Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حكايات مؤلمة عن مرض النوم الأفريقي في "عميان بافيا"

رواية الكاميروني الفرنكوفوني موت لون تسرد صراعات القارة السمراء

لوحة تمثل وجهين (متحف الفن الأفريقي),

ملخص

رواية الكاميروني الفرنكوفوني موت لون تسرد صراعات القارة السمراء

تكتسب الروايات "الأفريقية - الفرنكوفونية" هويتها المميزة وملامح خصوصيتها من شقها الأفريقي الذي ترتكز عليه في المقام الأول، أكثر من اعتمادها على لغتها الفرنسية التي تخاطب بها القراء، أينما وجدوا. ويكاد ينطبق هذا القول أيضاً على الروايات الأفريقية التي تكتب بلغات غربية أخرى، مثل الإنجليزية والبرتغالية والإسبانية.

والسمة الغالبة على السرد الأفريقي المعاصر بصفة عامة، إلى درجة اعتبارها عنواناً مفتاحياً لعوالمه الإنسانية والفنية المتنوعة، هي ضرورة إثارة قضية بارزة أو مجموعة قضايا محورية من خلال الطرح الأدبي الجمالي، ووضعها في مقدمة اهتمامات العمل الروائي وأهدافه. وتكون هذه القضايا عادة مرتبطة بالبيئة المحلية، وبالواقع المعيش، وبالمجتمع الأهلي في علاقاته وانقساماته ونزاعاته الداخلية، وصراعاته مع القوى الخارجية.

تمكنت الدول الأفريقية تباعاً من الفكاك من القبضة الاستعمارية، لكن ذاكرة المقاومة والرفض تحيا في ضميرها الجمعي، وتمارس حضورها اليومي، وتفرز أدبياتها وثقافتها الثورية. ولأن الأوضاع لا تزال مضطربة ومشتعلة في كثير من بؤر النزاع والمناطق غير الآمنة والفقيرة والموبوءة والبائسة على امتداد القارة، فإن السرد الأفريقي لا يمكنه أن ينفصم عن خضم الخطورة والمعاناة والأزمات المستفحلة المتشابكة، وليس باستطاعته أن يتجاهل قضايا مصيرية ومتجذرة عبر التاريخ، لا سيما تلك الشؤون الشائكة التي تمس الهوية، وعلاقة الأنا بالآخر الغربي/ الأبيض، والتفرقة العنصرية، والصراعات القبلية والعرقية والطائفية والطبقية، وما نحوها.

 

وفي هذا الإطار، الذي يتماهى فيه الاشتباك الإبداعي (التخييلي والمعرفي والتوثيقي)، ومراجعة الذات (بحدة وقسوة)، وتمحيص الكوارث المحيطة (القديمة والمتجددة)، تأتي رواية "عميان بافيا السبعمئة" (القاهرة، دار صفصافة، 2023)، للكاتب الكاميروني موت لون، وهي الرواية التي كتبها بالفرنسية وحصلت عنها مترجمتها المصرية بسنت عادل فؤاد على جائزة الدولة التشجيعية في الترجمة لهذا العام. واسم مؤلفها موت لون الحقيقي هو نسيب دانيال آلان (50 سنة)، وتلقى أعماله السردية رواجاً، وقد حصل على جائزة الكاتب الإيفواري أحمادو كوروما في جنيف عن روايته الأولى "الذين يسيرون ليلاً"، وهو شغوف في كتابته بمسائل الهوية الأفريقية، الإنسانية والثقافية، خصوصاً في مرحلة ما بعد الاستعمار.

الحقيقة وعاء للخيال

تنطلق رواية "عميان بافيا السبعمئة" (240 صفحة) من الحدث/ القضية مباشرة، في زمان ومكان محددين، ومن أرضية وقائع حقيقية شهدها الناس وسجلها التاريخ بالفعل. تبدأ الرواية عام 1961، على غير التسلسل الزمني الطبيعي، حيث تعتمد كلية على الاسترجاع الفني "الفلاش باك". فعند هذه النقطة الزمنية من مطلع الستينيات عقب حصول الكاميرون على استقلالها، تزور السيدة الفرنسية داميان بوردين الكاميرون مرة أخرى، بعد 32 عاماً من زيارتها الأولى، حيث جرى تعيينها آنذاك عام 1929 كطبيبة للقوات الاستعمارية، ضمن فريق عمل الطبيب الشهير يوجين جاموت، رئيس البعثة الطبية الدائمة لمكافحة مرض النوم.

