Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أبرزهم إزرا باوند... شعراء في خندق الفاشية ومعاداة السامية

"كيف شكلت إيطاليا موسوليني أدباء بريطانيا وإيرلندا والولايات المتحدة" كتاب يرصد مظاهر الهياج الثقافي خلال الحرب العالمية الثانية

راج عن إزرا باوند أنه كان فاشياً ومعادياً للسامية ومناصراً لموسوليني خلال الحرب العالمية الثانية (ويكيميديا)

من أساطير عالم التحرير الأدبي أسطورة قصيدة "الأرض الخراب" لإليوت. فالقصيدة التي غيرت وجه الشعر في العالم فصار بعدها كما لم يكن قبلها، تمثل للمحررين قصة نجاح كبرى لتدخل المحرر في عمل الكاتب، ولكن المحرر هنا لم يكن غير إزرا باوند، الشاعر الأميركي الذي أهدى إليه إليوت القصيدة بكلمات حفرت هي الأخرى نفسها في تاريخ الأدب: "For Ezra Pound، il miglior fabbro" أو "إلى إزرا باوند الصانع الأمهر". بهذه العبارة المستلة من كوميديا دانتي الإلهية اعترف إليوت بالفضل للرجل الذي حذف من قصيدته قرابة نصفها، مخلصاً إياها من حشوها الفيكتوري، محيلاً إياها إلى الأيقونة الشعرية التي درست كثيراً وترجمت إلى عشرات اللغات، ولم تزل موضع دراسة إلى الآن، لكن يبدو أن باوند كان يخبئ مبضعاً آخر غير مبضع الزيادات الشعرية، مبضعاً مخصصاً للعالم كله.

لم يلعب باوند دور الراعي هذا مع هذه القصيدة فقط، أو مع هذا الشاعر وحده، بل امتد دوره ليشمل أدباء كثيرين آخرين، وتنوع واتسع فشمل تأسيس مجلات نشرت في بعضها الفصول الأولى من عوليس لجيمس جويس -وهي بدورها العمل السردي الفارق في تاريخ الرواية الحديث- فضلاً عن تأسيسه حركات أدبية نالت أنصبة مختلفة من الذيوع والتأثير.

ولم يكن باوند فقط ذلك الراعي للحداثة وأحد أهم عمدها ومؤسسيها، فقد راج عنه أيضاً أنه كان فاشياً، ومعادياً للسامية، ومناصراً لموسوليني خلال الحرب العالمية الثانية، ومقدم برنامج إذاعي هاجم فيه بلده الولايات المتحدة ودول الحلفاء، فاعتقل بسبب هذا وتعرض لتنكيل وإذلال لا أحسب أن له نظيراً في زمنه، ثم حوكم بعد انتهاء الحرب، وأدين، ولولا تدخل أصدقائه ومحبيه وإقناعهم السلطات الأميركية بـ"جنونه"، لقضى عقوبة حبسه في سجن حقيقي بدلاً من المستشفى الذي استطاع فيه، وهو رهن اعتقال رمزي، يعالج من جنونه المزعوم، أن يستمر في رعاية الأدباء بالمراسلات كثيراً، وبالزيارات المباشرة في بعض الأحيان.

في قلب الفوضى

يوشك هذا الجانب السياسي من باوند أن يلقي بظله على الشعر نفسه، وهو ذو قيمة أدبية رفيعة ونادرة وجديرة بنيل أغلب الاهتمام، لكنه يكاد ينسى بينما ينصب التركيز كله على الجنون المزعوم، أو المؤكد، والميل إلى الفاشية ومعاداة السامية وخيانة الوطن.

ولا يشذ عن هذا للأسف، كتاب حديث الصدور، عنوانه "شعراء رابالو: كيف شكلت إيطاليا موسوليني أدباء بريطانيا وإيرلندا والولايات المتحدة" (مطبعة جامعة أكسفورد). فعبر هذا الكتاب، الذي يبلغ عدد صفحاته 256، تضعنا المؤلفة لورين أرينتن، أستاذة الأدب الإنجليزي والشعر والدراما بجامعة ماينوث، في قلب فوضى هذه المرحلة شديدة الإثارة التي شهدت ذلك المزيج الغريب من النشاط الأدبي والسياسي، لا في حياة باوند وحده وإنما في حياة رهط من الأدباء. وحينما أقول إن أرينتن وضعتنا في قلب تلك الفوضى فإنما أعني أنها لا تقدم لنا حكاية سهلة أو حتى كاملة، بقدر ما تغرينا بالبحث عنها بتتبع ما اختارت أن تضعه من خيوطها في هذا الكتاب عسى أن نكون نحن هذه الحكاية بأنفسنا، أو نطمئن على الأقل إلى مغزى ما لحكاية قد تظل بعيدة من متناول أيدينا. تبدأ لورين أرينتن كتابها على النحو التالي:

