ملخص
لم يكن محمد بكري الذي رحل 72 سنة فناناً بالمعنى المريح والمهادن للكلمة، بسبب التجارب التي عاشها والبقعة التي يأتي منها، تكونت لديه قناعة أن المسرح والسينما لا يمكن أن يكونا ملاذاً محايداً، فالفن من صلب عملية تحرير الإنسان، خصوصاً في مكان مثل فلسطين حيث ولد بعد خمسة أعوام من النكبة.
منذ بداياته الأولى أدرك أن السينما في هذه الجغرافيا إما أن تكون موقفاً أو لا تكون، "هناك ما يجبرك على التحرك وحمل الكاميرا، أين مكانك من الإعراب إذا رأيت الجريمة وصرفت النظر عنها؟"، هذا ما كان يسأل عنه في منتصف مقابلة عن مسيرته التي انطلقت قبل أكثر من 40 عاماً مع "هانا ك" لكوستا غافراس.
حين توفي محمد بكري الثلاثاء الماضي في أحد مستشفيات الشمال الإسرائيلي، عن 72 سنة، بدا رحيله كأنه أسدل ستارة على فصل طويل من العناد الأخلاقي، وعلى سيرة رجل عاش دائماً بين عدوين: سلطة استعمارية تطارده، ومحيط عربي كثيراً ما خذله.
نشأ بكري في الجليل، في عائلة قررت البقاء في أرضها. هذه الحقيقة، التي قد يراها بعضهم تفصيلاً، كانت جوهر تجربته كلها، "ولدت في ما يسمى إسرائيل، ولم أولد في مخيمات اللجوء"، قال ذات مرة، معتبراً ذلك امتيازاً وحملاً إضافياً في آن واحد، في نظره أن تكون فلسطينياً من الداخل يعني أن ترى العدو من قرب، أن تتقن لغته، أن تعمل في مؤسساته الثقافية أحياناً، وأن تتهم بالخيانة دائماً، من هنا وهناك.
منذ بداياته، فرض حضوره بوسامته، بجسده المتوتر، بصوته المشحون، وقدرته النادرة على الجمع بين المرونة والصلابة. هذا كله سمح له بتدويل مسيرته، بدءاً من السينما الإسرائيلية بحيث تعامل مع سينمائيين مثل أموس غيتاي وعيران ريكليس وأوري برباش، والأخير أسهم في إطلاقه يوم أسند له دور عيسى في دراما السجون "خلف القضبان". كانت له أيضاً تجارب في السينما الإيطالية مع مخرجين مثل سافييرو كسوتانزو والأخوين تافياني، وصولاً إلى أفلام فلسطينية في إدارة أسماء مثل ميشال خليفي ورشيد المشهراوي وآن ماري جاسر ومهى الحاج. انتقى أدوراه بعناية، لكن هذه المسيرة قبالة الكاميرا لم تكن كافية، شيء ما كان ينقصها: الإخراج.
"أنا ممثل ولست مخرجاً"، كتب بكري في رسالة يوم شرح ما حدث له بعد فيلمه الوثائقي الثاني، "أقول مكرهاً لا بطلاً، هكذا أخرجت أفلامي الوثائقية الثلاثة"، لم يكن الإخراج خياراً جمالياً، بقدر ما كان ضرورة أخلاقية. في 1998، ومع احتفال إسرائيل بذكرى قيامها الـ50، شعر أن روايته تمحى مرة أخرى، "حينها قررت انتزاع آلة التصوير"، قال. هكذا ولد أول أفلامه الوثائقية عن النكبة، ثم جاء "جنين جنين" عام 2002، الفيلم الذي سيغير حياته إلى الأبد.
أهل جنينفي فيلم "واجب" مع ابنه
استجوب بكري في هذا الفيلم أهالي مخيم جنين وهم يخاطبون العالم عما جرى لهم أثناء الاجتياح الإسرائيلي في أبريل (نيسان) 2002 خلال ما عرف بـ"عملية الدرع الواقية". لم يكن فيلماً مثالياً من الناحية الجمالية، ولا ادعى بكري يوماً ذلك، لكنه كان فيلماً غاضباً، مباشراً، كاشفاً إلى حد الفضيحة. دخل المخيم لا كمحقق، بل كفنان يحمل كاميرا ويشهد، ومن هنا بدأت الملاحقة: منع رقابي، حملات تشويه، اتهامات بالإرهاب، محاكم امتدت أعواماً، وخمسة جنود إسرائيليين يطالبونه بتعويضات خيالية لأن الفيلم "أساء إلى سمعتهم"، على رغم أنهم لم يذكروا بالاسم أو الصورة. غير أن ما آلمه أكثر من المحاكم الإسرائيلية هو صمت أقرب الناس. كان يقول إن "العرب ناموا نومة أهل الكهف"، فيما إسرائيل جندت سفراءها لمنع عرض الفيلم في العالم. هذه الخيبة رافقته طويلاً، وتبرر بعض الشيء حدته، خصوصاً حين يتكلم عن "الربيع العربي"، الذي رآه وقد انتهى إلى "التطرف والدمار وانعدام الأفق والتأسيس للفكر الداعشي".