 

تسترجع داميان في زيارتها الثانية للكاميرون كل ما دار من أحداث مثيرة وعصيبة خلال فترة عملها طبيبة برفقة يوجين جاموت، وهي في مجملها أحداث وثيقة الصلة بما دار في الواقع في تلك الفترة. وقد استقى المؤلف خطوطه العريضة من ألسنة شهود العيان، وصفحات الوثائق التاريخية، إلى جانب اعتماده على كتاب "يوجين جاموت... طبيب مرض النوم" لجان بول بادو، المنشور عام 2011، ويحكي رحلة جاموت (1879-1937)، الطبيب العسكري الفرنسي في القوات الاستعمارية، الذي لعب دوراً كبيراً في محاصرة مرض النوم في الكاميرون ودول وسط أفريقيا، وتحقيق الوقاية الكاملة منه، وهو المرض الذي ينتقل إلى البشر من طريق ذبابة "تسي تسي".

وعلى رغم إدراك الكاميرون، شعباً وحكومة، الدور العظيم للطبيب جاموت في التخلص من مرض النوم وأيضاً مقاومة الملاريا والجذام وكثير من الأمراض المستوطنة، وعلى رغم من إقامة نصب تذكاري له في العاصمة الكاميرونية ياوندي أمام وزارة الصحة العامة، تكريماً له، وافتتاح مستشفى باسمه، فإن خطأ طبياً فردياً قد حدث في عهده، ارتكبه أحد الأطباء في فريق عمله في أواخر عشرينيات القرن الماضي، قد أشعل نيران الغضب واسعة ضد البعثة الطبية الاستعمارية كلها، خصوصاً من جانب "شعب بافيا" أو سكان منطقة بافيا العرقية، التي شهدت هذا الخطأ الطبي الجسيم.

لقد أراد وقتها أحد الأطباء في فريق جاموت معالجة مرضاه بطريقة أنجع وأسرع، بواسطة زيادة جرعة المادة الفعالة "التريبارساميد" في الحقن، على غير ما يقضي البروتوكول الصحي المعروف لعلاج مرض النوم، وهو الأمر الذي ثبت فشله بالتجربة، وأسفرت تداعياته الوخيمة عن وجود قرابة سبعمئة من المصابين بعمى لا أمل في شفائه، والمضطربين اضطرابات بصرية خطرة، على أقل تقدير، في منطقة بافيا وحدها، من أولئك الذين جرى حقنهم بالجرعات الزائدة الخاطئة.

 

ومن أجل احتواء تمرد السكان الأصليين وغضب القبائل وثورتهم العارمة في بافيا وجيرانها، ووقف هجمتهم ضد المسؤولين الإداريين والممرضين، وصد محاولتهم حرق المركز الطبي، جرى تكليف الطبيبة داميان بالقيام برحلة إلى قلب الأحداث المحتدمة، لتوضيح حقيقة الأمر في حدود الخطأ الطبي الفردي، والسيطرة على الموقف المتفاقم، وإعادة ثقة المواطنين الأفارقة بالأطباء المعالجين، وبالغربيين البيض عموماً، الذين كان من السهل اتهامهم من جانب السكان الأصليين بأنهم متآمرون ويسعون إلى تدمير الأفارقة والسيطرة على أراضيهم وممتلكاتهم.

تمثل هذه الوقائع المحددة بشخوصها المعروفين مجرد هيكل أو وعاء لاحتواء النسيج الروائي الثري الذي صاغه موت لون، وهو نسيج حيوي متدفق، يتعدى السرد التسجيلي السطحي وتدوين الأحداث التاريخية والمعلومات التوثيقية بالتأكيد. إن الرواية تسعى في مجملها إلى تقديم تجربة إبداعية إنسانية، تهتم بالتفاصيل، وتشرح الحياة، وترسم تراكيب الخريطة البشرية المتنوعة، وتلتقط دقائق العادات والتقاليد لدى القبائل المختلفة، وتتخذ من مهمة الطبيبة داميان الصعبة في بافيا منطلقاً للإبحار في المكان والزمان، وإنجاز قراءة أكثر صعوبة وعمقاً لكل ما يجري فوق هذه الأرض من تحركات وتوترات، وما يستقر تحت قشرتها من خبايا كامنة.

