ملخص
"الجلد" رواية تخبرنا أن الكل مذنبون ولا أحد يخرج من المعمعة ليدعي البراءة والعفة
ربما يكون رواية "الجلد" للكاتب الإيطالي كورزيو مالابارت منسية بعض الشيء اليوم، لكنها كانت تعتبر منذ صدورها أواخر أربعينيات القرن الماضي واحدة من أشهر وأعمق آيات الأدب الإيطالي، بل حتى أدب الحروب بشكل عام، وذلك حتى لو كشفت لنا قراءتها أن سياقها الذي يغوص في الحرب العالمية الثانية فوق الأراضي الإيطالية، يبدو أبعد ما يكون عما تتضمنه رايات الحروب عادة من معارك ومشاهد قتل ودمار، ولكن في المقابل ثمة دمار آخر يحيد بهذه النصوص التي قد يعتبرها البعض رواية في نهاية الأمر، هو دمار شعب ومدن من الناحية النفسية التي يقول لنا الكاتب إنها أكثر مرارة وقسوة من الدمار الخارجي، وذلك انطلاقاً مما يشبهه سطر في أغنية لجاك بريب يتساءل فيه المغني البلجيكي بصدد الثورة الفرنسية: "أجل لقد دمرنا الأتيل فهل صلحت الأمور بعد دماره يا ترى؟".
ما بعد "التحرير"
إذاً، في هذه النصوص التي تشكل على أية حال، كلاً مترابطاً، يلقي كورزيو مالابارت، وهو يتجول في رفقة المحررين الأميركيين "العظام" لبلاده الإيطالية بعد أن احتلوها، نظرة فظيعة على إيطاليا الجديدة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، من نابولي إلى روما، فيدين ويلات الحرب وقهر الشعب الذي، بعد الخضوع، عاش التحرير حقاً، ولكنه أيضاً وقبل كل شيء آخر، عاش الفقر والجوع والذل، وكل الأهوال التي يمكن أن تجرها الحروب في أحوالها كافة. والحقيقة أن ليس من السهل تلخيص كل ما يقوله الكاتب هنا. وربما يعود ذلك إلى أن العواطف التي تثيرها قراءة هذا الكتاب معقدة بالتالي يصعب التعبير عنها. فهناك في ثنايا الصفحات مشاهد رهيبة، واستعارات مدهشة، هناك جمال ورعب بل كثير من الجمال في الرعب في الوقت نفسه. باختصار هناك أوروبا القديمة المريضة التي تواجه أميركا السليمة، المهزوم يواجه "المنتصر"، لكن هناك من ناحية أخرى، قلم الكاتب كفنان وباحث في الفن، ولا سيما في فن الرسم الذي يتجلى في صفحات الكتاب. والحال أن وجود هذه الحساسية الفنية يضفي نوعاً من الراحة الخاصة كتعويذة لـ"أهوال" الحياة اليومية. وبحسب أحد التعليقات الموفقة على الكتاب "لتلك الترتيبات الصغيرة مع الضمائر التي يولدها الجوع، ويولدها العار الذي أصبح معياراً ليومية شعب قد تكون نهاية الحرب حررته لكنه يشعر الآن أن هزيمته باتت أبدية".
فترة مجهولة
في شكل عام يستحضر "الجلد" تلك الفترة التي تبدو لنا منذ زمن بعيد مجهولة من تاريخ إيطاليا الحديث. فترة استبدلت بعبارات النصر مثل "تحيا الحرية" وسرنا أنها غابت مع غياب الفاشيين وهزيمتهم وإن كنا نعرف اليوم أن هؤلاء، وفي نسختهم النازية الأكثر شراً وسوءاً سيعودون وبقوة بعد عقود من ذلك مسجلين انتصاراً أخيراً لهتلر وليس فقط على ستالين، بل على القيم الإنسانية جميعها، لكن هذا ليس موضوعنا هنا وإن كان لا بد لنا أن نلمحه في ثنايا مرارة لا يفوت مالابارت أن يعبر عنها وإن كانت مهمته في السنوات التي يصفها أن يرافق الحلفاء بعدما كان فاشي النزعة والهوى لكنه قلب جلده في نهاية الأمر! فهو الآن ضابط ارتباط رسمي يسير في ركاب "المحررين الأميركيين" ناطقاً باسم تقارب ما تبقى من إيطاليا، مع الحلفاء. ومن هنا لا نراه في ظاهر الأمر مستاءً حتى حين يصف لنا الفتيات الإيطاليات محتضنات الجنود الأميركيين ضاحكات مستبشرات، "على إيقاع حفيف الأشجار وزقزقة الطيور"، لكن كاتبنا يعرف ونعرف أنه يعرف أن ما حدث على رغم "نهايته السعيدة تلك" إنما دمر البلدان والشعوب لأن الحرب تترك آثاراً لفترة طويلة جداً من الزمن.