"في أولى سنوات النظام الفاشي، تجمع رهط عجيب من شعراء الولايات المتحدة وإنجلترا وإيرلندا في بلدة صغيرة على الساحل الشمالي لإيطاليا. جمع بينهم ما يشبه الصداقات، وداروا جميعاً في فلك شاعر واحد ذهب إلى إيطاليا بغرض السياسة: هو إزرا باوند، الأميركي الملتهب الذي لم يصل إلى إيطاليا إلا وقد أضرم النيران على طريقه في قاعات الرسم بلندن وفي مقاهي باريس".

ذهب باوند إذن إلى إيطاليا بغرض واضح هو السياسة، كيف إذن "شكلته" إيطاليا موسوليني بحسب عنوان الكتاب الفرعي؟!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تستهل دومينيك جرين استعراضها المنشور في "وول ستريت جورنال" (24 يونيو/ حزيران 2022) لكتاب "شعراء رابالو" بقولها إن الشاعر الإنجليزي الرومنتيكي شيلي وصف الشعراء بأنهم "مشرعو العالم غير المعترف بهم"، وتقول إن شاعراً "لم يسع بحماسة تفوق حماسة إزرا باوند إلى الاعتراف. ولا شرع شاعر بمثل طموح باوند، أو كارثيته". والحق أنني لا أعرف هل يعد ذلك خلطاً أحاط بباوند في حياته وفي سيرته بعد وفاته أم إقرار واقع، أعني مسألة إقحام "الشاعر". فهل الشاعر الذي كتب "الأناشيد" وترجم "الهايكو" وقدمه إلى الثقافة الإنجليزية ومن بعدها إلى العالم كله والمجدد الذي لم تفتر حماسته ولم ترضه أو تشبع نهمه غاية جمالية والراعي الذي تعهد بعض المواهب الكبرى في تاريخ الأدب، هو نفسه المفكر السياسي الذي دفعه رفضه للرأسمالية إلى أن يقطع نصف العالم ليناصر الفاشية؟ هل ينبغي الفصل، حقاً، بين الشاعر والمنظر السياسي، أم أن مروق باوند وخروجه لا على موقف بلده في الحرب أو نظامها الاقتصادي والسياسي، بل على شطر أساسي من الحضارة الغربية كلها، هو في جوهره مروق شعري، وأن الرجل الذي خلص "الأرض الخراب" من قيود زينتها الفيكتورية البالية هو نفسه الرجل الذي أراد أن يخلص العالم من سطوة قيادة الرأسمالية؟ لا أزعم أن لدي إجابة عن هذا السؤال لأفرضها أو أعرضها، لكنني أحسب أن محض حضور السؤال قد يقينا من التناول الضحل المعتاد لشخصية باوند.

تصف دومينيك جرين كتاب "شعراء أبولو" بـ"الدراسة الرائعة المعقدة لأولى خطوات باوند نحو الهلاك، هو ورفاق رحلته، ومنهم [شاعر إيرلندا الكبير] ييتس، الذين صاحبوه في بعض الطريق، ثم محوا آثارهم". فالحق أن باوند لم يكن وحده في رابالو بإيطاليا على عهد موسوليني، ولكنه، من بين كثيرين، الذي بقي حتى النهاية، ثم لم يتنصل لاحقاً مما فعله ومما قاله.

الانتقال إلى رابالو

في عام 1924، بعد سنتين من صعود موسوليني إلى السلطة، انتقل باوند وزوجته دوروثي إلى رابالو بإيطاليا، وهي بلدة صغيرة ومنتجع ساحلي على مسافة غير بعيدة من جنوة. وكان باوند قد خرج إثر خصومات كثيرة من لندن وباريس، وبدأ كتابة عمله الأهم "الأناشيد". ويبدو أن إيطاليا كانت تحتل لدى باوند موضعاً شديد الخصوصية، فقد اختار أن يقضي سنوات حياته الأخيرة فيها، بعد إطلاق سراحه من مستشفاه الأميركي وحتى وفاته عام 1972. فلا عجب أنه خطط مبكراً لأن يجعل منها مركزاً ثقافياً للعالم. وقد كتب في رسالة بعثها إلى النحاتة نانسي كوكس ماكورماك -التي كانت تعمل على نحت تمثال لموسوليني- قائلاً إنه "سيكون من السهل للغاية جعل إيطاليا مركزاً فكرياً لأوروبا بجمع عشرة أو خمسة عشر من أفضل الكتاب والفنانين". ولا تدري هل تلاقت طموحات باوند مع الفاشية، أم أن الأول طمح إلى استغلال الثانية، أم أن الثانية نجحت في استغلال الأول، لكن المؤكد أن الفاشية كانت تقدر الأدب والفنون، أو بالأحرى تعرف أهميتهما، وترى أنه "إن كانت البيولوجيا هي تربة الفاشية، فإن التاريخ والأدب سمادها"، فكان شاعر -هو جابرييل دانونزيو- هو الذي صمم الصورة الجمالية للفاشية بالقمصان السود، ورسم بعض طقوسهم، ولكن لم يكن لدى الفاشيين برنامج عمل محدد، وكان بإمكان باوند أن يكون لهم ما يشبه بلاطاً أدبياً.

تقول دومينيك جرين إن المظهر الحديث للحياة الفاشية كان يخفي من ورائه عنفاً وتعصباً، لكن ذلك لم يثر استياء باوند، فقد كان يرى أن الديمقراطية الليبرالية هي التي قادت إلى الحرب العالمية الأولى، وأن "الاندلاع العنيف لأساليب جديدة في الشعر، وفرض نظام جمالي من لدن طاغية أدبي، والتجربة الجمالية الكلية، مقدمات لصحوة. وكان يرى الهراوات المطاطية والترحيل القسري آلاماً مصاحبة للولادة". فكتب إلى ييتس يقول "إننا نشهد بداية جديدة لحضارة".

ووافقه الشاعر الإيرلندي في رأيه، فقد كان في ذلك الوقت يرجو أن تكون الفاشية الإيطالية نموذجاً تحتذي به إيرلندا في سعيها إلى صحوتها الخاصة، بعد أن حصلت على الحكم الذاتي داخل الإمبراطورية البريطانية في عام 1922. كان "الفاشي" يبدو في ذلك الوقت أقرب إلى إنسان نيتشه الأعلى، أي الرجل القوي القادر على مقاومة تماثل القطيع. وكان ييتس يؤمن أن الغد ملك لحكم "تسلطي" يتولاه "مثقفون رفيعو الثقافة على قدر رفيع المستوى من التعليم" والتقدير للفنون. وينقل شعراء رابالو قول ييتس عام 1924 في خطبة ألقاها في افتتاح ألعاب تيلتيان -وهي نوع إيرلندي من الأولمبياد- مستشهداً بموسوليني وموافقاً إياه على "أننا سنطأ بأقدامنا جسد إلهة الحرية المتحلل"، لكن جسد ييتس نفسه هو الذي كان يتداعى، فلم يحتمل الإصابة بالإنفلونزا، ومن ثم نصحه الأطباء -بحسب ما تحكي لورين- بالابتعاد عن إيرلندا التي لا يناسبه مناخها، فخرج في رحلة بحرية مع زوجته بدأت من جبل طارق وانتهت به في رابالو عام 1928، ولو أن الإنفلونزا على الأرجح لم تكن السبب الحقيقي أو الوحيد للرحلة، وإنما الحلم الفاشي "ببعث الطاقات والدماء الجديدة هو الذي انتهى بييتس وزوجته جورجي إلى رابالو في فبراير من عام 1928".