يلعب السحر الأفريقي دوره في إنقاذ داميان من الموت بأيدي المتمردين والراغبين في الانتقام من الفريق الطبي في بافيا، حيث حصنها مرشدها البيغمي القزم (أحد المواطنين الأفارقة) بإحدى التمائم من صنعه لكي تصير غير مرئية إذا هجم عليها الأعداء من السكان الأصليين المتحمسين. ولم تجد داميان تفسيراً لنجاتها من المتحفزين المسلحين بالآلات الحديدية الراغبين في قتلها يوم الهرب الجماعي للبيض من المنطقة، غير أنهم لم يتمكنوا من رؤيتها، بفعل السحر، أو لسبب آخر مجهول.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وما بين ذهاب داميان إلى بافيا لمحاولة تهدئة الأوضاع، وهربها منها مع اشتداد الغليان، تتجلى سائر المفارقات والتناقضات، وتتضح معالم الحياة كاملة في هذه المنطقة القبلية البدائية، وتتكشف الصراعات الدرامية والرموز والإسقاطات. لقد كان مفترضاً أن يعم نور العلم الذي ينشره الأطباء، فيمحو ظلام المرض والجهل والعلاجات التقليدية العاجزة عن قهر الوباء، ولكن الخطأ الطبي جاء بالعمى، والمزيد من الفقر والقهر والعجز والظلام والكراهية الموجهة للبيض الغربيين.

إن فرداً واحداً هو الذي أخطأ في الواقعة المشؤومة، لكن هذه الخطيئة هي القشة التي قصمت ظهر البعير، وأشعلت من جديد الجمرات المستترة في الصدور عبر الأجيال "كان قلب داميان ينبض بشدة لدرجة أنها كانت آخر من سمع الصخب. رجال نصف عراة، نساء يرتدين قطعة من القماش مربوطة فوق الصدور. بأقدام قذرة وشعر كثيف، خرجوا من الأكواخ واقتربوا منهم. في غضون ثوانٍ، كانت القرية تحاصرهم بأكملها. أصيبت داميان بالشلل، وأصبحت غير قادرة على الحركة، وأيضاً غير قادرة على تمييز رفيقيها وسط كل هذه الوجوه السوداء التي تعبر عن كراهية هائلة".

مغامرات العشق الموازية

في مقابل حكايات الكر والفر والمآسي والموت والمشاحنات المتبادلة بين البيض والسود، فإن رواية "عميان بافيا السبعمئة" لا تنسى أن تعرج أيضاً على قصص الحب ومغامرات العشق والجنون الموازية، وذلك ضمن منظومة انشغالاتها بتوضيح كافة العلاقات والمعاملات الاجتماعية، وتقاليد الخطبة والزواج والإنجاب وغيرها في المجتمعات القبلية. والمثير أن هذه المجتمعات البدائية قد تتقبل أموراً وأوضاعاً يصعب تقبلها في مجتمعات أخرى حداثية ومدنية، كما أنها قد ترفض أموراً تقرها المجتمعات الأخرى.

ومن ذلك، على سبيل المثال، قصة الفتاة العشرينية إيدوا، الممرضة الماهرة، أول امرأة درست في الكاميرون، ابنة أخت تشارلز أتانجانا، زعيم السكان الأصليين. وقد جمعت قصة حب ملتهبة الفتاة إيدوا والزعيم الشاب أبوعم، الذي ينتمي لقبيلة أخرى، وحملت منه ووضعت جنينها في أثناء الخطبة من غير دفع المهر ومن دون إتمام الزواج، وهو أمر مستساغ قبلياً، وإن كانت تترتب عليه تبعية الطفل الوليد لقبيلة الأم، وحرمان أبيه منه، وفق القانون العرفي.

وبسبب عشقها لوالد طفلها، ورغبتها في الزواج منه، فقد هربت الفتاة إيدوا وأقامت لدى الزعيم الشاب أبوعم. واعتبر الزعيم تشارلز أتانجانا أن ابنة أخته مخطوفة ومحتجزة لدى قبيلة أخرى، ومن ثم فإنه أعلن شن الحرب عليها. وهكذا، تقود المقدمات كلها عادة إلى التطاحن والدماء في البيئة القبلية القاسية، حتى وإن كانت المقدمة وردة عشق حمراء.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة