوارات الوطنية، وقد تحل مجموعة أصغر وأكثر جرأة من الصقور محل جيل أكثر تقليدية من الأيديولوجيين المحافظين بمن فيهم أمثال رئيس لجنة التحقيق ألكسندر باستريكين، ورئيس جهاز الاستخبارات الخارجية سيرغي ناريشكين، وسكرتير مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف، إضافة إلى شخصيات من نوع الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي حالياً ديمتري ميدفيديف، ورئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين.

لقد ساعد هؤلاء الأيديولوجيون في تعزيز "البوتينية" والترويج لها، وهي العلامة التجارية لأفكار الرئيس القومية والمعادية للغرب والليبرالية التي تركز في الوقت نفسه على القيم التقليدية التي تشمل أهمية الأسرة والأطفال والروابط الروحية وأولوية مصالح الدولة على الحقوق الخاصة، وكذلك أسهم ذلك النفر من الرجال في خلق المناخ الذي عجل في غزو بوتين لأوكرانيا، إلا أن الحرب المستمرة جردتهم من تفردهم السياسي مما أدى إلى دفع التيار السياسي السائد بأكمله إلى مزيد من التشدد والمحافظة، والأسوأ من ذلك أنه ليس لدى الحرس القديم الآن كثير يدلي به بخصوص وقائع زمن الحرب مع وجود قدر كبير من الغموض في شأن مسار الحرب ومساعدات عسكرية غربية هائلة لكييف وغياب مطلق لأية استراتيجية تفضي إلى مخرج لائق [من الحرب]، ومستقبل مظلم للبلاد يلوح في الأفق.

إن قادة على غرار ميدفيديف وباتروشيف روجوا منذ فترة طويلة لسياسة المواجهة والمعادية للغرب وخطاب نظام بوتين، باتوا يبدون الآن بالنسبة إلى عدد من الصقور الشوفينية وكأنهم بعيدون من الواقع، وبعيدون جسدياً وفكرياً من جوهر الحرب حتى مع استمرارهم كشخصيات رفيعة المستوى مقربة من الرئيس.

وبينما يخبو نجم هذه الشخصيات يبرز جيل جديد من الصقور، ويأتي بعض هؤلاء الصقور الجدد من تكنوقراطيي الأمس الشباب، على غرار كبير مستشاري بوتين للسياسة الداخلية سيرغي كيرينكو، المسؤول حالياً عن المناطق الأوكرانية الأربع التي أعلنت موسكو ضمها الخريف الماضي، أو نائب رئيس الوزراء المكلف مهمة الإشراف على إعادة إعمار الأراضي الأوكرانية المدمرة الخاضعة حالياً للسيطرة الروسية مارات خوسنولين، ويقضي هؤلاء المسؤولون كثيراً من الوقت في المناطق المحتلة، بصرف النظر عن الأخطار الشخصية، مما يدل على شجاعتهم واجتهادهم في العمل لمصلحة بوتين والنخب بعامة. ويشمل الصقور الجدد أيضاً أشخاصاً متمرسين لهم علاقة بالشؤون العسكرية وممن يراقبون عن كثب مسار الحرب وأصبحوا بالنسبة إلى عدد من الروس مصادر رئيسة للمعلومات حول تطوراتها، وعلى النقيض من ذلك يعمد مسؤولون مثل باتروشيف إلى صرف وقت طويل في الكلام الفارغ الذي يكاد لا ينتهي عن مؤامرة "أنغلو-سكسونية" للاستيلاء على الأراضي الروسية وإطلاق نظريات لا علاقة لها بالواقع (بما في ذلك الفكرة الغريبة التي تفيد بأن المسؤولين الأميركيين يريدون توطين الأميركيين في روسيا وأوكرانيا في حال حصول ثوران كارثي لبركان في "منتزه يلوستون الوطني").

وفي المقابل استفاد بعض كبار أعضاء المؤسسة الحاكمة من هذا التحول الى التشدد، ولا سيما وزير الدفاع شويغو وقائد قوة روسغفارديا العسكرية المحلية فيكتور زولوتوف، وقد يضحي هذان الشخصان وأمثالهما المجموعة المستفيدة الرئيسة من تمرد بريغوجين المقموع، إذ يستطيع زولوتوف حالياً تعزيز صفوف روسغفارديا بسهولة أكبر للتعامل مع حوادث مثل تمرد بريغوجين، وكذلك يستطيع شويغو استخدام التمرد فرصة لتصفية الحسابات مع المعارضين الداخليين في الجيش.

وعلى عكس الأيديولوجيين الذين لا يبرحون مكاتبهم، يمكن لأولئك القادة العسكريين الوصول مباشرة إلى الموارد والقوى الإدارية بغية تغيير الحقائق على الأرض وإظهار القوة الحقيقية، ولتوضيح الأمر ببساطة يستطيع ميدفيديف أن يرغي ويزبد في منشور آخر له على تطبيق "تيليغرام" في وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك يستطيع باتروشيف إجراء المقابلة الـ 100 التي يتحدث فيها هادراً حول الأميركيين الأشرار.

في المقابل يقدر شويغو وزولوتوف نشر قوة مادية حقيقية للتعامل مع التحديات من أجل أن يبرهنا لبوتين ألا غنى له عنهما (حتى لو ظل شويغو، بصفته وزيراً للدفاع، مسؤولاً عن عدد من الانتكاسات العسكرية العام الماضي).

وفي تطور تال سيرسم صراع الصقور القدامى والجدد معالم استجابة روسيا لصراعاتها في أوكرانيا والداخل الروسي معاً، وكلما زادت التحديات التي تواجه النظام تطور بشكل أسرع إلى شيء أكثر قتامة، إذ يتزايد يأس الجمهور الروسي ويصبح أشد عداء للغرب وأوكرانيا ويتصاعد انقسام النخب الروسية وقلقها، وببساطة فكثيراً ما عقد معظم كبار المسؤولين ورجال الأعمال والسياسيين الأمل على انتظار نهاية الحرب، إلا أنهم يجدون أنفسهم الآن رهينة طموحات بوتين، وستحاول الجماعات الأكثر تشدداً وقوة بشكل علني، مثل القيادة العسكرية أو ما يسمى بـ "تشيكيست" [عملاء شرطة تشيكا السرية السوفياتية القديمة] في مؤسسة الأمن القومي الحفاظ على الأمن والنظام، ولا سيما بعد تمرد بريغوجين. وتسعى من خلال ذلك التشدد إلى تعزيز قدرة الحكم على تحمل الحرب وتجنب الهزيمة وتفادي حتى محاولة مترددة لتنظيم تمرد آخر في المستقبل، وستحدث كل تلك التحركات على خلفية قيادة بوتين التي يتزايد ضعفها، وذلك عامل من شأنه أن يسهم في جعل النظام الحاكم أكثر فوضوية وعشوائية، وعلى الصعيد الداخلي أشد حقداً وتنافسية.

ومن بعض النواحي فلقد أصبح بوتين وأولئك الأيديولوجيين القدامى المقربين منه مثل باتروشيف، عبارة عن بضاعة بالية لا تتماشى أفكارهم مع مشاعر النخبة في ما يتعلق بأوكرانيا والغرب، ومهما بلغ تشدد ومحافظة أعضاء النخب فسيظلون أكثر براغماتية من بوتين، ومرد ذلك أنهم أقل هوساً من بوتين بفكرة "إنقاذ" الأوكرانيين، وخلافاً له فإنهم لا يفترضون أن كييف ستفشل حتماً، وكذلك يتمتع أولئك الأشخاص بفهم أكثر دقة لقدرة روسيا على شن الحرب، ويرى كثير منهم أن ميل بوتين إلى تجاهل أجراس الإنذار أمر غير مفهوم، ولهذا السبب يدعو عدد من الناشطين المؤيدين للحرب إلى إجراء إصلاحات جذرية بهدف تأسيس ما قد يغدو ديكتاتورية عسكرية بالفعل، ويشكل ذلك الأمر سبباً في صعود بريغوجين إلى مكانة أضحى فيها معروفاً وموضع اهتمام على نطاق واسع.

وقد دعا بريغوجين إلى اتباع استراتيجيات حرب بديلة، وكذلك جادل في شأن وجوب استخدام الموارد المالية والاقتصادية والاجتماعية كافة التي يمكن تصورها لتعزيز القوة العسكرية، وليس هناك من يفكر بجدية أو يناقش الحرب عبر نهاية دبلوماسية، فيما تبدو تلك الفكرة بالنسبة إلى كثير من الروس البارزين كتهديد شخصي لهم بسبب كل جرائم الحرب التي ارتكبتها بلادهم والمسؤولية التي تتحملها النخبة بأكملها الآن عن المذبحة التي تشهدها أوكرانيا.