 

في ذلك الوقت كان إزرا باوند وزوجته دوروثي يستضيفان بالفعل عديداً من المثقفين رفيعي التدريب في جامعتهما الناشئة "إزوفيرسيتي" (وهي كلمة منحوتة من اسم "إزرا" وكلمة "يونيفرسيتي" أي الجامعة)، فضلاً عن زيارات عابرة من مثقفين كبار من أمثال الناقد البريطاني أدريان ستوكس الذي زارهما مصطحباً في سيارته وفي عقله -على حد قول جرين- كتاب "انحدار الغرب" لشبينجلر. وهناك كذلك الشاعر ريتشارد ألينتن الذي تسببت له تجربته في خنادق الحرب العالمية الأولى في انهيار عصبي متأخر. وممن زاروا رابالو أيضاً إرنست همنغواي، لكنه لم ينخدع بموسوليني ورأى مبكراً إلى أين يمكن أن تفضي عبادة العنف فقال لباوند عام 1926 "إياك أن تدعوني إلى سياسة هذا الطلياني". كما تدرب على يد باوند في تلك الفترة شاعران شابان: الأول باسيل بانتنج الذي تعرض للسجن خلال الحرب العالمية الأولى لاعتراضه الأخلاقي على الحرب، والثاني هو اليهودي الأميركي الماركسي لويس زاكوفسكي الذي قال لاحقاً إن ضميره لا يؤنبه في شأن تصريحات باوند المعادية للسامية.

تقول جرين إن باوند كان يروج لنفسه وللشعر الجديد من خلال موقعه محرراً لجريدة "إل ماري" الأدبية في رابالو، وإن ييتس أصدر هو الآخر مجلته "المنفى" عام 1927. وترسم أرينتن صورة وثائقية لتبادل "التأثيرات" بين الشعراء، أو التوترات بالأحرى، وتوضح علاقة باوند وييتس التي تراوحت بين التعاون الفاتر والإدانة الصريحة، وتفسح المجال لآراء في باوند من مجايليه أولئك منها أنه كان أقل ذكاء في السياسة مما كان يتصور عن نفسه، أو وصف بعضهم له بـ"الثوري الساذج" إلى غير ذلك مما ليس غريباً على تجمعات الأدباء.

ثم انتهى كل ذلك الهياج الثقافي نهايته المعتادة بأن فترت الحماسة، وتبددت الهالات. فتنقل أرينتن عن رسام الكاريكاتير ماكس بيربوم قوله إن "دائرة الإعجاب" المحيطة بإزرا باوند أخذت تصطبغ بالحسد، فقد جعل باوند من نفسه سيد رابالو، في حين أن "ييتس كان يبتزه شعرياً"، وفي عام 1934 لم يعد من مجال لاحتمال مزيد من ذلك التنافس، لكن ثمة نهاية أخرى غير معتادة لحركة أدبية، أو لتجمع أدبي. ففي تلك الفترة تقريباً وصل هتلر إلى السلطة في ألمانيا، وانكشفت حقيقة ديكتاتورية موسوليني بعد قضائه عقداً واحداً في الحكم فلم يعد من سبيل إلى إنكارها.

عمل تاريخي جيد

يشهد ديكلان ليري (في مقالة بمجلة ذي أميركان كونزرفاتيف) للكتاب بأنه عمل تاريخي جيد، يعيد بناء حقبة لم تلق حقها الواجب من الاهتمام في تاريخ القرن العشرين الثقافي، معتمداً على يوميات ورسائل ودوريات، ولكنه يأخذ على أرينتن أنها تواجه صعوبة في الإجابة عن السؤال الأساسي: ما العمل في إزرا باوند؟ كيف يمكن أن تقيمه الثقافة الأميركية؟ أو بالأحرى: كيف تصالح الثقافة الأميركية بين كونه شاعرها الكبير وبين عداوته للحضارة الأميركية؟

على رغم غنى "شعراء رابالو" بكثير من النوادر والطرائف والنمائم التي يغرم به محبو الأدب، ينبغي للقارئ -في تقديري- تخليصه من كل ذلك، على ما فيه من تسلية، للوقوف حقاً على ما ذهب بباوند وييتس إلى هناك. ولعل ذلك أن يكون مدخلاً لإجابة سؤال ليري.

كتب باوند مقالة في مجلة أسسها في رابالو أن "أميركا هي أضخم قفص للقردة شهده العالم". وقال مبرراً تأسيسه لتلك المجلة "إنني أريد مكاناً يمكنني أن أتكلم فيه بحرية في ما يتعلق ببعض خرافات الشعب الأميركي وأصنامه". وكتب في موضع آخر عن عيب جسيم في الأمة الأميركية هو افتقارها إلى "أي ميل، في أي مكان أو أي شيء، أو أي تفكير في أي شيء متصل بأي مبدأ أساسي مهما يكن".