على رغم الظروف الكثيرة التي تجعل من الفنان كائناً مسيساً على رغم عنه، لم يتحول بكري إلى كتلة نضالية عقائدية، على العكس، احتقر الشعارات وانتصر لفن قريب من الناس يحترم ذكاءهم. ظل يؤمن أن الصورة أبلغ من الخطاب، وأن المقاومة الحقيقية "تتجلى في مدى إنسانيتك، وفي قدرتك على عدم إخفاء ضعفك الإنساني، بل الافتخار به، وجعل قاهرك يخجل من نفسه". هذا الإيمان بالإنسان يتجلى بوضوح في واحد من أهم الأفلام التي أطل فيها، "واجب" لآن ماري جاسر، حيث يقف إلى جانب ابنه صالح بكري، هنا، ابتعد بكري عن الوثائقي الغاضب، ودخل في سينما التفاصيل والعلاقات، من خلال دور أبو شادي، الأب البراغماتي، الواقعي، الذي يحاول التكيف مع واقع الاحتلال. اعترف بكري أن هذه الشخصية نقيضه، ثم أضاف بجملة موجعة: "لكن كلما كبرنا في العمر، تصالحنا أكثر مع أنفسنا ومع الغير… أنا اليوم لم أعد أخاف على نفسي، وصرت أخاف على أولادي، وأخشى أن يدفعوا ثمن أخطائي".
تجربة العمل مع ابنه صالح لم تكن سهلة، "العلاقة بين الأب والابن ليست علاقة صحية في العمل"، ومع ذلك، شبهها بالولادة: "صعبة جداً، لكنها تمنح شعوراً بالرضا والفرح العميق". هذه الجملة، البسيطة ظاهرياً، تختصر شيئاً منه: صعوبة الإنجاز ولكن الشعور الغامر في النهاية بأن ما فعله هو عين الصواب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الإحساس بالواجب هو ما قاده أيضاً إلى فيلمه الروائي القصير "يرموك" عن رجل من المخيم يبيع ابنته لرجل خليجي، وقد فجر عاصفة من الغضب والاتهامات، بعدما فهم على أنه إساءة إلى مخيم اليرموك واختزال لمأساته بعد الأحداث الدامية التي اندلعت في سوريا منذ 2011 وشردت مئات الآلاف ورمتهم في القهر والجوع. دافع بكري عن نفسه قائلاً إن الفيلم "ليس عن اليرموك تحديداً، بل عن الإنسان العربي ونتاج الربيع العربي"، لكن الجرح كان عميقاً، حتى محبوه وجدوا صعوبة في الدفاع عنه. ظهر بكري في أكثر لحظاته إشكالية، الفنان الذي لم يخش جبروت إسرائيل، وجد نفسه في مواجهة جمهوره. بعض النقد كان مشروعاً، وبعضه كان قاسياً، وربما ظالماً، لكن الأكيد أن بكري لم يكن يبحث عن استفزاز مجاني، مرة أخرى وجد نفسه "مكرهاً لا بطلاً"، يطلق صرخة، حتى لو جاءت ناقصة أو ملتبسة.
"لو لم أنجز هذه الأفلام، لا أحد كان سينجزها"، جملة كان يكررها باستمرار، وعلى رغم العبء الكثير، فلم يفقد حس الدعابة، ولا الطفل الذي في داخله، "يزعجني الحزن كثيراً، لذلك حتى وسط الدمار، أحب أن أحافظ على الابتسامة".
بقي ملاحقاً قانونياً حتى آخر أعوام حياته بسبب "جنين جنين"، هذه الملاحقات حدت من إمكاناته لكنها لم تمنعه من الاستمرار، "إني مثل السجين الذي يمارس الرياضة داخل زنزانته"، هكذا وصف نفسه في مقابلة عام 2018، في ذلك اليوم سألته: "لو أتيحت لك العودة إلى الحياة مرة أخرى، هل كنت ستفعل ما فعلته؟"، أجاب بلا تردد: "نعم… وسأنجز فيلم "جنين جنين" مرة أخرى"، رد يصلح خاتمة لسيرة فنان كان يعلم أن ثمن الصمت أعلى من الكلام.
برحيله، يفقد الفن العربي نموذجاً نادراً لممثل حمل الكاميرا لأنه كان هذا خياره الوحيد.