الخروج عن النص

بدأ النظام يتعلم كيف يعمل بصورة مستقلة عن بوتين، ولا يعبر هذا التطور حتى الآن ترسيخ المشاعر المناهضة لبوتين أو أن هناك معارضة سياسية ناشئة، وفي المقابل يُظهر ذلك إدراكاً لجوانب القصور في الأسلوب الإداري المنعزل للرئيس، إذ أتاح أسلوب بوتين تجاهل التهديدات الحقيقية للنظام، ومن خلال الاستخفاف تماماً بتطرف بريغوجين وصراع "فاغنر" المتصاعد مع الجيش، ظهر بوتين كقائد يتقدم به العمر وقد أخذ يتعثر بطرق لم يعهدها من قبل، ولم ينظر إلى بوتين حتى في الحسابات الخاطئة التي أدت إلى قرار التحرك ضد أوكرانيا، بقدر مساو من القسوة التي نظر بها إلى افتقداه السيطرة التامة مما أتاح لانتفاضة بريغوجين أن تتحقق، وقد مثلت أكبر صراع داخلي بين القوات المسلحة الحكومية والخاصة.

وقد بدا بوتين أقل قوة بعد إسقاط التهم الموجهة إلى بريغوجين بشكل واضح، والامتناع من المطالبة بتحقيق العدالة في حال قتل الطيارين أثناء التمرد، والسماح بصرف نفقات ضخمة من الموازنة لمصلحة شركة عسكرية خاصة تجرأت في النهاية على مهاجمة الدولة.

وثمة فصائل أخرى تتجه بالفعل إلى الفضاء الذي أتاحه ضعف بوتين، وقد يغدو بوتين أداة في أيدي الصقور الجدد الأكثر ديناميكية وواقعية والذين يتعلمون بسرعة كيف يستفيدون من مشاعر الرئيس ومعتقداته المعروفة جيداً، إذ أصبحت الإدارة الرئاسية بارعة في تملق بوتين إلى حد القوادة، وكذلك الحال بالنسبة إلى التحرك الفاعل لوضع حد لما يعرفه عبر إمداده بتقارير مليئة بالتزلف عن وطنية الجماهير، ووثائق لا حصر لها عن انحدار الغرب وحكايات الأوكرانيين الذين يتوقون إلى التحرر.

إنهم يصورون له عالماً ينتظر بفارغ الصبر روسيا كي تقلب النظام الدولي، وقبل بضع سنوات سعى موظفو بوتين بشكل أساس إلى تجنب إثارة غضب الرئيس الذي يحصل عادة حينما يتلقى أخباراً غير سارة، وينكبون حاضراً على صقل مهاراتهم في تشكيل الحالات المزاجية لبوتين، إما من طريق توجيه غضبه نحو خصومهم أو تشجيعه على التفاؤل حينما يفيدهم ذلك، وقد يساعد احتفاظ بوتين بالآراء المتطرفة المعادية للغرب وأوكرانيا أولئك الصقور الجدد في تحقيق أهدافهم السياسية، وربما يؤدي التطرف المتزامن للنظام [مع تطرف الرئيس] إلى جعل السلطات أكثر قسوة تجاه خصومها المحليين.

وفي المقابل تفتقر الحكومة إلى قيادة سياسية راسخة ورؤية إستراتيجية، وبالتالي سيحدث تماسك أقل في القدرة على التفكير الاستراتيجي والاتفاق على الأولويات طويلة الأجل، وستركز الفصائل في الحكومة على التفوق على بعضها بعضاً وتحقيق مصالحها الضيقة.

وعلى عكس ما قد يتوقع المحللون حصوله في أعقاب انتفاضة بريغوجين من محاولات ينهض بها الكرملين بغية توطيد سلطته وتفكيك الميليشيات الخاصة ودمج تشكيلة الجماعات المسلحة الروسية في كيان ما يكون أكثر تنسيقاً وتماسكاً، إلا أن العكس تماماً قد يتحقق.

وفي ذلك السياق اقترح مساعد بوتين الذي يتمتع بالنفوذ وحارسه الشخصي السابق، ديمتري ميرونوف، في يونيو إضفاء طابع رسمي على وحدات من الجنود من أبناء الإثنية العسكرية الفرعية المعروفة باسم "القوزاق"، على الرغم من أن تلك الخطوة قد تحرك غضب شويغو ووزارة الدفاع لأنهما باتا يبديان الحذر من انتشار الجماعات العسكرية المستقلة، وكذلك ناقش الكرملين فصل القوات الحدودية عن عناصر "خدمات الأمن الفيدرالية"، وتسعى قوة روسغفارديا العسكرية المحلية إلى الحصول على أسلحة ثقيلة وقوات إضافية من وزارة الداخلية.

وعلى نحو مشابه قد تشعل عمليات التطهير في الجيش، إلى جانب الانتكاسات العسكرية المحتملة على الجبهة الأوكرانية، احتجاجات محلية ضد قيادة الجيش، وعلى نطاق واسع ساد توقع بأن يجري تفكيك "فاغنر" بعد انتفاضتها، وبدلاً من ذلك يبدو أن بوتين سيسمح لقوات المرتزقة بالاستمرار تحت قيادة خليفة بريغوجين، أليكسي تروشيف، وبعبارة أخرى فبدلاً من رص الصفوف وتكثيفها قد تشهد قوات الأمن مزيداً من التشرذم، فيما تتسابق الفصائل المتنافسة للفوز بصلاحيات وسلطات جديدة.

وفي مسار مغاير ومتزامن قد تنقل الطبقة السياسية انتباهها إلى الداخل بهدف معالجة عيوب البلاد وإخفاقاتها التي كشف عنها تمرد بريغوجين بدلاً من التركيز على مهمة بوتين التاريخية التي تتمثل في تحرير الأوكرانيين، وكلما غدت الحرب مستنقعاً يرتفع عدد النواب والمعلقين وأعضاء مجلس الشيوخ والمدونين المشهورين ممن يسعون إلى تسليط الضوء على المشكلات المحلية التي يحملونها مسؤولية جعل روسيا أقل فاعلية في إدارة الحرب ومعالجتها، وبالتالي قد يؤدي هذا الانعطاف نحو الداخل إلى نهج أكثر براغماتية حيال الحرب ضد أوكرانيا، حتى لو جعل الدولة أكثر قسوة تجاه مواطنيها.

 

لقد جعلت الحرب روسيا تستميت في محاولة للوصول إلى اليقين في عالم شديد الغموض

 

وفي ملمح آخر يستمر الروس العاديون في دعم الحرب وتأييد بوتين على ما يبدو، لكنهم أيضاً باتوا يشعرون بالإحباط ويعبرون تدريجياً عن نفاد صبرهم حيال النخب، ويحسون على نحو متزايد بالضعف بسبب الإجراءات الخرقاء (والتقاعس) من جانب السلطات، وقد يتمتع بوتين بشعبية عالية في استطلاعات الرأي عن مدى قبول الشعب له، لكن [الاستطلاعات] ستحجب عدم اليقين المتزايد والقلق الاجتماعي، و(حتى الآن) السخط المستمر في شأن مجرى الحوادث، وقد تظهر المصادر الحقيقية للأخطار السياسية على النظام على هيئة شخصيات تدعم بوتين وتكون موالية بصورة عامة للسلطات (على غرار ما كانه بريغوجين)، لكنها بمرور الوقت يمكن أن تمثل مشكلات كبيرة.

إذاً سيتصارع الكرملين في المستقبل المنظور وفي الوقت ذاته مع قوى داخلية متباينة، وبعبارة أخرى ستواجه قيادة بوتين أزمة عميقة تترافق مع حدوث نقص متنام في المساءلة السياسية، واستجابات غير فاعلة بشكل مطرد من قبل السلطات للتحديات الجديدة، وتشتت متعاظم في أوساط النخب ومجتمع يزداد عداء لمؤسسة النظام.

وإذ احتلت الشؤون الداخلية في أوقات سابقة مرتبة ثانوية بالنسبة إلى الأجندة العسكرية المهيمنة فقد ينقلب الوضع راساً على عقب، وبالتالي قد تصبح الحرب بمثابة خلفية تتحرك عليها تحديات داخلية أكثر إلحاحاً.

وفي ذلك الإطار يبدو مستقبل روسيا في الداخل قاتماً، ويتميز بانقسامات متزايدة بين النخب وتقلص نفوذ بوتين ونظام أكثر صرامة وتشدداً في الإيديولوجيا، فيما تؤدي الأجهزة الأمنية فيه دوراً يتعاظم باستمرار، وستصعب تلك التغييرات مسألة توقع الإجراءات الجيوسياسية التي تتخذها روسيا وستجعلها متناقضة، فيما يتفاعل الكرملين مع الظروف المتغيرة بدلاً من المضي في وجهته الاستراتيجية وأولوياته.

وكخلاصة فلقد رأى بوتين في غزو أوكرانيا عملاً لا مناص منه وحتّمه القدر، وتطبيقاً عملياً لسيناريو تاريخي، وبدلاً من ذلك جعلت الحرب روسيا تستميت في محاولتها الوصول إلى اليقين في عالم يتزايد غموضه.

 

تاتيانا ستانوفايا، زميلة أولى في "مركز كارنيغي روسيا أوراسيا" والمؤسس والرئيس التنفيذي لشركة "آر. بوليتيك" R.Politik للتحليل السياسي.

 

فورين أفيرز

يوليو (تموز)/ أغسطس (آب) 2023

المزيد من آراء