أما ييتس فكان ينكر بشدة "الفردانية الخبيثة التي كانت أميركا تصدرها إلى أوروبا"، وكتب أن "النظام الاجتماعي ينشأ عن نضالين، نضال الأسرة ونضال الفرد. والنضال الأكثر تأثيراً في خيالنا هو الذي يؤسس مواقفنا السياسية. فإن تأثر الخيال بالنضال الفردي، نصر على تكافؤ الفرص، وخضوع الوظيفة للموهبة، ونرى في المرتبة والثروة ظلماً وإجحافاً، وإن كان الخيال أكثر تأثراً بنضال الأسرة نصر على ما يحافظ على كل مكتسبات هذا النضال، من مزايا اجتماعية، وحقوق ملكية".

تعلق أرينتن على هذه المقالة بأن ييتس في أعقاب الحرب العالمية الأولى وأوائل الحرب الإيرلندية من أجل الاستقلال تخيل ثقافة كلية تحتضن الأدب والمسرح وحتى الاقتصاد وكل ما ينشأ عن مبدأ جوهري هو أن "الأسرة وحدة الحياة الاجتماعية، وأصل الحضارة، وسر الحفاظ عليها". ولا أعرف إن كان لهذه الإشارة مسوغ، لكنني ألاحظ أن خطاب فلاديمير بوتين الذي أعلن فيه قبل أسابيع ضم بعض المناطق الأوكرانية إلى روسيا قد شمل أيضاً الإشارة إلى أن حربه مع الغرب إنما هي أيضاً من أجل الدفاع عن "الأسرة".

يقول ديكلان ليري، محقاً، إن أرينتن لم تتعامل في كتابها بجدية مع إيمان شعراء رابالو الراسخ بأنهم في تلك العقود الأولى من القرن العشرين كانوا يعيشون نهاية حضارتهم، وأنهم كانوا ينشدون ميلاداً جديداً من رفات الغرب، وبإغفال هذا لا يمكن فهم المساعي الحقيقية التي أدت بعقلين كبيرين كييتس وباوند إلى ذلك الاقتراب الخطر من الديكتاتور الفاشي.

لا يبدي ديكلان ليري أي دهشة من ذلك التقارب، فهو يرى أن الشاعرين الكبيرين كانا يسعيان إلى "بناء نسخة من العالم القديم بالقوة" وإن ذلك السعي كان "نظير مشروعهما الشعري الحداثي". ويوضح ليري أن كلاً من موسوليني وباوند أرادا إحياء التراث، على أن يكون محض دعامة لرجل عظيم، يعيد تشكيله بإرادته، ويوجهه في وجهته، لذلك أراد باوند أن يستعيد من الماضي نوعاً معيناً من الحمية، لكن من دون استعادة أسبابها، وهي في تقدير ديكلان ليري "المسيحية"، وهذا هو الخطأ القاتل "الذي لوث تركة باوند إلى الأبد وأوشك أن يلوث تركة ييتس. لقد رفض الاثنان فردية الليبراليين الفاسدة وجماعية الاشتراكيين الفاسدة، وانفتحا على قوة جديدة تتألف من أخبث عناصر الاتجاهين".

وينهي ديكلان ليري -وهو في النهاية مدير تحرير مجلة اسمها "المحافظ الأميركي"- طرحه بقوله إن معانقة باوند وييتس للفاشية كانت النتيجة النهائية للرغبة في جني ثمار التراث من دون إخضاع نفسيهما للتراث، أو "يمكننا القول إن مشكلة رابالو (وغيرها) هي أن باوند وشركاه لم يكونوا رجعيين بالقدر الكافي".

لعل اللحظة التي نعيشها الآن، إذ يتجدد، أو يتأكد، انقسام العالم إلى غرب وشرق، أو ديمقراطية واستبداد، هي اللحظة المناسبة التي نستعيد فيها تراث رابالو وندرسه، بعد قرابة مئة عام على انتهاء صخبه كله، ربما بهدف تحديد الموضع الذي يجب أن نكون فيه، فإن لم يكن ذلك، فلنعرف على الأقل أن الخلط الراهن قديم، وأن العقود الماضية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تكن أكثر من هدنة لالتقاط الأنفاس وترتيب الأوراق واختيار الجبهة التالية.

العنوان: The Poets of Rapallo: How Mussolini"s Italy shaped British، Irish، and U.S. Writers

تأليف: Lauren Arrington 

الناشر: ‎ Oxford University Press

المزيد من كتب