نابولي بشكل خاص
تدور الأحداث التي تروى لنا هنا، بخاصة بين عامي 1943 و1944، فنتوقف إلى حد كبير في نابولي خلال الفترة التي تم فيها صد قوات الحلفاء من قبل القوات الألمانية المتحصنة في مونتي كاسينو، ثم سنتبع الجيوش عند دخولها روما ("المرور أمام الكوليزيوم ممتع للغاية!" يتوقف الكاتب ثانية هنا ليخبرنا بذلك!) ثم في غزوها توسكانا. ولئن كان الوصف الذي يسود في هذه المقاطع البديعة من "الجلد"، يتسم بحس صحافي لافت فما هذا إلا لأن مالابارت نفسه لم يكن روائياً كبيراً وحسب، بل كان مراسلاً صحافياً كبيراً قبل ذلك. وهو كان قد حقق قدراً كبيراً من الشهرة في الفترة السابقة على ظهور "الجلد" في عام 1949، عندما نشر كتاباً سابقاً له هو "كابوت" الذي وصف فيه مغامراته كمراسل حربي لصحيفة "لا ستامبا" الإيطالية على عديد من الجبهات الأوروبية خلال الحرب نفسها. أما هنا في "الجلد" التي يمكن اعتباره الجزء الثاني من ثنائية ما، فإنه ضيق ميدان تحركه ليصبح إيطاليا لكنه عمقه ليصبح مليئاً بالدلالات الذاتية وإن بعيداً من التعبير عن مواقف أيديولوجية كان من الطبيعي له أن يعبر عنها على أية حال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"صديقي الدوتشي"
ففي نهاية الأمر كان كورزيو مالابارت (1898 – 1957) واسمه الأصلي كارل إيريك سوكيرت، من الفاشيين الإيطاليين العريقين وتحديداً من أنصار موسوليني وأصدقائه ولكن من دون أن يكون راضياً لا عن نازية هتلر ولا عن سياسة النازيين المعادية للسلمية. فهو ومنذ بداياته الكتابية خلال العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين كان يريد لنفسه أن يكون ذا تعبير إنساني، وكان يتوخى أن يوصل رسائله في هذا المجال إلى قرائه مدركاً أنها رسائل تتناقض مع وسائل ورسائل النازيين. وهو ظل يأمل طويلاً أن يؤثر في موسوليني - "الذي كان بعد كل شيء قد بدأ حياته اشتراكياً" كما كان يقول - لكنه عجز عن ذلك فأذعن. ولعل في مقدورنا أن نلمس في "الجلد" بخاصة، ذلك التمزق الذي عاناه من جراء إخفاقه في هذا المجال، بالتالي بعض الأمل الذي ساوره من منتصف الحرب العالمية الثانية وبدايات تلمس ما لانقلاب موسوليني على حليفه هتلر، في أن يعود "صديقي الدوتشي" كما كان يسميه، إلى صوابه. ولعل هذا ما يجعل "الجلد" وعلى عكس "كابوت" نصاً لا يخلو من أبعاد ذاتية بل من أبعاد تحمل مرارة السخرية من الذات.
الحرب من الجانب الآخر
ولعل على هذه الخلفية التي يجب التعمق في قراءة الكتاب قبل تلمسها في أبعادها كافة، يمكننا أن نفهم كيف أن مالابارت عرف كيف ينتج واحداً من أقوى النصوص عن الحرب العالمية الثانية بل حتى عما حصل من حصارات ومذابح في مونتي كاسينو، إنما من دون أن يتوقف لوصف معركة واحدة أو أي قتال ولو جانبي. ففي هذه "الرواية" ليس هناك معارك أو دماء أو قتل أو حتى مجابهات بالأسلحة ولو بصورة عارضة. بل ثمة تركيز بدلاً من ذلك على ما يحدث خلف الجبهة بل الجبهات، من خلال مشاهد دائماً ما تدور في الشوارع أو غرف المعيشة داخل البيوت، التي زارها قلم الكاتب وسجلتها عينه كأفضل ما يكون التصوير عبر كاميرا وثائقية في أية لحظة من اللحظات أنه ليس مجرد سائح هنا، بل هو جزء من اللعبة وتاريخه بدوره جزء منها، وقد نقول إنه جزء أساسي منها. وهو في الوقت نفسه "تصوير ساخر للغاية لتحرير إيطاليا ينغمس فيه المؤلف"، الذي لا توفر سخريته المرة، الإيطاليين الأرستقراطيين الذين يرحبون بالضباط الأميركيين أو الفرنسيين في ما تبقى من قصورهم. تماماً كما لا يوفر من سلاطة هذا القلم حتى سكان الأحياء الشعبية في نابولي بخاصة، الذين حين حولتهم الحرب ومن ثم "التحرير" إلى بؤساء باتوا اليوم "على استعداد تام لفعل أي شيء لإنقاذ جلدهم"، ولكن لئن كانت سخريته المرة تلسع هؤلاء وأولئك على طريقة "جلد الذات" فإن قلمه ولغته يفلتان من عقالهما، حين يتوقف عند الحديث عن الضباط الأميركيين، بسلوكهم غير الرسمي، الذين سيكون الأقل شأناً بين عيوبهم، إن لم نقل بين مساوئهم وربما بين جرائمهم، أنهم يحتلون و"يحررون" بل يدمرون بلاداً ليست بلادهم، وهم الذين "لا يعرفون شيئاً عن أوروبا بالتأكيد".